الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّورية

معنى «لا أخلاق من دون إيمان» في الحالة الإيرانية

نهلة الشهال
دينامية المجتمع الإيراني تثير الإعجاب، والغيرة! ليس فحسب الدينامية التي عبرت عنها في الشارع التحركات الاحتجاجية على مدى أسبوعين طويلين مجبولين بالدم والاعتقالات، متجاوزة الكلام عن «ثورة غضب» كردة فعل تنفجر في لحظة ثم تموت، وإنما تلك الأخرى المتعلقة بمواقف واضحة، وفي قلب الحدث، وتبغي التأثير فيه، يتخذها سياسيون ومثقفون ورجال دين، ممن يُصطلح على تسميتهم بـ«النخبة». وهؤلاء نزلوا إلى الشارع، اختلطوا بالتظاهرات أو قادوها أحيانا، شاركوا في الاعتصامات والاجتماعات، اتخذوا مواقف علنية تمليها عليهم قناعاتهم.
ما أجمل أن يكون للمرء قناعات يدافع عنها، ويبدي الاستعداد لدفع الثمن المقابل لو لزم الأمر. قال مرة الفيلسوف وعالم النفس السلوفيني سلافوج زيزك، انه «لا أخلاق من دون إيمان». وبالطبع لم يقصد بالإيمان الدين فحسب… وسيكون من السخف رد الاهتمام العالمي بما جرى في إيران عقب الانتخابات الرئاسية، إلى «الحقد الغربي» على الثورة الإسلامية، كما تفعل الآلة الدعوية للنظام ومن يرتبط بها في أماكن أخرى من العالم، التي تهدف من وراء ذلك إلى محو أهمية الحدث. وهو الهدف ذاته الذي يعبر عنه كلامها عن التدخل الأوروبي الرسمي كأصل للتحركات، ومحاولاتها إلقاء اللائمة على السفارة البريطانية هذه المرة، في إعادة بائسة وخارج السياق للهجوم على السفارة الأميركية غداة الثورة عام 1979. بل أرغمت تلك الدينامية المتعددة الوجوه الاهتمام، كما عبرت عنه مئات المقالات والعرائض بكل لغات الأرض.
ولا يعني ذلك إنكار وجود المؤامرات والأحقاد، وإنما رفض اعتبارها مصدرا لتفسير ما جرى في إيران، أو لتفسير ما أحاط به من عناية… ورفض النعوت التي حاولت الآلة الدعوية تلك إلصاقها بها، من قبيل أنها ثورة «مخملية»، للإيحاء بأمرين في آن معاً: بأنها «فوقية»، شبيهة بالثورات الملونة في أوروبا الشرقية، حيث تركت المخططات الاستخباراتية الأميركية، والأموال المغدقة على منظمات بعينها، مصنوعة سلفا أو مستقطبة، وتدريبها بل حتى قيادتها في الظل، الخ… بصمات لا يمكن إنكارها (وإن كانت لا تفسر وحدها تلك التحولات، بل ربما يعبر نجاحها عن تلاقيها مع لحظة فراغ واهتزاز، لم تصنعه هي بالتأكيد). أما الأمر الثاني، فأكثر خبثاً، إذ يرغب بالإيحاء بأنها ثورة تصنعها طبقات مرفّهة – مخملية – بالتضاد مع «الشعب» الذي يسير أميناً خلف أحمدي نجاد. وهذا توصيف للاستقطاب القائم مبسط وديماغوجي بالضرورة، يتجاهل تداخل عوامل هي من التعدد بحيث يستحيل اختصارها على هذه الشاكلة.
يزيد هذا التوصيف من بؤس تعامل الفريق الممسك بالسلطة مع الحدث، حيث تراوحت سائر النعوت بين «شغب» و«فوضى» و«تدخلات». وكلها تضع هذا التعامل في خانة العُصاب المفضي بالضرورة إلى إباحة القمع من دون تحفظ. وفي هذا ينتمي الفريق الممسك بالسلطة إلى تقليد لم يخترعه هو، ولا كان أول من جربه. وبالعودة إلى السيرورة الطويلة لانهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، نجد عناصر شبه لا تخطئها العين، في المنطق والمبررات والسلوك والإجراءات لـ«حماية» النظام، ولاعتبار وجود أولويات وترتيبها تبسيطيا، بحيث تصبح تعسفية بل ضارة. بل نجد شبهاً للصراع بين أطراف كلها في نهاية المطاف تقف على أرضية مشتركة، وليست في مواقع عدائية، إلا أن الخلاف بينها أفضى إلى اعتقالات وتصفيات سوداء.
أما الحرس الثوري الإيراني فراح يشبه الحرس الجمهوري في الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، أو سواه من وحدات النخبة. وهو لا يشبهه في انضباطه حول مسلك قمعي خلال الأحداث فحسب، بل في تجسيد انضباطه ذاك لوعيه بامتياز موقعه داخل البنية الاجتماعية، وهو امتياز محاط ليس بمكانة معنوية محوزٌ عليها فحسب، بل بشبكة مصالح مادية جدا، وقابلة للتحول إلى أرقام بمئات ملايين الدولارات، تتوزع من أعلى إلى أسفل.
ولكن همود التحركات الاحتجاجية ليس نهاية المطاف. ليس فحسب لأن تلك التحركات قد تركت آثارها على شرعية انتخاب احمدي نجاد، بغض النظر عن تكريسه نهائيا من قبل الهيئات، وعن نتائج إعادة الفرز الجزئي التي ثبّتت فوزه، بل حتى عن حيازته حقيقة لأغلبية الأصوات في الاقتراع نفسه. بل لأن الشرعية لا تتلخص بالفوز في الانتخابات، إذ يتمثل واحد من أهم عناصرها في تحقيق توافق مع الخصوم على الحق في الوجود في السلطة. وفي هذه، فشرعية احمدي نجاد بات مطعونا بها مرتين: بسبب الشك الذي ما زال يثيره خصومه في فوزه، وبسبب دفاعه عن هذا الفوز بواسطة الصراع الدامي، وغياب القاعدة التوافقية لحل المشكلة القائمة. وقد طال المس موقع المرشد نفسه، لأسباب عديدة كلها أخطر مما يخص نجاد: وضوح انحياز خامنئي إليه بينما يفترض به رعاية الجميع، وتمهيده للقمع الشرس في خطابه يوم الجمعة الذي أعقب الانتخابات… وإنما وعلى الأخص، بسبب بروز تساؤلات سياسية مشروعة، تراوحت ما بين الحاجة إلى تحديد صلاحياته، وإعادة طرح فكرة ولاية الفقيه نفسها على بساط البحث، وإن مواربةً.
والحق، أن المستويين متشابكان. ففي فكرة ولاية الفقيه، كما أعاد نبشها آية الله الخميني، وكما مارسها، يحوز موقع الولي على إطلاق يشابه القدسية. فموقفه أعلى من المؤسسات القائمة كلها، ومن الآليات المعتمدة أيا تكن. ولعل ذلك ما قصده خامنئي حين قال في تلك الخطبة إن المحتجين يهددون «النظام السياسي»، وهو هنا ليس الطابع الإسلامي لذلك النظام (مع أن شرعيته هو الآخر ليست إلهية، ولا شيء يمنع التخلي عنها)، وإنما الصيغة الخمينية منه.
جديــر بالتذكيــر أنها صيغة ظلت موضع غربة داخل العقل السياسي للفقه الشيعي، إذ ناهضها العديد من آيات الله العظمى والمفكرين. وهي على ذلك تُناقِض التقليد التاريخي للتشيع، القائم على الابتعاد عن السلطة والريبة فيها. وفي هذا، حقق الخميني ثورة فكرية وسياسية هائلة ولا شك، ولكن شرط شرعيتها هي الأخرى، باعتبار كل ما سبق، هو أن تبقى رحبة تتسع لتنوع الآراء، ولا تتحول إلى مجرد اعتداد بصفة تمثيل الإمام الغائب… بينما آليات حصوله على هذه الصفة أرضية جدا. فإذا ما أضاف لها ممارسة للسلطة أرضية جداً هي الأخرى، كانت الطامة!
وهكذا يمكن الاعتقاد بأن ما جرى في الأسابيع الماضية، لم ينته وإن خبا، مثلما أنه لم يولد من فراغ. إنه، تحققاً وإعلاناً، لحظة تحول مثير بكل المقاييس. أما غيرتنـا نحن العرب، فتناولها أعقد بكثير…
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى