هل ستنجح إيران في ما فشل فيه غيرها؟
راشد الغنوشي
المتابع لمسيرة تاريخ الإسلام لا يمضي بعيدا حتى يكتشف ما أثله الإسلام في الأمم التي دانت به من منجزات حضارية باهرة على كل صعيد، إن في المجال العلمي أو الأدبي والفلسفي أو القانوني، كما لن تعزب عنه منجزات قرنين على صعيد الإصلاح الشامل الذي ظلت مشاريعه من أجل النهوض اكتسابا لناصية البحث العلمي والتقدم الصناعي واستقلال القرار السياسي، تتعرض بشكل دوري ثابت لعمليات إجهاض تتولى كبرها القوى الغربية المتغلبة؟
فهل ستتبع التجربة الإيرانية نفس مسار التجارب السابقة منذ محاولة محمد علي، لتقف حسيرة أسيفة أمام واقع الهزيمة المر؟ أم سيكون حظها أسعد وكسبها أرشد؟
1- لقد قدمت سابقة الخلافة الراشدة ريادة عظيمة في مجال إدارة الشأن العام إدارة شورية تحل فيها السياسة محل القوة ويحل فيها العدل محل الرهبة مصدرا لشرعية السلطة، حتى أمكن في وقت مبكر أن يتحقق تداول سلمي للسلطة عبر عملية سياسية شورية راقية، كانت استثناء في السياق العالمي السائد حيث تسود أنظمة الملوك المتألّهة.
إلا أن التجربة لم تعمر أكثر من أربعين سنة، بدأ انخرامها بمقتل الخليفة الثالث المنتخب.. وانتهت بمعركة صفين حيث تولى السيف حسم الصراع داخل المعسكر الإسلامي، في نوع من العودة للنظام القديم. ورغم المحاولات المتكررة عبر تاريخ الإسلام الممتد لاستعادة النموذج الراشدي فإن السيف ظل حتى يومنا هذا العامل الحاسم في المعركة على السلطة ومصدر شرعيتها.
2- وبسبب ما آلت إليه المحاولات المتكررة من فشل وما جلبته معها من فتن وكوارث مثلت تهديدا لوحدة الأمة، فقد مال جل الفقهاء -وهم أهل الرأي في الأمة، وأصحاب السلطة الفكرية والتشريعية- إلى إيلاء الأولوية للوحدة على العدل والشورى، فاعترفوا -مخطئين- بحكم المتغلب باعتباره أمرا واقعا تضفى عليه الشرعية، فيبايع، شريطة التزامه بالشريعة حسبما يستنبطها العلماء من الوحي، منفذا ما يقضون به -فيما لا علاقة له بالسياسة- وحاميا بيضة الأمة.
وقد أشبه ذلك الصفقة التاريخية، صفقة شراكة بين العلماء والحكام، صفقة أفرزت المعادلة التاريخية التي استمرت حاكمة عالم الإسلام ما بعد الراشدين، ولم يبطل مفعولها ويجهز عليها غير مدافع الفرنجة تدك حصون المسلمين منذ بدايات القرن التاسع عشر، وتدك معها معادلة الحكم تلك، وتفكك بنية المجتمع الإسلامي التي يحتل فيها العلماء قلب مركز الدائرة، دافعة بهم إلى الهامش من خلال تجريدهم من مصادر قوتهم، بدءا بمصادرة الوقف، العمود الفقري لقوتهم وقوة المجتمع الأهلي، بتخليق نخب، بقيم ورؤى، هي امتداد للنفوذ الاستعماري، وإرساء قيم ونظم، لا مكان فيها للدين وعلمائه في غير الهامش، بما نقل هؤلاء من كونهم مصدرا لشرعية الحاكم والحكم ومدرسة لتصنيع النخب وتثقيف الأمة والوسيط بينها وبين الحاكم، إلى كونهم مجرد هامش في الدولة الحديثة وموظفين صغارا.
3- قامت على امتداد عالم الإسلام منذ قرنين حركات إحيائية تنفض عن الإسلام غبار الانحطاط، من بدع وخرافات، وتعيد من خلال فكر التجديد الفعالية للمسلم، قوة فعل في التاريخ، وتستأنف الحوار المقطوع بين الإسلام وبين ضروب التطور ومنتجات الحضارة الحديثة العلمية والتقنية والفكرية السياسية، وذلك عن طريق إخضاع الوافد الغربي للنقد وتمحيصه لاقتباس ما هو نافع متساوق مع الإسلام وطرح ما هو مرذول.
وكان من نتائج هذه الحركة الإحيائية أن دبت الحياة في الجسم الإسلامي المخدر، فكانت حركات الجهاد التي ما عتمت أن طهّرت أو كادت عالم الإسلام من الوجود العسكري الأجنبي، وعزمات المجاهدين تطارد فلول ما تبقى.
كما كان من ثمارها تفعيل آليات الاجتهاد، تفعيلا للعلاقة بين الدين والواقع، بما أنتج فكرا إسلاميا معاصرا، تفاعل مع الحداثة واستوعبها ووظفها في خدمته، والعملية لا تزال جارية.
كما كان من نتائجها نشوء حركات إسلامية على امتداد عالم الإسلام تجاهد من أجل إعادة بناء مجتمعات الإسلام على أساس الإسلام مستوعبا للعصر، أفادت من المستويات الدراسية الحديثة لأبنائها، كما استفادت من الفشل المتكرر المتفاقم لمشاريع النهوض التي تأسست على محاولات المحاكاة الفجة للغرب.
4- لقد فشلت التجارب التنموية التي قامت على فكرة المحاكاة للتجارب التنموية الغربية والشرقية، فشلت على صعيدين مهمين: داخليا فشلت في تحقيق مستوى معقول من التنمية الاقتصادية والاجتماعية -وبالأخص التنمية السياسية المتمثلة في بناء سياسي شوري ديمقراطي، على أساس ولاية الأمة على حكامها- يحترم الحقوق والحريات ويحفظ مقومات العيش الكريم للمواطن، وينقل الصراعات داخل المجتمع -ومنها الصراع على السلطة- من سبيل التعانف والحسم بالقوة، إلى المستوى السياسي، وهو ما نجح فيه الغرب عبر الالتزام بآليات الديمقراطية سبيلا وحيدا لحسم كل الصراعات الفكرية والسياسية ومنها الصراع على السلطة.
الفشل في ذلك انتهى بالأنظمة السائدة في الأمة إلى العزلة عن شعوبها، بما أعاد للأذهان صورة الاحتلال بل أسوأ، وكان ذلك مصدر الكوارث التي حلت بالأمة.
لقد فشلت هذه الأنظمة في إدارة الشأن العام ديمقراطيا، فساد الاستبداد والفساد، وقاد ذلك إلى فشل جملة المشاريع التنموية، كتطوير بنية علمية وصناعية قوية تكفل استقلال البلاد، بمعنى استقلال قرارها.
وكان من الطبيعي أن يقود الفشل التنموي الداخلي إلى فشل خارجي شنيع في رد العدوان على الأمة، والذود عن حماها. وكارثة فلسطين شاهد.
وبلغ التناقض والتكايد بين الشعوب والحكام درجة التنافس على الاستظهار بالأجنبي، حتى رفض معتقلون تونسيون في غوانتانامو أن يسلموا إلى بلادهم. أما الأزمة مكثفة فيلخصها استدراج المعارضة للاحتلال سبيلا للخلاص.
6- وكان من أولى تلك التجارب النهضوية تجربة محمد علي في النصف الأول من القرن التاسع عشر حيث تمكن من تعبئة موارد مصر وموقعها لبناء قاعدة صناعية وعسكرية قوية مستفيدا من التناقضات الأوروبية ومن خبرة بعض دولها، إلا أنه ما إن قطع شوطا على طريق بناء قاعدة صناعية قوية وجيش حديث شرع في توحيد المنطقة وتجديد نظام الخلافة المهترئ، حتى تصدت له الأساطيل الأوروبية مجتمعة وكسرته وردّته على أعقابه، بل حتى فككت قاعدته الصناعية وحجمت قوته العسكرية، فارضة على خلفائه الاستلحاق بل الاحتلال.
ورغم أن التجربة انطلقت مشروعا مشتركا بين حاكم ومؤسسة دينية هي الأزهر فإن شهوة الملك وحب الانفراد قاد الحاكم ذا التقاليد السلطوية العريقة إلى الانفراد بالأمر وتهميش العلماء، شركاء المشروع، مما آل به إلى مشروع سلطوي وحرمه من العمق الشعبي والمخزون الديني، المفجّر الأعظم للطاقات في أمتنا.
7- وبعد زهاء قرن أعاد التاريخ نفسه مع الضباط الأحرار في علاقتهم بالمخزن الديني ممثلا بالإخوان المسلمين الذين كانوا الرحم الثقافي الذي تخلّقت فيه فكرة الثورة والتغيير، إلا أن موروث الانفراد بالسلطة سرعان ما انتصر وكأن الثورة تنشر الغصن الذي يحملها، فرغم ما حملته من آمال للأمة وما فجرته من طاقات وما أنجزته من مشاريع نهضوية اجتماعية وصناعية، فإنها يوم استهدِفت بما كان محتما من عدوان لإجهاضها، انهارت بسبب بنيتها السلطوية المخابراتية التي خنقت كل صوت حر وصادرت مبادرات المجتمع وحولت الإعلام والفكر نفاقا ومدائح سلاطين، عابثة بالقضاء، مسرفة في القمع والتنكيل وخصوصا بالمكون الشعبي الأكثر انغرازا في المجتمع، مما حرمها من توظيف المخزون العقدي في الأمة لأنها اصطدمت معه وعملت على الإجهاز عليه.
وهكذا انتهى الأمر مرة أخرى بأن يتولى العدوان الدولي على أمتنا تفكيك مشروع نهضوي واعد، بسبب فشل قادة المشروع في بناء علاقات صحية شورية أساسا لحكمهم قمينة بمواجهة العدوان الأجنبي، فلا عجب أن ينهار المشروع في ساعات وقيل في أيام، بينما صمدت القوى الشعبية للعدوان وارتد عنها حسيرا في فلسطين ولبنان.
لقد كان الخلاف المدمر بين الثورة والإخوان خلافا داخل نفس الفريق، خلافا لم تتبع في إدارته -كما هو ديدنا وإعاقتنا المزمنة- الأساليب السياسية الشورية وإنما أدوات الدولة العنيفة.
8- وكادت الصورة نفسها تتكرر في السودان، إذ علقت آمال كبيرة على الحركة الإسلامية التي عرفت بمبادراتها وتطلعاتها التجديدية في إرساء وتطوير مشروع نهضوي إسلامي، إلا أنها رغم بعض المنجزات التي حققتها في مستوى نشر التعليم وتطوير البنى التحتية، لم تمض بعيدا حتى اصطدمت بنفس الإعاقتين: الإعاقة الخارجية ممثلة بالكيد الدولي والإعاقة الداخلية ممثلة في العجز عن إدارة شورية للخلاف داخل نفس المعسكر الإسلامي، فكما انقلبوا على غيرهم واستبدوا دونهم بالحكم، انقلب بعضهم على بعض للانفراد بالأمر. إنها السنن، بما لم يتردد معه د. الأفندي -أحد أبناء المشروع- في إعلان نعيه.
9- أما التجربة النهضوية العراقية البعثية بقيادة صدام حسين فقد كانت أوضح التجارب في الدلالة على المطلوب: إرادة نهضوية تراهن على الانطلاق والتحليق بجناح واحد هو قوة الدولة وأدواتها، فكانت إنجازاتها الصناعية باهرة، ولكنها كانت أعجز من أن تصمد في مواجهة عدوان دولي، قدم هذه المرة بدعوة ملحة من ممثلي القطاعات الأوسع من الشعب، ممن لم يحاول النظام أصلا حتى الاعتراف بهم، بله التفاوض معهم على معادلة حكم، وهو ما لم يفعله حاكم عربي حتى الآن، مما جعلهم بين تابع ذليل للقوى الأجنبية وبين خائف يترقب.
لقد كشفت تجربة العراق مدى هشاشة النظام العربي في أي مواجهة مع الخارج، مقابل ما تتوفر عليه الشعوب من مخزون مقاومة إذا هي تخففت من وطأته.
10- التجربة الإيرانية: تتعرض الجمهورية الإسلامية لنفس التحدي الذي واجهته التجارب التنموية التي ذكرناها، فما حظوظ نجاحها في الإفلات من مصير مماثل للتجارب السابقة؟
أ- لقد نجح نظام الجمهورية الإسلامية حتى الآن في امتحان البقاء ملتزما بمشروعه لا يتنازل عنه، ذلك المشروع المتمثل في بناء دولة إقليمية عظمى ذات قرار مستقل وما يستلزمه ذلك، سواء أكان من بناء قاعدة صناعية وعسكرية واقتصادية تسند هذا الطموح، أم من إدارة سياسية رشيدة للاختلاف داخل النخبة الحاكمة ومع مختلف القوى الشعبية.
لقد كانت منجزات الثورة على هذه الصُّعُد بين جيدة جدا في مجالات، وبين متوسطة في مجالات، وبين ضعيفة وحتى فاشلة في مجالات أخرى.
لقد كانت منجزاتها باهرة في التصدي للحصار الدولي ومحافظتها على استقلال قرارها وإدارتها الذكية لملفها النووي حتى الآن، وتوفيقها لإقامة أحلاف وصداقات منعت إحكام الحصار عليها، موظفة مواردها الضخمة وموقعها الإستراتيجي المتميز.
وكان من بين هذه الأحلاف الناجحة تحالفها مع قوى المقاومة والممانعة على صعيد المنطقة والعالم، هذا التحالف الذي أوقف الاجتياح الأميركي الصهيوني للمنطقة سبيلا للسيطرة العالمية، ومكن قوى المقاومة من الصمود وحتى تحقيق الانتصارات، وهو كسب جدير بالتنويه.
أما على صعيد التحدي السياسي الداخلي الذي فشلت فيه التجارب النهضوية السابقة فقد حققت الثورة الإسلامية حتى الآن نجاحا نسبيا معقولا، إذ نهض نظام الجمهورية على جملة من الوثائق الدستورية التي خضعت للاستفتاء الشعبي وأسست لمؤسسات تنتخب دوريا دون طعن من أحد، وهي سابقة متفردة في المنطقة رغم حصر العملية الشورية في نطاق محدد، ووجود مؤسسة عليا هي الولي الفقيه يعلو سلطانه كل المؤسسات، وذلك في سياق عملية توفيقية بين سلطة الشعب وسلطة الغائب، أي بين فكرة الجمهورية وعقيدة الإمام الغائب، وهو خلل تكويني.
أما المنجز الضعيف إلى حد الفشل أحيانا فيتمثل في البعد الطائفي للنظام الذي أثار مشكلات إقصاء داخل المجتمع الإيراني المتعدد المذاهب والقوميات، وأثار مشكلات أعظم على صعيد الإقليم والأمة، ظهر ذلك أجلى ما يكون في العراق حيث فشل النظام الإيراني فشلا كاملا في كسب السنة، بما ظهر منه من تحيز سافر للجماعات الشيعية.
ب- غير أن التحدي الأعظم الذي اندلع الأسابيع الأخيرة وغدا يمثل نوعا من التهديد للبناء من أساسه حسب البعض، يتمثل في موضوع إدارة الاختلاف، لا بين العلمانيين والإسلاميين ولا بين الشيعة وبقية الطوائف، وإنما إدارة الاختلاف بين أبناء الثورة أنفسهم، المتنافسين على الرئاسة، مرشحوهم أربعتهم من أقطاب في الثورة ومروا على الغربال الدقيق.
لأول مرة في انتخابات إيرانية يتم الطعن في نزاهة العملية الانتخابية، مما أفسح المجال أمام المتربصين بالثورة الذين انحازوا -عربهم وعجمهم- إلى الفريق الخاسر، ليس بالضرورة حبا فيه وإنما مدخلا لنقض البناء من أساسه وضربا لبعضه ببعض، بما جعل النظام كله مستهدفا في أساسياته، ألا وهي سياساته التنموية المستقلة والخارجية المتمثلة في استقلال قراره وما يقتضيه ذلك من محافظته على مشروعه النووي ودعمه للمقاومة في المنطقة.
التحدي هنا، هل سيوفق القائد ومن حوله من نخبة الحكم الحاكمة والمعارضة في الصدور جميعهم عن مسلّمة فحواها أن المستهدف هو المشروع ذاته وليس هذا الفريق أو ذاك، فلا يستظهر طرف على أخيه بقوة الدولة، ولا يرد الآخر بالاستظهار بقوة الخارج، الذي لم يعد قادرا على كتم فرحته والإسفار عن تأييده الفج للإصلاحيين في إساءة بالغة لهم؟
إن التحدي من النوع الوجودي. إن الانقسام عميق داخل النخبة الإيرانية نخبة الثورة، ومثل هذه الانقسامات لا تحل بما هو معتاد من خضوع الأقلية للأغلبية وهو منطق لصالح نجاد، وإنما بمنطق البحث عن وفاق وتسويات يؤخذ فيها بعين الاعتبار لا الكم وحده وهو لصالح نجاد وإنما الكيف أيضا وهو لصالح منافسه.
إن لحظة ضعف تعتري القائد يجيز فيها استخدام أدوات الدولة لحسم الخلاف ستكون بمثابة إعلان عن وفاة المشروع، ولن تختلف في كارثيتها عن ابتهاج الطرف الآخر بعواء الذئاب الدولية المتلمظة للانقضاض على الفريسة، أو استدعائها بدل انتهارها.
الثابت أن مشروعا آخر من مشاريع نهوض الأمة يقف هذه الأيام وتقف معه المنطقة في لحظات تاريخية فارقة، غير أنه مما يشد النظر في المشهد التلمظ العجيب على الفريسة الإيرانية الجامع بين أقطاب النظام الدولي والصهيوني وبين عرب الاعتدال، فهل فينا حقا من تصهين أو مضى أبعد من ذلك حتى غدا فرحه وحزنه ليكوديا؟ اسألوا الله حسن الخاتمة.
الجزيرة نت