الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّوريةطيب تيزيني

مرجعية أم مرجعيات؟

طيب تيزيني
أثار الخطاب الذي ألقاه المرجع الأعلى لمنظومة الأفكار والقيم التي ينتجها المجتمع الإيراني الراهن، مسائل وأسئلة ومعضلات كبرى ما زالت مجموعة من العلوم الاجتماعية والسياسية تشتغل عليها، وهي – في الأصل – تشكل عقداً في مسار التغير الاجتماعي على نحو العموم والخصوص. يبرز من ذلك سؤال “المرجعية” الخاصة بالمجتمع. ومن سياق الخطاب، فهم أن خامنئي طرح السؤال المذكور بوصفه الإطار الكلي الذي يمنح منه أفراد المجتمع وفئاته وطبقاته ومجموعاته كل ما يتصل بشؤون وجودهم الاجتماعي من الاقتصاد إلى الفن والجمال مروراً بالقيم الأخلاقية ومفاهيم الحق والقضاء وبحقوقهم المدنية والسياسية إضافة إلى منظوماتهم الفلسفية والسوسيوثقافية إلخ.
وقد حدد ذلك عبر رفض الإقرار بشرعية ما يعتبر “انزياحاً أساسياً” معنياً أو دلالياً أو شرعياً وغيره عن بنية ذلك الإطار بدرجة معينة أو بأخرى، وبتعبير معيّن أو بآخر. ويلاحظ أن القول بتلك الكيفية القطعية وذات البعد الواحد التي تقوم على أساسها العلاقات المجتمعية الكلية والجزئية، تفترض وجود نمط من العلاقة بين المرجعية المذكورة “الإسلامية أو غيرها” وحياة الأفراد والجماعات يمكن التعبير عنها بـ”الوعي الشمولي المطابق”.
وإذا حدث أن خرج فريق اجتماعي عن ذلك الوعي إما بتجاوزه نقدياً وإما بالتخلف عنه وإما بتلفيق صيغة أخرى مكونة منه ومن عناصر أخرى في الداخل والخارج، فإن الأمر حالئذ يفصح عن نفسه بمثابته “شبهة” ضمن بنية المجتمع المعني. وهنا يمكن أن ينفتح الطريق على سلسلة من أحكام القيمة، التي قد ترى في تلك “الشبهة” خروجاً عن الخط المرسوم، وكذلك عليه. وفي مثل هذا الحال يمكن أن تظهر أحكام “شرعية” تدينها من حيث هي غريبة عن المجتمع المذكور وتستحق العزل أو المكافحة، وما يلحق بذلك من عقابيل. إن هذه الظاهرة يمكن أن توجد في كل المجتمعات ضمن أسباب متعددة منها أن تهيمن فئة على مجتمع باسم أيديولوجيا ذات طابع شمولي، تبرز باسم كونها المرجعية العليا والوحيدة والملزمة، في آن. ويتعقد الأمر أكثر حين يتعلق بنمط من “أيديولوجيا” دينية تطرح خطابها بمثابته خطاباً “معصوماً” لا يأتيه الباطل لا من خلفه ولا من أمامه، حينئذ وحين يهيمن هذا الخطاب في الحقل السياسي، يظهر خصومه خصوماً للإله ولما يتعلق به من حيثيات نبوية أو أخرى مستمرة – في الحالة التي نحن فيها – “ولاية فقيه” تنتهي إلى “إمام منتظر” وغيره. وهنا تعاد بنينة الخصومة القائمة على ذلك الأساسي الأيديولوجي، لتظهر وكأنها تجديفاً وخروجاً على المرجعيات الدينية الشرعية يستحق العقاب والحرمان.
اكتشاف “المجتمع السياسي المدني” ومعه العلم السياسي، قدم خدمة جلّيلة لضبط العلاقة بين الروحي والزمني، بحيث يكون الأول مطلقاً لضمير البشر ذي المصادر المتعددة، ويكون الثاني حلبة لاختلاف مصالحهم ولصراعاتهم المفتوحة. وهذا ما يمكن استنباطه من القرآن الكريم “والكتب المقدسة الأخرى” في واحدة من قراءاتهم المحتملة، التي تُلحف على مفهوم “المصلحة” وفي هذا الحال تتحرر “المرجعية” من النظر إليها على أنها ذات بنية واحدة وحيدة، لتتحول إلى حالة مفتوحة. وهنا يقول فخر الدين الرازي في “تفسيره” بأنه لو كان القرآن محكماً بالكلية لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد. وذلك ما ينفر أرباب المذاهب ومن ثم لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولكنه ترك الباب مفتوحاً أمام “تعددية المرجعيات الفهمية” في المجتمع البشري. في مثل هذا الحال، تنطلق حرية البشر في اكتشاف مصالحهم ومطامحهم وأنماط مستقبلهم من الكثير من المرجعيات المحتملة التي تسهم في إنجاز مهمتين اثنتين كبيرتين، تغطية المصالح المنبثقة من حياة الناس على نحو ينتج لهؤلاء مسوغات أفعالهم أيديولوجياً ونفسياً وأخلاقياً من طرف، وخلق مشاعر متوهجة لدى أولئك بالكرامة والحرية والاستقلال من طرف آخر.
إن حديثاً عن مرجعية واحدة لملايين من الناس تستمد شرعيتها الأحادية من سلطة سياسية أيديولوجية عليا، إنما هو أمر قد يستبطن الآن أو غداً شروخاً لا تندمل إلا مقابل إنجاز بدائل تستجيب لروح العصر، فبدلا من طاعة آلية يقدمها بشر لبشر “من طراز آخر”، لم يعد هناك سوى الإقرار الأيديولوجي والعقلي بحرية مفتوحة، وتحت لواء وحدة عامة لوطن يبرز للمواطنين بوصفه موطئ فعل تاريخي ديمقراطي لهم. والبحث العلمي مع الممارسة المجتمعية الحرة يمثلان بوصلة ترافق البشر في نشاطهم ضمن مجتمعات جديرة بالبقاء بقدر ما تؤسس لثلاثية الحرية والكرامة والكفاية المادية.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى