إيران: ثمّة أمور تتغيّر
زياد ماجد
لا يدّعي هذا النص تقديم قراءة متماسكة للحدث الإيراني بقدر ما هو يحاول عرض مجموعة عناصر يحتويها مشهدا الغضب الشعبي والصدام السياسي أو هما يؤشّران لبروزها داخل الجمهورية الاسلامية.
– العنصر الأول، مفاده أن الانتفاضة التي فجّرتها الانتخابات هي أبعد من كونها ردّاً على أي تزوير حصل، وهي تعبير عن غضب أناس (نصفهم وُلد بعد العام 1979) طفح كيلهم من كبت الحرّيات ومن تراكم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية ومن تردّي مستوى الخطاب والممارسة السياسيّين، ومن احتمال استمرار عيشهم تحت كابوس “الحكم النجادي” لأربع سنوات جديدة.
وذلك لا ينفي بأي حال كون الانتفاضة قد بدأت نتيجة التزوير الفظّ والمستفزّ الذي تخطّى حدود التلاعب بصناديق أو تعديل نتائج دوائر ليتحوّل (بحسب أحد أعضاء “مجلس صيانة الدستور”) الى “إضافة” 3 ملايين صوت على عدد الناخبين الإجمالي في 50 مدينة، أو الى “تبديل” مزاج 49 في المئة ممّن كانوا يصوّتون للإصلاحيين في الماضي (في دورتي رئاسة محمد خاتمي وحتى في دورة 2005) و”تحوّلهم” هذه المرة الى نجاد، أو الى نيل الأخير “أصوات 100 في المئة” ممّن يصوّتون للمرة الأولى في العديد من المناطق، أو الى “فوز” نجاد بأكثرية أصوات الأذريين واللور في حين أن هؤلاء لم يصوّتوا مرة في الاستحقاقات الأخيرة لصالح المحافظين، علماً أن مير حسين موسوي الأذري ومهدي كرّوبي اللوري كانا يتقدمان بفارق كبير في استطلاعات الرأي بينهم، أو حتى الى “فوز” نجاد في طهران نفسها وهي من أكثر المدن اعتراضاً على سياساته وخطاباته في السنوات الماضية وصوّتت ضد اللائحة المدعومة من قبله في الانتخابات البلدية أواخر العام 2006!
– العنصر الثاني، أن الأزمة اليوم ذات وجهين: واحد يعبّر عنه الشارع في حراكه ومواجهته السلطة الامنية والسياسية، والثاني يجسّده الصدام داخل “الاستابليشمانت” بين قادة محافظين وآخرين إصلاحيين، لا يستطيع أحد منهم التشكيك بمشروعية انتماء خصومه الى “الثورة الإسلامية”، لا بل يمكن للإصلاحيين المزايدة قرباً شخصياً الى قائد الثورة الخميني، وجزء منهم كان من المحيطين به طيلة الثمانينات. وهذا يعني أن الأزمة ولو خمدت لفترة، تبقى قائمة داخل النظام نفسه، ووسط قيادات الصف الأول فيه. ذلك أن المعسكر الإصلاحي، على تنوّع مكوّناته، ليس مرتبطاً بشارع خارج المؤسسات الرسمية فحسب، بل هو يحشد رئيساً سابقاً (خاتمي) ورئيس وزراء مرشّحًا للرئاسة (مير حسين موسوي الذي تولّى رئاسة الوزراء في سنوات الحرب مع العراق) ووزراء ووجوهاً بارزة منذ الثمانينات (مهدي كروبي ومحتشمي وغيرهما)، إضافة الى أحد مهندسي النظام وتوازناته لأكثر من عقدين، هاشمي رفسنجاني، النافذ حتى في بعض الأوساط المحافظة والمدعوم من أكثرية أعضاء مجلس الخبراء الذي يرأس، وهو الهيئة القادرة على عزل المرشد الأعلى للجمهورية.
– العنصر الثالث، وهنا ربما أخطر الأمور وأهمّها، أن ولاية الفقيه عادت الى واجهة النقاش بعد أن كانت صفحة الاعتراض عليها وعلى صيغتها بعد وفاة الخميني قد “طُويت”، ووُضع منتظري أبرز المعترضين على تولّي السيد الخامنئي لها قيد الإقامة الجبرية. هذا يعني، وبمعزل عمّا ستؤول إليه الأيام المقبلة، أن موقع الخامنئي كمرشد أعلى للثورة ودوره صارا موضع مساءلة ولم يعد القادة السياسيون يخشون التشكيك بشرعيّتهما. ولعلّ تصريح موسوي حول العدالة كشرط للحكم الصالح وحول الدستور وحق الإيرانيين في التظاهر والتعبير عن رأيهم، وحول رفض الكذب والخداع، وحول حماية قيم الجمهورية وعدم التعرّض لها بحجّة قيم الثورة الإسلامية، تشكّل رداً على خطبة الخامنئي الذي تحوّل الى لاعب سياسي يدعم طرفاً ضد آخر، وفقد الى حد بعيد “مقامه” الترجيحي أو التحكيمي أو المرجعي.
وإن عطفنا على الأمر تواصل رفسنجاني العلني بالسيد السيستاني (المرجع الشيعي المقيم في النجف)، إضافة الى ما يحكى عن بدء مشاوراته مع أعضاء مجلس الخبراء للبحث في إقامة قيادة جماعية تحلّ محلّ المرشد، خلصنا الى أننا أمام لحظة تاريخية قد تعدّل ممارسة سلطة ولاية الفقيه بوصفها “مُلك فرد”، أو على الأقل تجعل الرفض العلني لها أقل صعوبة داخل إيران وخارجها.
– العنصر الرابع، أن مراكز نفوذ داخل المعسكر المحسوب على المرشد صارت متردّدة في السير خلفه تغطيةً لنجاد. ولعل الأخبار عن إقالة عدد من قادة الحرس الثوري الرافضين قمع المتظاهرين، أو عن مواقف رئيس البرلمان علي لاريجاني الداعية للتحقيق في ملابسات فتح النار على المواطنين، أو حتى عن تصريحات المرشح المحافظ حسن رضائي التي تشير الى تلاعب في الأرقام والنتائج (تعرّض هو نفسه له)، تؤشّر جميعها الى حال من الارتباك رغم الاختباء خلف مظاهر القوة البوليسية والقمعية الكلاسيكية في كل أنظمة الاستبداد.
– العنصر الخامس، أن “البازار” وهو تاريخياً فاعل أساسي في التحوّلات السياسية قد ضاق ذرعاً من نجاد وشعبويّته، ومن تداعيات سياساته الخارجية العازلة إيران اقتصادياً وتجارياً عن معظم العالم الغربي، قد يتحرّك دعماً للإصلاحيين (وعلاقة أركانه برفسنجاني شهيرة)، وسنرى اليوم وفي الأيام القادمة حجم تجاوبه مع الدعوات الى الحداد والإضراب العام، وفي ذلك ما قد يكون مؤشراً الى أخذ الأمور طابعاً تصعيدياً أو تسووياً ليس سهلاً تقدير مؤدّياتها (في الحالين).
– العنصر السادس، أن إيران في مشهدّيتها الراهنة حيث يرفع شبّان وشابات أصواتهم وآمالهم حاملين اللون الأخضر والرغبة في الحرية، وفي عبور هؤلاء عبر “العولمة” والتكنولوجيا أسوار الحصار المفروض على الإعلام التقليدي من قبل سلطات الباسيج السوداء، واستخدامهم “التويتر” و”اليوتيوب” و”الفايس بوك” والهواتف المحمولة وكاميراتها، تتصالح مع الكثير من الشعوب والمجتمعات، التي لجهل أو تعصّب أو عنصرية أو خوف، لطالما اعتبرتها بملايينها السبعين، على صورة الحرس الثوري وعلى صورة الميليشيات التي صدّرها الحرس الى دول قريبة أو بعيدة.
إيران هي اليوم إذن على مفترق طرق.
قد تنتصر انتفاضة ناسها، وقد تُهزم مؤقتّاً. لكنها في الحالين، تذكّرنا أن الإيديولوجيات جميعها، إن نادت بجنّة الأرض أو بجنّة السماء، لا تعوّض غياب الحرية ولا تُغني عن هوائها وعن الانتصار لها، كاملة أو على “جرعات”…