الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّورية

بين إيران وأوروبا الشرقيّة

حازم صاغية
تجمع بين تجربة إيران، التي توّجتها حتّى الآن احتجاجات طهران، وبين تجارب التغيير في البلدان الشيوعيّة، ملامح عدّة ربما كان أبرزها اثنان:
الأوّل، أن النظم الشيوعيّة كانت تفرز قادة إصلاحيّين يباشرون التغيير (إيمري ناجي في هنغاريا في 1956 وألكسندر دوبتشيك في تشيكوسلوفاكيا في 1968 ثم ميخائيل غورباتشوف في روسيا نفسها عام 1985).هكذا يؤدّي عملهم إلى انشقاق في التركيبة السلطويّة تستفيد منه الحركة الشعبيّة وتدفعه بعيداً. وهذا ما يمكن قوله في بعض رجالات الثورة الإيرانيّة كالرئيسين السابقين رفسنجاني وخاتمي، ورئيس الحكومة السابق مير حسين موسوي، والمرشّح الرئاسيّ الآخر مهدي كرّوبي وغيرهم. والحال أن هذه الظاهرة ليست جديدة في إيران، إذ عرفناها في بعض رجالات المرحلة الأولى من الثورة (المهدي بازركان، أبو الحسن بني صدر، إبراهيم يزدي… إلخ).
والثاني، أن العمل المعارض والنقديّ يمرّ بمرحلة طويلة من توهّم التغيير عبر قنوات المؤسّسات الحاكمة، ومن خلال الاستعانة بالإيديولوجيا الرسميّة نفسها تبعاً لفهم منفتح لها. ففي الحالة الأولى، جرت محاولات لأنسنة الماركسيّة، وفي الحالة الثانية، جرت وتجري محاولات للجمع بين ولاية الفقيه، (حيث الحكم والسيادة للإرادة الإلهيّة ممثّلة في الوليّ الفقيه) وبين الحكم الجمهوريّ، (حيث الحكم والسيادة للإرادة الشعبيّة). بيد أن الحالتين تنتهيان بالمعارضين إلى التخلّي عن العمل من ضمن المؤسّسات الرسميّة، كما عن التمسّك بأهداب الإيديولوجيا الحاكمة كليّاً.
وتقدّم لنا أوروبا الشرقيّة والوسطى، في معاناة خروجها من الشيوعيّة، عدّة أمثلة على ما نقول. فهناك بدا التغيير دائماً أصعب من مثيله في الاتّحاد السوفييتيّ؛ لأن سكّان أوروبا كانوا عُزّلا على نحو مزدوج: حيال أنظمتهم كما حيال النظام الروسي. وفي هنغاريا في شهر نوفمبر 1956، تلقّى المنتفضون، وتالياً السكّان عموماً، درساً قاسياً تمثّل في سحق الدبّابات السوفييتيّة لانتفاضتهم، بينما كان لا يزال، في تشيكوسلوفاكيا ورومانيا، ضحايا المحاكمات الستالينيّة والمسرحيّة يتعفّنون في سجونهم ومعسكرات تجميعهم.
ومع هذا، اختلفت أوروبا الشرقيّة لجهة إقدامها على سلوك طريق التغيير الصعب والوعر، مما تجنّبه الروس. وكان أحد أسباب ذلك أن إلحاقها بالسوفييت كان لا يزال حديث العهد نسبيّاً. ففي الستينيات، صارت الشيوعيّة هي النظام الوحيد الذي وعاه وعرفه معظم سكان الاتحاد السوفييتيّ المولودين بعد 1917، وقد جاءت “الحرب الوطنيّة الكبرى” ضدّ ألمانيا النازيّة لتمنحه الشرعيّة الوطنيّة والتقليديّة. إلاّ أن السيطرة السوفييتيّة في شرق أوروبا كانت لا تزال طريّة وحديثة العهد. وبما أن الُحكّام المنصّبين هناك كانوا ألاعيب في يد موسكو، يفتقرون إلى كلّ شرعيّة وطنيّة ومحليّة، فهذا ما زاد حساسيّتهم حيال الإصلاحات وخوفهم منها، كما فاقم عجزهم عن تفهّم السكّان المحليّين ومطالبهم.
هذا مع العلم أن نقّاد الأنظمة في تلك البلدان، ما بين 1956 و1968، لم يكونوا مناهضين للشيوعيّة. ففي جوابه على توكيد جان بول سارتر في 1956 بأن ثورة هنغاريا تميّزت بـ”روحيّة يمينيّة”، قال الأكاديميّ الهنغاريّ اللاجئ فرانسوا فيجتو بأن الستالينيّين هم الذين يقفون على اليمين: إنهم “الفيرسايّون” (نسبة إلى قصر فرساي الفرنسيّ) و”نحن نبقى رجال اليسار، أوفياء لمبادئنا ومُثلنا وتقاليدنا”. وكان إصرار فيجتو على صدقيّة يساريّته المناهضة للستالينيّة تلتقط روحيّة المعارضة الثقافيّة في أوروبا الشرقيّة، وهو ما استمرّت عليه الحال وصولاً إلى 1968. فالموضوع لم يكن إدانة الشيوعيّة، ناهيك عن إطاحتها، بل التفكير العميق بالسبب الذي أوجد الأخطاء المريعة في تجربتها، ومن ثم السعي إلى اقتراح بدائل من داخل الشيوعيّة والماركسيّة نفسيهما. وهذا ما عدّته السلطات الحاكمة رؤية “تحريفيّة”، مستعيدة الوصف الذي كان لينين قد أطلقه على كاوتسكي، إذ اتّهمه بالتخلّي عن الماركسيّة الثوريّة القويمة لصالح ماركسيّة إصلاحيّة و”تحريفيّة”. وكان أوّل من جدّد استخدام هذه الكلمة في هذا السياق القياديّ الشيوعيّ البولنديّ فلاديسلو غومولكا، وذلك في مايو 1957 إبّان اجتماع للّجنة المركزيّة لحزب العمّال البولنديّ الموحّد، أي الشيوعيّ الحاكم.
وهؤلاء “التحريفيّون”، وأهمّهم في بولندا يومها الفيلسوف الماركسيّ الشابّ ليجيك كولاكوفسكي، ظلّ كثيرون منهم حتّى 1956 ماركسيّين أرثوذكسيّين أمناء لحرفيّة النصّ، كما استمرّوا يراهنون على التمييز بين صدقيّة الماركسيّة- اللينينيّة وبين جرائم جوزيف ستالين واستفحاله الأمنيّ والبيروقراطيّ. فعند كثيرين من ماركسيّي أوروبا الشرقيّة، كانت الماركسية المعمول بها هي النسخة الرديئة والممسوخة عن المعتقديّة الماركسيّة كما ينبغي لها أن تكون، كما ظلّ الاتّحاد السوفييتيّ هو التحدّي الدائم لصدقيّة مشروع التحوّل الاشتراكيّ، سلباً وإيجاباً. ولكنْ، على عكس “اليسار الجديد” في بلدان أوروبا الغربيّة، فإن المراجعين في الشطر الشرقيّ استمرّوا يعملون مع الشيوعيّين، وغالباً داخل أحزابهم. وقد نجم هذا جزئيّاً عن الحاجة والاضطرار المعيشيّين، لكنّه نجم أيضاً عن اقتناع بأن النظام، على أخطائه، هو نظامهم، وأن مؤسّساته، على تشوّهاتها، تبقى مؤسّساتهم. ومع الزمن كان لهذا العامل أن ساهم في عزل “التحريفيّين” ليس فقط في نظر السلطة، بل أيضاً في نظر جيل جديد صاعد ومتأثّر بزملائه في الغرب وما يُطرح هناك من قطيعة مبرمة مع النظام الشيوعيّ ومؤسّساته ومعتقداته.
غير أنّه يبقى أنّه ما بين 1956، أي قمع الثورة الهنغاريّة، و1968، أي قمع الانتفاضة التشيكوسلوفاكيّة أو “ربيع براغ”، كانت اللحظة التحريفيّة في أوروبا الشرقيّة هي التي تزوّد الكُتّاب وصانعي الأفلام السينمائيّة والاقتصاديّين والصحافيّين وغيرهم من فئة الإنتلجنسيا بنافذة ضيّقة للتفاؤل في ما خصّ المستقبل الاشتراكيّ البديل. وهذا ما تغيّر كليّاً في 1968، ثم مع سقوط تلك الأنظمة أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات. وهو ما لا بدّ أن يتغيّر في إيران فينفكّ ما تبقّى من إجماعات ميّتة لصالح الانفصال عن السلطة وعياً وتركيباً وسلوكاً. أمّا معاناة أوروبا الشرقيّة وطريقها الطويل والمتعرّج في التغيير، فيصلح أن يشكّل عزاء للإيرانيّين وحافزاً لهم في وقت واحد.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى