الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّورية

إيران الخمينية بين ولاية الفقيه وولاية الأمة: “فقه المشروطة” يقارع “فقه المستبدة”

مازن إبراهيم
الايرانيون في الشارع. صورة لم تكن من بديهيات المشهد السياسي والشعبي طوال العقود الثلاثة الماضية من حكم الدولة الخمينية، وخصوصاً ان من اختار اليوم الشارع سبيلا للتعبير عن موقفه كشف عن شرخ عميق داخل المجتمع الايراني عمره من عمر “الثورة”.
شوارع طهران لم تعد مجرد شوارع، بل اضحت مجتمعا في حد ذاته يمارس طقوسا ويحمل رموزا تتنافى مع ما دأبت ايران الخمينية على رسمه لنفسها من صورة. اصبحت الساحات مكانا عاما يتقاطع فيه خاص المتظاهرين وما عاشوه سرّاً طوال سنوات مع الحيز العام الذي اعادوا تشكيل معالمه بأجسادهم وكلماتهم، فاكتست طهران ألواناً لم تألفها العاصمة الايرانية التي اعتادت أن تكون احادية اللون والوجهة والهدف.
أن يخرج الايرانيون الى الشوارع، فذلك أمر عظيم. الأمر هو كذلك، إن هم تراجعوا عن خروجهم. لكن حاضر إيران، في الحالتين، سيختلف عن أمسها. هي لحظة مهمة من دون ادنى شك وقد لا ترقى الى حمل الصفة المصيرية، فدون ذلك قوة السلطة المتسلحة بالباسيج والباسدران، والاهم منهما جمعٌ لا يزال الارث الايديولوجي لإيران “الثورة” يخاطب مشاعره. دون ذلك ايضا مسافة بعيدة تحول دون القطع مع فقه السلطة السياسية الدارج منذ عقود ثلاثة والمرتكز على تأويل من تأويلات عدة ومتعارضة في ما بينها لمرادف فكرة الحاكمية في الفقه الشيعي. لكن من المؤكد ان ما شهدناه خلال الايام الماضية هو حتما خطوة اولى في مسار طويل وشاق سيعيد طرح سؤال المشروعية الدينية التي اقام الخميني عليها البنيان الايديولوجي لجمهوريته والمكنّاة بـ”ولاية الفقيه المطلقة”.
ولاية الفقيه
فهذه الولاية التي سلّم الايرانيون بها ضمنيا منذ عقود ثلاثة، ودستوريا غداة انتهاء العشرية الاولى من حكم الخمينية لإيران، نقلت الاجتهاد الفقهي الشيعي من مرتبة الديني المفارق الى الايديولوجي الدولاتي المحايث. فالخارجون على الشاه من المعممين بحثوا عن شرعية تحصر حصاد الثورة فيهم دون غيرهم من المتظاهرين والهاتفين والعاملين على إسقاط الشاه ذات شتاء من عام تسعة وسبعين.
لذلك سعى المعممون في طهران الى ايجاد اجابة عن الاشكالية المرتبطة بجواز قيام الحكم الاسلامي في ظل عهد “غيبة الامام”، وتاليا الخروج من حال الانتظار والدخول في لعبة السياسة. لذلك جرى استحضار فكرة نيابة الامام في غيبته من رافد من الروافد المتعددة  للتراث الفقهي الشيعي. اما نقطة انطلاق الخميني لتأسيس جمهوريته فقد قامت على انتفاء وجود المجتمع الاسلامي دون تحقق شرطه الاول، اي الدولة الاسلامية. لذلك كان لا مناص من قيامها. لكن المسألة الفقهية التي لطالما ارّقت العلماء الشيعة، ارتبطت باستحالة قيام الدولة الدينية الشرعية في ظل ايمانهم بغيبة الامام، فالشيعة الاثنا عشرية تقول بالإمامة كأصل من اصول الدين وهي شكل من اشكال الولاية الالهية، وقد تأسست الاشكالية الفقهية السياسية غداة غيبة الامام الثاني عشر والمكنّى بصاحب الزمان والامام المعصوم والذي لا ولاية الا له، وفق أوصاف المنطوق الشيعي. غيبة سعى الفقه الشيعي الى تجاوزها ابتداءً، عبر ارتضاء التعامل مع الحاكم الجائر من دون الاعتراف بشرعية سلطته، وانتهاءً عبر القول بوجوب قيام الولاية لنواب الامام.
