الحراك الشعبي الإيراني وصورة المجتمع المدني
راسم المدهون
[ 1
مهما تكن نهايات الحراك الصاخب في إيران اليوم، يمكن القول أن مرحلة جديدة تماما قد بدأت في “الجمهورية الإسلامية”، سوف تؤرّخ ويؤرّخ بها عند الإشارة إلى التحوّلات الكبرى في المجتمع وخياراته، والأهم في قدرة “الثورة” على الاحتفاظ بوهج تلك الأيام التي كان خلالها الجمهور يندفع في مواجهات دامية مع “السّافاك” أولا، ومع قوّات الجيش لاحقا.
إيران اليوم تقبض على ذاكرتها وتستعيدها، وليس بوسع المراقب مثلنا، تماما كما ليس بوسع “أهل الثورة” أنفسهم، أن يقصي من ذهنه إغراء المقارنة بين مظاهرات الأمس وتلك التي جرت في العاصمة طهران وغيرها من المدن في أعقاب إعلان “النتائج الرّسمية” للإنتخابات الرّئاسية الأخيرة.
في الحالتين ثمة غضب يشتعل في النفوس، ويدفع الغاضبين إلى النزول للشوارع للتعبير عن الرّفض، رغم معرفتهم الأكيدة أنهم سيواجهون القمع المباشر ذاته، والذي واجهته مظاهرات الجيل السابق، بغض النظر عن التبريرات السياسية التي سيقت آنذاك للقمع، أو التي تساق اليوم، والتي يمكن في الحالتين وضعها تحت عنوان هام: أصبح سقف النظام الشّمولي منخفضا عن طموحات محازبيه، وعن عموم طبقات الشعب، ما يدفع فئات اجتماعية متزايدة إلى النزول للشوارع في حركة احتجاج سلمية لا يمكن تفسيرها بتلك التفسيرات التبسيطية التي انهمرت تتحدّث عن “مؤامرة دولية” من أعداء الثورة الإسلامية والمتربصين بها.
مع ذلك ثمة في الواقع فوارق جوهرية: في نهايات عهد الشاه محمد رضا بهلوي كانت وسائل الاتصال محدودة، بل قاصرة بالقياس لما يعيشه عالم اليوم، ولهذا السبب بالذّات أمكن نقل مشاهد وصور وقائع قمع كثيرة تعرّض لها المحتجون في الجامعات والشوارع، وأمكن بالذّات تسليط ضوء باهر على “العناصر المدنية” التي تحدّثت عنها قوى المعارضة والمتظاهرون، إذ عرضت شاشات الفضائيات العالمية كثيرا من أشرطة فيديو أمكن لمواطنين عاديين التقاطها بعدسات أجهزة الهاتف المحمول، فيما كانت الرّقابة تشدّد على إبعاد مصوّري ومندوبي التلفزيونات العالمية وتمنعهم من التواجد في أماكن الأحداث.
في الفوارق أيضا تلك المفارقة الهامة، بل التي نجزم أنها الأبلغ في أية مقارنة راهنة أو مستقبلية: القمع في الحالة الأولى قامت به أجهزة النظام الإمبراطوري المتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، فيما القمع الجديد تمارسه القوى المناهضة تلك الأيام ضد بعض أبنائها ومعهم المجتمع، وهي حالة جديدة وغير مسبوقة في مجتمع “الجمهورية الإسلامية”.
ما الذي يحدث في إيران إذن ؟
لرؤية ما حدث أعتقد أن من الضروري العودة إلى فترة رئاسة الرئيس محمد خاتمي للدّولة الإيرانية، وهي الفترة التي شهدت صراعات ضارية بين خاتمي والإصلاحيين من جهة، وبين من يطلقون عليهم هناك إسم التيار المحافظ. هذه الصراعات إنتهت كما نعرف بفشل خاتمي، واستمرار المحافظين في القبض على زمام السلطة هناك.
في أحد أهم تعليقاته على تلك المرحلة قال الرئيس السابق محمد خاتمي أنه لا يرى فائدة أو مبرّرا لإجراء انتخابات لاختيار رئيس للجمهورية ما دامت السلطة الفعلية ستظل في يد “المرشد الأعلى للثورة”، وهي الحالة التي تجعل رئيس الجمهورية المنتخب يظلُ محكوما بسقف سياسة المرشد الأعلى وتوجّهاته.
سيقول البعض إن الكل يتحركون تحت سقف النّظام و”قوانينه”، غير أن هذا في الشكل وحسب، أما الوقائع على الأرض فتذهب في سياقات يصعب معها التسليم بذلك. فالحراك السياسي الذي قام به السيد علي أكبر هاشمي رافسنجاني ذهب إلى حدود تقديم قراءة “غير متداولة” لقوانين النّظام ذاته، قراءة تقول بضرورة وجود “هيئة قيادية عليا” بدلا من “المرشد الأعلى” الذي رأى رفسنجاني في تصريحات علنية أنه لا يجوز أن يكون طرفا في الصّراعات الجارية ولا أن ينحاز إلى هذا الطّرف أو ذاك، وهي واحدة من المواقف الفاقعة في تحدّيها لهيبة المرشد ومكانته كضامن للثورة ووريث لموقع الإمام الرّاحل آية الله الخميني، بل إن بعضا من كبار “فقهاء الثورة” ذاتهم باتوا يعلنون عدم صحّة وجود مبدأ “ولاية الفقيه” من أساسه، وهو جدل بغض النظر عن صدقيته من عدمها يعكس لأول مرّة أن “الولي الفقيه” لم يعد فوق النقد، مثلما لم تعد صورته بذات البريق والمهابة اللّذين احتفظت بهما طيلة العقدين الفائتين. هو نقد يتصاعد على إيقاع التظاهرات الصّاخبة والدم المراق في الشوارع، والذي يدفع بدوره نحو مزيد من الجدل الساخن الذي لا يقلّل من شأنه وتأثيره الكلام الكثير عن قوّة النظام وتماسكه، فالمسألة لا تدور هنا عن القوّة والضعف بمعنييهما المادّيين المباشرين، بقدر ما تتعلّق بالمراجعة الشعبية الجدّية الأولى والأهم لنظام الثورة، والتي تقع في الشوارع حقا، ولكنها تقع أيضا في المؤسسة الحاكمة، وفي أهم أروقتها وعلى لسان بعض كبارها الذين شغلوا مناصب مرموقة في هذه المرحلة أو تلك من عمر النظام.
من اللافت والمهم الانتباه هنا إلى حقيقة أن الحراك الشعبي الإيراني قد حدث تماما لأسباب داخلية تتعلّق بالذات بالأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، كما بمساحة الحرّيات الضيّقة، ثم جاءت الانتخابات الرئاسية الأخيرة وما أعقبها من اتهامات بالتزوير لتكون القشّة التي اشتعلت فأشعلت السّهل كلّه. هي احتقانات مجموعة من الأزمات ولّدتها سياسة تقوم في ركنها الأساس على اعتماد البرنامج النووي كعنوان للنهوض، في مواجهة برنامج آخر يمكن أن يقوم على تطوير الاقتصاد والتنمية الحقيقية ورفع مستوى المعيشة، وهي حالة تناقض أوجدت الفجوة بين السلطة وشعبها، ودفعت إلى اندفاع الجمهور فور الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
[ 2
مع كل ذلك، بل وبسببه وبالاستناد إليه، يمكن لنا رؤية الفارق الهائل في حيوية الحالة الشعبية الإيرانية بالمقارنة مع مثيلتها في البلدان العربية عموما. ومن يتأمّل الحالتين بموضوعية يلحظ أن الجماهير الإيرانية تميل في حراكها إلى التعبيرات السلميّة الديمقراطية ذات الجذور المدنية، والتي تشير إلى قوّة حضور مؤسسات المجتمع المدني وقوّة حضور المفاهيم الديمقراطية رغم سنوات بلغت العقود الثلاثة من العيش في ظل الدولة الشمولية ومحظوراتها الكثيرة.
ففي مقابل حالات الاحتقان الشعبي العربي التي لا تثمر إلا عن التشدّد الأصولي، وما ينتجه من حركات تكفيرية إرهابية، كشف الحراك الشعبي الإيراني عن لغة سياسية أكثر اقترابا من الحضارة وروح العصر..لغة حملت المضامين السلمية على روافع سلمية تؤمن بأهمية السياسة بوصفها تعبيرا مدنيا عن حاجات المجتمع وتطلعاته الرّاهنة والمستقبلية، وهي حالة لا نملك إلا تحيّتها والإشارة لها بالإعجاب والتقدير الكبيرين.
ذلك لا نراه معزولا عن حجم تأثير الثقافة بمعناها الواسع والشامل. فالمجتمع الإيراني إذ عاش في ظل الدولة الشمولية لم يفقد رغم كل شيء حالة الفوران الثقافي التي يمكن ملاحظتها في الأدب والفن، خصوصا في السينما وأساليب تعبيرها الحديثة والمواكبة للعصر ونتاجاته الأجمل، فيما شهدنا في المقابل انحدارا عربيا على كافة الصُعد والميادين أوصلنا إلى الحالة الرّاهنة بكل ما تتسم به من جمود.
إيران تتحرّك في اتجاه مستقبل يمكن أن تكون صورتها فيه أجمل.
إنه ربيع آخر لملايين انتفضت وأسقطت نظام الشاه، وها هي تتحرّك لتطوير أشكال حكمها ودولتها فهل نحلم بانتقال العدوى إلى شعوبنا العربية المنكوبة بكل شيء والمحرومة من الحد الأدنى من حقوقها الديمقراطية كما من وسائل عيشها البسيط ؟
سؤال برسم المستقبل الذي يظلّ مفتوحا على الإحتمالات كلها.
المستقبل