اهتزاز الشرعية الثورية الإيرانية
حسن شامي
هناك رواية قابلة للتصديق جرى تناقلها قبل ثلاثين عاماً تقريباً، في بداية تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية المنبثقة من ثورة شعبية عارمة لا يشكّ أحد في سعتها الاجتماعية وتمثيلها لقطاعات عريضة من المجتمع الإيراني وقواه المتعددة المشارب والتطلعات والأمزجة. الرواية هذه هي حديث نسبته أوساط عدة، من بيهم زائرون ذهبوا لمعاينة أحوال الثورة في طور انتقالها الى الدولة، الى الإمام الراحل الذي قاد الثورة وائتلاف قواها ومنظماتها، أي روح الله الخميني.
وبحسب رواية الحديث هذه، فإن الإمام الخميني قال لأول رئيس منتخب للجمهورية الإسلامية، وكان مرشحه علناً، وهو أبو الحسن بني صدر، بأنه لا يوافقه فقط على أن تكون الحكومة التي ينبغي تشكيلها ذات طابع مدني، بل هو يفضّل استبعاد المشايخ قدر المستطاع لأنه أدرى بشعاب عالمهم الحافل بقدر لا يستهان به من التحاسد والتباغض والمناكفة وسوق الاتهامات كيفما اتفق وتأليب بعضهم على بعض… الخ، وان كان يعرف ويقدّر دورهم وموقعهم، على تباين وتفاوت بينهم، في تنظيم الاحتجاجات الشعبية الثورية وفي نشر نداءات وخطب الإمام الموجهة من منفاه في ضاحية باريس، عبر ما صار يعرف اصطلاحاً بثورة أشرطة التسجيل (الكاسيت).
وتقول الرواية أيضاً إن الخميني نبه مرشحه القادم من مزاج يساري عالمثالثي مطعّم بثقافة إسلامية إيرانية عريضة، الى ضرورة عدم الاستخفاف بما يمثله الإسلام عموماً في مخيلة الفئات الواسعة التي شاركت في الثورة، مما أوصل عدداً كبيراً من رجال الدين الى المجلس التشريعي المنتخب، ناهيك عن المؤسسات الكبرى مثل مجلس صيانة الدستور ومجمع تشخيص مصلحة النظام، والهيئات القضائية. من شأن الرواية المذكورة أن تعزز رواية أخرى متممة من حيث التسلسل الحدثي والتاريخي، ومفادها ان الرئيس اللبق والمهذب واللطيف ارتأى لدى تعرضه لنيران متقاطعة، بعضها صادر عن رجال دين يطمحون الى مكانة أكبر في تسيير شؤون البلاد، وبعضها الآخر والأشد إيلاماً صادر عن البيئات الأقرب اليه مثل منظمة مجاهدين خلق وفدائيي خلق وحزب توده الشيوعي وهيئات ليبرالية أخرى، ارتأى أن يتقرّب من أوساط رجال الدين. وإذا عطفنا هذا المسلك على مناخ الاضطراب وتعجيل الحسم والتعبئة، اللذين أحدثهما اجتياح القوات العراقية للأرض الإيرانية وحدودها الدولية، مع دعم صريح من قوى كبرى تراوحت رغباتها بين خنق الجمهورية الناشئة في مهدها وبين رعاية حرب مديدة تستنزف البلدين الغنيين بالنفط وبروابط تجعل تاريخهما على قدر من التداخل، تكون قد اجتمعت شروط تؤدّي الى تهميش بني صدر وتعاظم دور رجال الدين في تجييش شعب المساجد والمزارات ومراكز التطوع (نشأت قوى المتطوعين الباسيج آنذاك، وطوال السنوات الثماني للحرب العراقية – الإيرانية).
هذا التمهيد السريع جداً، لضيق المجال، هو طريقة للقول ان الشرعية الثورية، الرمزية والفعلية في آن، التي شهدت تصدعاً خلال تظاهرات الاحتجاج الحاشدة على ما اشتهر باسم تزوير الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة، باتت موضع اختبار ومساءلة يتعديان الحدث الانتخابي نفسه، وبغض النظر عن التسوية التي قد يجري التوصل اليها بين القوى الإيرانية الناشطة داخل النظام نفسه وخارجه لوقف الاضطرابات. والحال أن مشهد الصدامات الأخيرة والتصريحات والمواقف التي رافقتها حفل بمفارقة بليغة. ففي مقابل لجوء بعض أركان النظام ومرشحهم الفائز الى إلقاء تبعة الاحتجاجات والاضطرابات على قوى خارجية تتآمر على الجمهورية الإسلامية الثورية، يعتبر قادة المعارضة البارزين أن هذه الاحتجاجات ومعها التعبير عن «المظلومية» من تقاليد الثورة نفسها، ما يجعل قمعها بعنف انتهاكاً لحق وطني وشعبي، وشرعي بحسب فتوى أصدرها أخيراً أحد مؤسسي الجمهورية الإسلامية وأحد وجوهها البارزين، أي آية الله حسين منتظري).
والحق ان المفارقة الدائرة على ارث الثورة الإسلامية وورثتها يتغذى من مفارقات لابست ولازمت بهذا القدر أو ذاك، المشروع الثوري، الإسلامي والجمهوري، منذ بداية التأسيس وخلاله.
فمنذ البداية حرصت الثورة الإسلامية على الجمع بين إصرارين ومحاولة التوليف بينهما: التشديد على الطابع الإسلامي، على الهوية الإسلامية إذا شئتم، للثورة ورؤيتها ومشروعها، وعلى الحداثة السياسية في تنظيم المجتمع وقواعد تمثيله عبر الانتخابات واقامة دستور ونظام جمهوري يكفلان التنافس تحت سقف الهوية الإسلامية العريضة، مما حمل البعض على الحديث عن ديموقراطية دينية (الكاتب الفرنسي ريجيس دبريه مثلاً). سنضع جانباً تعريفات اجمالية لهذه الحالة مثل «تحديث الإسلام» أو «أسلمة الحداثة». سنقول إن قدراً كبيراً من التجريبية يلامس هذه المحاولات التوليفية غير المقطوعة الصلة عن تقاليد أصول الفقه وأدبيات السياسة الإسلامية. وهذا التجريب أطلق حراكاً ثقافياً واجتماعياً غير مسبوق مع بقاء الحدود بين المدارين متحركة وعائمة ومطاطة.
وتندرج نظرية ولاية الفقيه، والانقسام حولها بين المرجعيات الدينية الشيعية نفسها، في هذا السياق. فبقدر ما كان المؤسس الخميني يتطلع الى تحديث المؤسسات السياسية ودمقرطتها، تعاظمت الحاجة الى نصاب يكفل الهوية الإسلامية للحراك والتمثيل السياسيين ويضع حداً أو سياجاً للانفتاح على الحداثة السياسية وآليات عملها. وبهذه الطريقة استنهضت التجريبية الثورية الجمهورية مناظرات، نقاشات ترقى الى أيام ثورة المشروطية (الدستور) بين عامي 1905 و1909، وربما الى فترات سابقة عليها وانقسام رجال الدين والدنيا حولها في ما يعرف بمسألة ولاية الأمة.
هكذا، في ظل المفارقات التي لعلها محاولات التجريب، ازدهرت المدن وضواحيها، أكثر من السابق، وانخرطت النساء المحجبات في الحياة العامة والعمل والدراسة (أكثر من ستين في المئة من طلبة الجامعات والمدارس هم من الفتيات، ونسبة النساء الفائتات في البرلمان كانت تفوق نسبة تمثيلهن في دول أوروبية عالية الصياح) من دون أن يعني ذلك تحقيقاً للمساواة الحقوقية بين الجنسين. يستحسن إذاً أن نقارب الأمور من هذه الناحية، وألا نلتفت كثيراً الى تهمة التآمر الخارجي، وان كان هذا ممكناً في ما يخص بعض الهيئات والأفراد الناشطين تحت العباءة الفضفاضة والواسعة وذات الجيوب الكثيرة للإصلاحيين ولما صار يطلق عليه اسم المحافظين وحلقات ضائعة يحلو للبعض أن يلخصها في صراع مكتوم بين المرشد وبين الرجل الثاني للنظام، أي هاشمي رفسنجاني. وهذا الغموض جعل سوق الاشاعات تزدهر، وإذا كان هناك تزوير، فقد يكون صحيحاً أنه ليس بالحجم المعلن عنه في أرقام تنسبها وسائل إعلام ومواقع إلكترونية الى وزارة الداخلية الإيرانية ويظهر فيها ان المعركة الانتخابية كانت بين موسوي وكروبي. حول هذه الانتخابات ننصح بقراءة مقالة الزميل حسام عيتاني (الحياة، تيارات، في 21 حزيران/ يونيو الجاري).
الحياة