هذا ما ادى الى نشوء تيارين اساسيين بين الفقهاء، يقول الاول بولاية خاصة للفقيه في ظل “الغيبة”، بمعنى ان سلطة ولي الفقيه مقيّدة وهي دون السلطة المفترضة لـ”الامام الغائب والمعصوم”، اما التيار الثاني وفي طليعته الخميني فقد ذهب الى حد القول بوجوب قيام الحكم الاسلامي على اسس الولاية العامة للإمام الفقيه، اي تمتعه بولاية مطلقة تماثل بين الامام الغائب ومن ينوب عنه، اي ولي الفقيه المتبوئ منصب “مرشد الجمهورية الاسلامية”.
هذا الخط الاخير الذي انتهجه الخميني ساهم في اقامة بنيان حكم الجمهورية الاسلامية في ايران وفق مبدأ ولاية الفقيه المطلقة، ما يعني اسباغه على نفسه صفة نائب الامام الغائب بحيث يستمد منه مشروعيته التي يستمدها بدوره من الخط الالهي المفارق.
هكذا اذاً اسس الخميني لولاية الهية على الارض هدفها حكم ايران سياسيا ونشر الثورة عالميا عبر ادعاء ولاية سياسية تسمتد شرعيتها من الغيب وتفرض سلطتها على الدولة والمجتمع بدعوى العصمة. بذلك، تكون الخمينية كتيار سياسي فقهي نكوصا عن فكرة الدولة والدستور وولاية الامة على نفسها التي كانت قد بدأت تتبلور في بدايات القرن الماضي مع احد ابرز علماء الفقه الشيعي محمد حسين النائيني.
النائيني و”فقه المشروطة”
لا يشكل استرجاع افكار محمد حسين النائيني في أي شكل من الاشكال دعوة الى العودة الى تاريخ الفقه الشيعي لوضع فقيه في مواجهة اخر، فالنبش في الاصول وتأصيل الكلام والاحكام ليس من اختصاصنا، ذلك أن جل ما نسعى اليه هو محاولة التأكيد ان “ولاية الفقيه المطلقة” لا تقارب في اي شكل من الاشكال مرتبة الاصول، بل هي تأويل فلسفي واجتهاد فقهي تقابله اجتهادات وتأويلات اخرى.
عام 1906 شهدت ايران ثورة دستورية عرفت بـ”ثورة المشروطة”، و”المشروطة” كانت حينذاك وصفاً مرادفا للدستور، وكان الهدف منها إقرار نظام مدني حديث والاستقلال بالبلاد عن التدخل الخارجي. بغض النظر عن مآلات ثورة “المشروطة”، فإن اسطع ما تجلت به كان الإنتاج الفكري لفقهاء الشيعة الذين سعوا الى مواكبة الحركة الدستورية عبر تأويلاتهم واجتهاداتهم التي تجاوزت تراثا كاملا يرتبط بـ”ولاية الفقيه” وقيام الدولة الاسلامية.
من هنا كانت كتابات المرجع محمد حسين النائيني، تلميذ الميرزا الشيرازي وصديق جمال الدين الأفغاني منذ أيام دراسته في أصفهان، وتحديدا كتابه “تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة” الذي اسس لما عُرف في ما بعد بـ”فقه المشروطة”، اي الفقه الديني الذي اضفى شرعية على النظام الدستوري وفق النمط الغربي، وفي تعبير آخر حكم الامة لنفسها عبر اطار ديموقراطي يتجسد برلماناً وانتخابات ودستورا، هو الفيصل في شؤون الامة. لكن ذلك لا يعني ان النائيني حقّق قطيعة كاملة مع التراث المرتبط بـ”ولاية الفقيه”، فقد كان واضحا في كتابه، حين اعتبر جميع اشكال الحكم غير شرعية في ظل غيبة الامام، وتاليا في غياب الدولة الاسلامية، الا انه لم يكتف بالوقوف عند هذه النقطة التي سبقه اليها جمع الفقهاء بل ذهب بعيدا في اجتهاده عندما اعتبر ان فقدان شرعية الدولة غير المبنية على الاسلام نتيجة غياب الامام لا يلغي ان المجتمع في ظل الغيبة يحتاج الى قوانين تنظّم عمله على شتى الاصعدة، ولذلك توصل النائيني الى خلاصة مفادها ان الشكل الدستوري لنظام الحكم، اي الدولة المدنية، هو الذي يحل مكان الامام في غيبته لا “ولاية الفقيه”. وهذ يعني ان النائيني الذي كان صريحا وواضحا في تأييده لفكر “ولاية الفقيه”، لا “ولاية الفقيه المطلقة”، فصل هذه الفكرة عن مشروع الحكم السياسي وأسكنها في التراث الاجتهادي الشيعي، وهو بذلك قيّد “ولاية الفقيه” بالدستور ومجلس النواب او الشورى، في مواجهة ما كان يُعرف بحكم الاستبداد المرتكز على “فقه المستبدة”، والذي عبّر عن نفسه من خلال المرجع الديني محمد فضل الله النوري الذي سعى الى إقامة حكومة دينية على أساس مجلس شورى يشرف عليه الفقهاء. لكن يشاء حكم التاريخ ان تنتهي هذه المرحلة بمفارقة ساطعة، فالانتصار المرحلي للثورة الدستورية انتهى الى اعدام محمد النوري كما انتهى الامر بعد سنوات بالنائيني الى السعي في اسواق الكتب جامعاً ما تبقّى من نسخ كتابه “تنبيه الامة وتنزيه الملة” كي يحرقها بنفسه، لا تراجعاً عن اجتهاداته بل خوفا على مصيره من دعاة “فقه المستبدة” الذين اعادوا تثبيت مواقعهم السياسية والفقهية ، وهذا ما اسس لانتعاش تيار الاسلام الشيعي منتصف القرن الماضي.
الإمام الثيوقراطي الدستوري
شكلت الستينات التي انتشر فيها تيار الاحياء الديني الاسلامي في شقّيه السني والشيعي نكوصا عن مرحلة فقهية وفكرية سابقة لدى السنة والشيعة، كما شكلت قطعا مع ارث الجيل الاصلاحي المتأخر من العلماء، كالكواكبي ورشيد رضا (قبل عودته عن مفهوم الدولة الوطنية) والنائيني، وكانت ابرز تجليات هذا التيار، سنياً في مانيفست سيد قطب “معالم في الطريق”، وشيعياً في مانيفست “الحكومة الاسلامية” للخميني.
اقام الخميني دولة “ولاية الفقيه” مرتكزا على مفهوم “ولاية الفقيه المطلقة” المرتبطة باجتهاد فقهي وتأويل فلسفي، اي لا ترقى الى مرتبة الاصول ولا تبارح الفروع. اما أوان تأسيس الجمهورية الاسلامية فقد كان له خاصية فريدة. يقول المفكر الفرنسي أوليفييه روا في كتابه “فشل تجربة الاسلام السياسي” إن السياسة وليس الدين هي التي انتصرت في إيران مع وصول الخميني الى السلطة. كيف ذلك؟
يمكن قراءة هذا الكلام على نحو ان تحدّي السلطة أفشل يوتوبيا الاسلام السياسي، ما دفع النظام الناشئ في ايران الى الجمع بين مؤسستين، الاولى دينية والثانية سياسية خاضعة لإشراف المرشد الاعلى، ما ادى عمليا الى شبه تعطيل المؤسسات الدستورية المحكومة بسقف لا قدرة لها على خرقه. فقد اصبح وجود هذه المؤسسات وجودا بالقوة لا بالفعل، بمعنى ان خروج المؤسسات الدستورية الى حيز الفعل السياسي التام يحتاج منها ان تزيح  مظلة “ولاية الفقيه”، او على الاقل ان تخفف منها، وهذا ما اثبتت استحالته فترة حكم الرئيس الاصلاحي محمد خاتمي.
