معجزاتنا في الألفيّتين
موفق نيربية
لا نستطيع الانطلاق من التحليل على أساس الرغبات- مع أنه يحق لنا أحياناً- فليس مؤكداً أن ما يجري في إيران هو بشائر «ربيع طهران» الذي سوف ينسج من خيوط الحداثة والديمقراطية ثوباً يمكن لجسم قديم- أو أصيل- أن يذهب به إلى العمل مع العالم المعاصر؛ وليس مؤكداً أيضاً أن الرئيس أحمدي نجاد هو «معجزة الألفية الثالثة» كما ذهبت السيدة فاطمة رجبي في كتابها، وهي زوجة الناطق الرسمي باسم الحكومة غلام حسين إلهام، وقيل إنها كاتبة في أسبوعية «يا لثارات» البالغة التشدد والتابعة لميليشيا أنصار «حزب الله».
فلا الربيع يمكن أن يُقبِل في ظروف انقسام حادة كالتي نشهدها، ولا أحمدي نجاد بمعجزة إلاّ بمقدار ما يسمح له المرشد الأعلى، الذي ربما يرغب أن يكون نفسه معجزة هذه الألفية في مطلعها، بعد أن كان الخميني معجزة الألفية السابقة في ختامها.
في إيران ينقسم الشعب، بين أحياء وأحياء، ومدينة وريف، ومتشددين ومنفتحين، ومؤيدين لولاية الفقيه- الحالي على الأقل- ورافضين لها. فإذا جمعنا إحدى الجهتين مع ترسانة النظام من جيش وقوات تعبئة وحرس ثوري وأجهزة استخبارات وبنية بيروقراطية أسهم أحمدي نجاد بتسليمها لأنصاره بكثافة، مع الجسم القضائي وبقية «المؤسسة» وترهيب ولاية الفقيه بمسائل الجنة والنار عند تبسيطها؛ عندئذٍ لا يمكن للربيع إلاّ مواجهة لهيب الصيف سريعاً، ما لم يستطع الصمود حتى تتغير بعض عوامل الثبات، إن كان لها أن تتغير.
استطاع مشروع الهوية الذي أحلّته ثورة الخميني بديلاً من قومية الشاه الآفلة أن يحمل قوة دافعة كبيرة لجدّته وطموحه إلى إدخال المكوّن الديني في خطة التحديث بالمشاركة الشعبية. كان العقد الاجتماعي الجديد يسلّم الحكم الأخير للولي الفقيه في مقابل حرية معقولة في اختيار من هم أدنى، مع تنمية تكفي لتشغيل الناس وكسب البازار.
وأصبح هذا المشروع مأزوماً بعد الخميني، لأنّه على قياسه، ولأن عطالة الحركة الثورية كانت تكفيه وحده. فقد ابتدأت أزمات الحريات والحداثة والعمل والاقتصاد، ولم يكن لدى خامنئي من المتاع ما يكفي، رغم محاولة النفخ الأخيرة في كور الحدّاد (أو ابنه) من طريق التأزيم والإثارة الحربية أمام الأميركيين والإسرائيليين، ثم في المأزق النووي.
كان معروفاً أن ولاية الفقيه ليست كافيةً لصناعة أمة حتى لو كانت «ديمقراطيتها» إلى جانبها، وأنها عكس ذلك، مجرد خلطة مبتكرة للاستبداد والحرية. فالديمقراطية تستلزم مواطنين ومواطنة ومساواة وعدالة، ومن دونها جميعاً- كملاطٍ لاصق- لا تصمد مكونات الهوية الأخرى، قوميةً كانت أم عرقية أم دينيةً. ومهما كانت قوة وعمق العامل الديني في مراحل الصعود القصيرة في عمر الشعوب، فهو يغدو لا يمنع الفرقة مع غياب المادة الجامعة تلك. رغم أن ذلك كان معروفاً، فإن الإحباط والفشل المستمر جعلا من المغامرة شيئاً جميلاً، فأن يستطيع الخميني جمع الروح والجسد في مشروع واحد كان «فكرة» ممتازة للضعفاء والكسالى.
الآن، أدخل خامنئي نفسه في النقاش العلني منذ خطبة الجمعة التي أعلن فيها انحيازه إلى جانب أحمدي نجاد، وسوف يتطور الأمر بعد أن لم يعد مجرّد احتجاج يتناول الأخير وشرعيته، بل امتدّ، وسوف يمتدّ أكثر، إلى مقام الولي الفقيه.
ليس مصادفة أن يكون خامنئي هو القائد الأعلى للجيش، ويتمّ تنفيذ مناورات جوية في الخليج في عزّ الأزمة ويكون اسمها «ميلاد نور الولاية» التي أخذ ظلها على الأرض الإيرانية شكل هراوة هائلة، ولا أن يتدخّل الحرس الثوري بتهديد فظٍّ بالسحق إذا استمرت الاحتجاجات. لم يكن استخدام الجماهير الموالية كافياً (أو ممكناً؟)، ولا قوات مكافحة الشغب والاستخبارات، بل تطلّب الأمر تهويلاً صاعقاً، ليس ممكناً توقّع اتجاه تأثيره السلبي أو الإيجابي. لكن المؤكد أنه مهما أنتج من الرماد، لا يستطيع إخماد الجمر دائماً.
باراك أوباما بعد ثمانية أيام من يوم الانتخاب، في رده على صحافي سأله إذا ما كان لا يزال مصراً على الحوار مع الحكومة الإيرانية، كان أقلّ تأكيداً من السابق بقليل، وأقل تأكّداً بكثير، على تعبير هيلين كوبر في النيويورك تايمز.
ما نشاهده الآن مفاعيل وأفاعيل الاستبداد، بعد أن شاهدنا بعضاً رائعاً مما تنتجه الحرية، مهما كانت مقيدة. وما لم يتراجع القائد المطلق ويسهم بسرعةٍ في استخلاص تسوية تساعد على تبريد تجليات الخلاف، فإن أشكالاً جديدة من الحكم والمعارضة سوف تظهر بسرعة مقابلة.
ولنا أن نستفيد من تجربة الحدّ الأقصى من إضفاء الدين جوهراً للهوية الوطنية مضادّاً للمواطنة والديمقراطية، في تجارب الحدّ الأدنى بقليل، التي تثقلنا حتى الآن.
* كاتب سوري