بناء على ذلك، ذهب اوليفييه روا بعيدا في قوله: “يكفي ان يتبنى انفتاح سياسي يتيح بروز احزاب مختلفة فعلا كي يبدأ دستور الجمهورية بالعمل بصورة علمانية فيصبح الامام نوعا من الثيوقراطي الدستوري”. لكن ما غفل عنه روا، المعجب بالتجربة الايرانية، ان المرشد سيستخدم ما توافر له من سلطات مطلقة للحيلولة دون وصول الحركية المجتمعية والتعددية الحزبية السياسية الى غايتها القصوى، اي تحول النظام الى ثيوقراطي دستوري تكون الولاية فيه للأمة على نفسها. فأقصى ما تخشاه مؤسسة المرشد عدم ضمان استمرار “ولاية الفقيه” في ظل تعددية سياسية فعلية، ولا سيما ان جزءاً رئيسيا من “ولاية الفقيه” رحل برحيل الخميني، وتحديدا الركن المرتبط بالتطابق بين المرجعيتين السياسية والدينية في شخص ولي الفقيه، وهو ما لم يتوافر في شخص خامنئي، الذي يرى الكثير من الفقهاء انه في لحظة تعيينه لم يكن يملك المؤهلات الفقهية الضرورية لكي يكون آية لله عظمى او مرجعا للتقليد.
الرموز ومعركة البقاء
ثلاثة مستويات ستكون كفيلة تحديد وجهة المرحلة المقبلة، اذا ما اراد الاصلاحييون السعي في اتجاه تغيير وجه ايران، وهي السياسي والفقهي والثقافي. سياسياً، برهن وصول خاتمي الى السلطة ان امكان التغيير شبه معدوم نتيجة تقييد حرية حركة الرئيس المضبوط ايقاعها وفق حركة المرشد والمجالس التي تدور في فلكه. لذلك فان شرط اكتمال التغيير السياسي هو معركة فقهية تجديدية يخوضها الاصلاحيون مرتكزين على تراث فقهي شيعي تضرب جذوره عميقا في التاريخ وسعى القائلون به الى تجاوز مفهوم “ولاية الفقيه العامة” الى “ولاية الامة على نفسها”. فإذا كان من السهل للدولة الخمينية ان تصف من يدعو اليوم الى إعادة النظر في مفهوم “ولاية الفقيه المطلقة” بالعميل لـ”الاستكبار العالمي” وبالعنصر المدسوس والمستورد والمغرّر به، على ما تذهب اليه الانظمة الشمولية في وصف معارضيها، فإن الامر لن يكون بهذه السهولة اذا ما وُوجه المحافظون بتراث لآيات الله من امثال الميرزا الشيرازي ومحمد حسين النائيني ومحمد جواد مغنية وغيرهم من فقهاء اعتبروا ان “ولاية الامة  على نفسها” هي خير ولاية في ظل الغيبة، مع ما يعني ذلك من اعادة دفع قم والنجف وتراث جبل عامل الى الدخول في حراك فكري فقهي يكسر محرمات فرضها تأويل فلسفي اكتسى مرة جديدة برداء الحقيقة المطلقة.  لكن اسس التغيير في ايران لن تكتمل من دون معركة ثقافية ترتبط بالرموز، التي تبدو بالنسبة الى حراس الثورة اهم من كل مضمون فلسفي او فقهي او سياسي، عنينا الحجاب والخطاب والواقع المعيش للمواطن الايراني. فالصورة التي حرصت ايران الخمينية على تصويرها لنفسها خلال الاعوام الماضية، اختزلت ايران بصورة رمادية لاستعراضات عسكرية وشبّان من أصحاب اللحى الخفيفة وفتيات لا يظهر منهن الا وجه غابت عنه الابتسامة. المعركة على هذه الجبهة يتقدم فيها الاصلاحيون حتما، فما الذي تبقّى من هذه الرموز بعد تظاهرات طهران الاخيرة المليئة غضبا وابتسامات وألوانا؟!
سنونوة ايران
قبل سنوات حين وصل المرشح اليساري لولا دا سيلفا الى سدة الرئاسة في البرازيل، وقبل ان تكر من بعده سبحة الرؤساء اليساريين في اميركا اللاتينية، وصف الصديق الراحل جوزف سماحة انتخاب لولا دا سيلفا بالسنونوة التي تنبئ بربيع آت لا محالة. سأجرؤ اليوم على استعارة هذا الوصف لكي اتساءل هل ما شهدته شوارع طهران واصفهان وغيرهما من المدن الايرانية سنونوة ربيع مقبل لن يقف عند حدود ايران بل ستصل نسائمه الى كل العقول التي تعيش خريفا صنعته بأيديها؟ فلنأمل ذلك، “فالوِردُ لا يزيد الا عطشا”، على ما ذهب اليه الشهيد الحلاج، ومن تنسم رياح الشارع في طهران خلال الايام الماضية لن يزيده الامر الا عطشا لولاية الامة على نفسها ¶
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى