صفحات أخرى

حريم برلوسكوني

تتوالى فضائح سيلفيو برلوسكوني منذ شهرين، وتلاحق الصحافة الإيطالية أخبار نسائه بلذة كبيرة، وبأدقّ التفاصيل، بين قصره في سردينيا وقصره في روما. بعدما عُرف بكنية “الفارس”، حظي رئيس الوزراء الإيطالي بألقاب جديدة منها “الشيخ” و”الخليفة” و”السلطان”، وبات الحديث عن “حريم برلوسكوني” مألوفا لا يثير أي دهشة. في انتظار نهاية فصول هذا المسلسل الطويل، يحاول المراقبون السياسيون تحليل كيفية انزلاق الدولة الإيطالية “من الحكومة البرلمانية إلى السلطنة”.
في السابع عشر من شهر نيسان لعام 2007، نشرت مجلة “اوجي” (اليوم) الإيطالية مجموعة صور التقطت خلسةً يظهر فيها سيلفيو برلوسكوني برفقة خمس صبايا في قصره القائم في سردينيا، أي في “فيلا شيرتوزا”. احتلت الغلاف صورة كبيرة يبدو فيها رئيس الوزراء الإيطالي وهو يمسك بيمناه يد صبية صهباء، وبيسراه يد صبية سمراء، وكان العنوان: “من سردينيا، صور لا تُصدَّق سيُحكى عنها لسنين”، وبالخط العريض: “حريم برلوسكوني”. على القسم الجانبي من الغلاف، نشرت المجلة ثلاث صور أخرى لصاحب الفيلا مع صديقاته. في الصورة العليا، نراه مع خمس منهن. في الصورة الوسطى، نراه خلف صبيتين تجلسان على ركبتيه في حضور صبية ثالثة تجلس عن يمينه. الصورة السفلى التقطت من الخلف، وفيها نرى برلوسكوني يمشي ممسكاً بيديه يدَي صبيتين تشاركانه نزهته. عنوان الصورة الأولى: “خمس بنات له من الممكن أن يكنّ كافيات”، وهو مستعار من أغنية شهيرة للوشيو باتيستي يعرفها كل إيطالي. عنوان الثانية: “على ركبتي سيلفيو السلطان”. أما عنوان الثالثة، فهو “محتار بين الشقراء والصهباء”. نشرت “أوجي” صورا أخرى في ملفّها المؤلف من اثنتي عشرة صفحة، وظهر سيلفيو على صفحة منها يتمشى بين السمراء والصهباء: “تحت السعف، الفارس خليفة”، والمعروف أن “الفارس” لقب برلوسكوني، وهو الاسم الذي يُعرَف به في كل وسائل الإعلام الإيطالية.
تُعتبر “أوجي” مجلة اجتماعية شعبية واسعة الانتشار، وقد طبعت من هذا العدد مليوناً وخمسين ألف نسخة نفدت سريعا، وبات الحديث عن “حريم برلوسكوني” مألوفا يتكرر في كل موسم. نجح الجمهور في الكشف عن هويتي الصهباء والسمراء لكونهما من الوجوه التلفزيونية التي ظهرت قبلاً على شاشة القناة التي يملكها برلوسكوني. الصهباء هي أنجيلا سوزيا والسمراء هي باربارا بيدروتي، ولهما في المجلات لقطات تظهران فيها عاريتي الصدر، كما ان لهما اهتمامات سياسية مشتركة، فهما من المتحمسات لحزب “فورزا إيطاليا” الذي أنشأه الفارس، وقد قدمتا إلى “فيلا شيرتوزا” للاشتراك في الاجتماع الخاص بشبيبة هذا الحزب، وهذا ما أكّده برلوسكوني. بحسب الرواية، جلست كلٌّ منهما على ركبة من ركبتي الفارس لالتقاط صورة تذكارية، ولم يكن على المقعد الصغير مكان آخر بسبب جلوس رفيقتهما الى يمين الفارس. حاولت صحيفة “ليبرو” (الحر) أن تحدد هوية الصبيات الثلاث اللواتي ظهرن إلى جانب أنجيلا وباربارا، واقترحت ثلاثة أسماء من دنيا التلفزيون والعرض، إلا أن صاحبات الشأن أنكرن هذا التشخيص، ولا يزال الجمهور الإيطالي مشغولا بالتعرّف الى الصبايا. لم تشكّل الصور التي نشرتها “أوجي” صدمة، ولم تكن مفاجئة، فـ”الفارس” معروف بحبّه لـ”فتيات الإستعراض”، وقد دفعه هذا الحب إلى الإعلاء من شأنهنّ، وصولا إلى اختيار بعضهن لمناصب عالية في الحكم في مرحلة لاحقة، أشهرهن في هذا المجال مارا كارفانيا، صاحبة لقب “أجمل وزيرة في العالم”. فقد اختارها برلوسكوني لمنصب “وزارة تكافؤ الفرص” في أيار 2008، مما أثار موجة من الانتقاد، فهي “موديل” معروف، ولها صور “مثيرة” لا تحتاج إلى تعليق.
المومياء
وُلد برلوسكوني في ميلانو عام 1936، ونشأ في كنف أسرة متواضعة. صنع نفسه بنفسه، وبرز كرجل إعلام، ثم أنشأ أمبراطورية إعلامية، ونجح في تكوين ثروة طائلة جعلت منه أغنى أثرياء إيطاليا. تزوج في عام 1965 من كارلا دلوليو، وانجب منها ولدا وبنتا هما اليوم من أكبر رجال وسيدات الأعمال في إيطاليا. يظهر العروسان في صورة صحافية نُشرت في اليوم التالي لزفافهما، ويقول التعليق إن سيلفيو التقى بكارلا أمام محطة القطار المركزية، وكانت تنتظر الأوتوبيس، فعرض عليها مرافقته في سيارته: “نراهما الآن في صورة زفافهما الذي تم في السادس من آذار 1965، مسرورين وسعيدين”. عام 1980، تصدّع هذا الزواج حين هام سيلفيو بممثلة ناشئة تصغره بعشرين عاما تُدعى فيرونيكا لاريو، واسمها الحقيقي ميريام رافايلا برتوليني. رآها للمرة الأولى يوم كانت تقف على خشبة “مسرح منزوني” في ميلانو الذي يملكه، وكانت تلعب دور البطلة في مسرحية “المخدوع الرائع”، فطلب مقابلتها عند انتهاء العرض، وسرعان ما تعلّق بها. أنجب منها إبنة في عام 1984 قبل أن يتم طلاقه من زوجته في العام التالي، ثم ساكنها وأنجب منها بنتا أخرى في عام 1986، وصبياً في عام 1988. تزوج العاشقان مدنياً في نهاية عام 1990. في عام 1944، دخل برلوسكوني عالم السياسة وأنشأ حزب “فورزا إيطاليا” الذي فاز في الانتخابات التشريعية، وتولى منصب رئيس الوزراء، غير أنه اضطر للاستقالة من منصبه بعد بضعة أشهر. عاد إلى منصب رئيس وزراء إيطاليا في حزيران 2001 بعد فوزه في الإنتخابات على رأس ائتلاف “منزل الحريات”، وتسلّم الحكم حتى عام 2006. استعاد موقعه بعد عامين، ولا يزال إلى اليوم رئيساً للوزراء، وهو حيوي ونشيط، وقد أخضع نفسه لعمليات عدة لتجميل الوجه، وزرع الشعر في رأسه كي يبدو أصغر سنا، وتلقّبه الصحافة المعارضة بـ”المومياء”.
طوال هذه السنوات، لم تظهر فيرونيكا إلى جانب زوجها إلا في ما ندر، وأبدت في أكثر من موقع آراء اعتبرت معارضة لمواقفه. ظهر الخلاف بين الزوجين في نهاية كانون الثاني 2007 حين نشرت الزوجة في صحيفة “لا ريبوبليكا” (الجمهورية) اليسارية رسالة تطالب فيها برلوسكوني بالاعتذار منها على الملأ بعدما تمادى في “التغزل” بغيرها من النساء على شاشة التلفزيون. أطاع “الفارس”. اعتذر بكلام أدبي رنّان، لكن الأمور ساءت من جديد مع تجاوز زوجها كل الحدود في تودده إلى الصبايا. في الثالث من أيار 2009، اختارت فيرونيكا من جديد صحيفة “لا ريبوبليكا” لتوجه كلامها بشكل غير مباشر إلى زوجها تحت عنوان: “لقد اتخذت قراري، أطالب بالطلاق”. جاءت هذه الرسالة بعد مداخلة من السيدة برلوسكوني انتقدت فيها بشدة اختيار زوجها حسنوات من عالم “الاستعراض” ضمن لائحة مرشحي حزبه لخوض انتخابات البرلمان الأوروبي. دافع برلوسكوني عن اختياره مرشحات وصفتهن زوجته بأنهن “حثالة تبعث على الخجل”، وتابع: “لم ندرج مطلقا أيّ فتاة استعراض في القائمة. واللواتي استبعدناهن في اللحظة الأخيرة هن فتيات مؤهلات ومتعلمات تعليماً رفيعا. للأسف، صدّقت فيرونيكا الكثير من الأشياء غير الدقيقة التي كتبتها الصحافة”. أحدث كلام الزوجة زلزالا في الحياة السياسية الإيطالية لا يزال دويّه يتردد حتى اللحظة. قالت: “أريد أن أتجنّب الصدام”، لكن كلامها جاء حادا وقاطعاً: “أنا مقتنعة بأنني يجب ألا أتوقف عند هذا الحد. طريق زواجي تنزف. لا يمكنني أن أبقى مع رجل يصاحب القاصرات”. تحدثت فيرونيكا عن “العذارى اللواتي يهبن أنفسهن الى التنين لجني النجاح والشهرة والربح المادي”، وأعربت عن ذهولها تجاه “هذه الخيمياء الغريبة التي تجعل البلد كله يطيع كل ما يريده أمبراطوره ويبرره”. ورأت أن رفيق دربها صار “غير سويّ”، وأنه يحتاج للعلاج. جاء هذا الحديث عن “العذارى” بعد نشر صورة لسيلفيو برلوسكوني في حفل عيد ميلاد “عائلي” أقيم على شرف صبية شقراء من نابولي بلغت يومذاك الثامنة عشرة من عمرها، وتُدعى نويمي ليتيسيا، مع العلم بأنه لم يحضر أيّاً من أعياد ميلاد أولاده الثلاثة عند بلوغهم هذه السن، كما أشارت الى ذلك والدتهم فيرونيكا.
اللقطات البريئة
تولّت وسائل الإعلام المقرّبة من برلوسكوني الردّ على فيرونيكا لاريو، ونشرت صحيفة “ليبرو” على صفحتها الأولى ثلاث صور تعود إلى زمن عرض “المخدوع الرائع” على خشبة “مسرح منزوني”، منها صورة تظهر فيها البطلة عارية الصدر. رافق هذه الصور تعليق لئيم يذكّر فيرونيكا بأنها هي الأخرى كانت يومذاك ممثلة مجهولة، شبيهة بالفتيات اللواتي تحتقرهنّ اليوم. في المقابل، دعت صحيفة “إيل فوليو” (الورقة) برلوسكوني إلى إعلان استقالته في الرابع والعشرين من تموز، أي في اليوم الذي أعلن فيه موسوليني استقالته بعد سقوط نظامه. تجدر الإشارة الى أن فيرونيكا لاريو تموّل جزئيا هذه الصحيفة، وصاحب مقالة “24 تموز” جوليانو فرّارو، وزير سابق في أول حكومة ألّفها برلوسكوني. من جهته، تحدّث “الفارس” عن العلاقة البريئة التي تربطه بنويمي ليتيسيا مدعياً بأن والدها كان سائقا للزعيم الاشتراكي بتينو كراكسي، وبأن معرفته به تعود إلى ذاك العهد، ونشر في مجلة من المجلات التي يملكها صورة عائلية يظهر فيها مع نويمي ووالديها. اتضح أن هذه الرواية كاذبة، فالصورة “مفبركة” على “الفوتو شوب”، ووالد الشقراء النابوليتانية لم يكن في يوم من الأيام سائقا لزعيم الاشتراكيين، على ما أكّد إبن كراكسي. نشرت الصحافة “الشعبية” الكثير من صور نويمي المثيرة، وظهرت الصبية أمام صور لـ”بابي” ممهورة بتوقيعه وإهدائه، وكشفت بفخر عن العقد الثمين الذي قدّمه اليها كهدية منه. أجرت الصحافة مقابلة مع عامل شاب يدعى جينو فلامينيو، وهو الـ”بوي فرند” الذي هجرته نويمي بعدما تقرّبت من “الفارس”، وجاءت روايته مغايرة تماما لرواية برلوسوكني. بحسب هذه الشهادة، كانت الصبية القاصر تحلم بالدخول إلى عالم التلفزيون، وأرسلت إلى برلوسكوني ألبوم صورها كـ”موديل” لهذا الغرض، وقد اتصل بها برلوسوكني مباشرة بعد تلقيه هذا الألبوم، وتكرر الاتصال بينهما، وصارت تناديه “بابي”، وباتت تزوره في روما وميلانو وسردينيا. الغريب أن هذه الزيارات كانت تتم بمعرفة أهل نويمي، وأن الصور المثيرة التي جمعتها في الألبوم التقطت في حضور والدتها التي تظهر في البعض منها، مما جعل البعض يشك في كون نويمي ابنة غير شرعية لسيلفيو. استمر هذا السجال مع خروج وثائق أخرى تشهد لقوة العلاقة التي تربط برلوسكوني بالصبية ووالدتها، ومنها صورة تظهر فيها نويمي وأمّها في حفل ضم أقرب المقرّبين إلى رئيس الوزراء، وهما رئيس شركة “ميدياست فيديل كونفولونييري”، ومدرّب فريق ميلانو لكرة القدم كارلو أنشيلوتي.
توارت نويمي عن الشاشة قبل أن تنجلي حقيقتها، والسبب بروز فضائح جديدة تتعلق بـ”حريم برلوسكوني”. تعود الصور التي نشرتها مجلة “أوجي” عام 2007 إلى شخص يُدعى أنطونلو زاباتو، وهو مصور فوتوغرافي من سردينيا دأب على ملاحقة مجريات “فيلا شيرتوزا”، ويقدَّر عدد الصور التي التقطها خلال السنوات الأخيرة بخمسة آلاف لقطة. نجح محامي برلوسكوني في الحصول على قرار من المحكمة يقضي بمنع نشر أيٍّ من هذه الصور كونها صورا “خاصة” التقطت في دار “خاصة”، غير أن هذا القرار لم يمنع زاباتو من بيع بضع لقطات فضائحية لصالح صحيفة “ال باييس” الاسبانية، ونُشِرت هذا الصور بعد إجراء عملية “تمويه” لوجوه الأشخاص الحاضرين فيها. خرجت هذه اللقطات إلى النور بينما كان برلوسكوني يواجه تحقيقا في استخدامه طائرات حكومية لنقل ضيوفه إلى “فيلا شيرتوزا”، وتبيّن إحداها “الفارس” محاطا بنساء عاريات، بينما تكشف لقطة أخرى عن صبيتين ممددتين في الشمس، عاريتي الصدر. في لقطة ثالثة، نرى رجلا عارياً تماما قرب المسبح، وهو كما يقال رئيس وزراء تشيكيا السابق ميريك توبولانيك، غير أن وجهه تعرّض للمحو. سأل محاور إذاعي برلوسكوني عن رأيه في هذه الصور، فأجاب: “هل تستحمّ مرتدياً سترة وربطة عنق؟ هؤلاء كانوا يستحمون في الجاكوزي داخل منزل خاص مخصص للضيوف. هذه لقطات بريئة. ليست هناك فضيحة، لكن هذا انتهاك للخصوصية واعتداء فاضح”. عاد محامي برلوسكوني ليشنّ حملته على زاباتو و”ال باييس” لمنع ظهور لقطات جديدة، وتحدث المصوّر عن صور مثيرة، منها لقطات لحفل تمثيلي يقوم فيه “الشيخ” بعقد زفافه على صبية من صبايا حريمه، لكن الأنظار توجهت إلى دار أخرى من ديار برلوسكوني العديدة، وهي “بالازو غرازيولي” في روما.
من سردينيا إلى روما
ظهرت هذه الفضيحة الجديدة من طريق الصدفة خلال إجراء شرطة مدينة باري في محافظة بوليا الجنوبية سلسلة تحقيقات تتعلق بممارسات رجل أعمال مقرّب من برلوسكوني يُدعى جيان باولو تارانتيني، واكتشفت أن الأخير مسؤول عن إحضار ما يُعرف بـ”بنات الرفقة” إلى الحفلات التي تُجرى في قصر غرازيولي، وذلك مقابل مبالغ مالية. قاد هذا التحقيق إلى العديد من “البنات” اللواتي يرافقن “الفارس” في سهراته، واحتلت الصورة الأمامية مرشحتان من لائحة “بوليا قبل كل شيء”. اسم الأولى باتريزيا داداريو، في الثانية والأربعين، ظهرت في روزنامة مثيرة تعود إلى عام 2004، وفيها اثنتا عشرة لقطة لها شبه عارية، وهي من معارف برلوسكوني كما يشهد شريط إخباري من أرشيف التلفزيون. أما الثانية، فهي بربارا مونتريالي، في الثالثة والعشرين، أمضت في “بالازو غرازيولي” يومين لن تنساهما أبدا، وشاركت في حفل أقيم في “فيلا شيرتوزا”، وعادت بمجموعة من الحلى تعرضها اليوم باعتزاز وفخر، أسوة بنويمي ليتيسيا. تؤكد باتريزيا أنها رافقت برلوسكوني إلى غرفة النوم، وأنها أمضت معه الليل، ولديها تسجيل صوتي يثبت بالدليل القاطع ما تقوله. من جهته، ردّ رئيس الوزراء الإيطالي بقوله: “لم أدفع طوال حياتي مبلغاً من المال لامرأة. ولم أفهم قط أين يكمن الرضا عندما يفتقد المرء متعة انتزاع الإعجاب”. تتذكر مرشّحتا لائحة “بوليا قبل كل شيء” تلك الحفلات التي يجتمع فيها “الشيخ” بحريمه مع كلب الكانيش الذي أهدته اليه زوجة جورج بوش، وكيف تناديه الصبايا بعبارة “بابي”، وهو وسطهن فكأنّه في قصر للحريم. تضيف باتريزيا أنها تعرف عالم قصور الحريم عن كثب كونها عملت في دبي من قبل، وتضيف: “يحترم الشيوخ نساءهن على طريقتهم الخاصة. أما ما رأيته عند برلوسكوني فلم يعجبني. هناك لا وجود إلا للشيخ، أي هو”.
غداة هجمات11 أيلول2001 في أميركا، أثار سيلفيو برلوسكوني حفيظة الكثير من الناس في الشرق كما في الغرب عندما زعم في برلين أن الحضارة الغربية تفوق في منزلتها حضارة الإسلام، وقال: “يجب أن نعي بأفضلية حضارتنا، فالشرق سيستمر في التوجه نحو حضارة الغرب، وسيزداد هذا التوجه، لقد حدث ذلك في العالم الشيوعي، وحدث أيضاً في أجزاء من العالم الإسلامي”. ردّ وزير خارجية بلجيكا لويس ميشال وقال: “إذا تحدث رئيس وزراء دولة عضو في الاتحاد الأوروبي بهذا المنطق، فإن ذلك مرفوض تماماً، فاعتبار أن حضارة ما أفضل أو أن لها مكانة أرقى من الحضارات الأخرى يعدّ تعارضاً مع القيم الأوروبية التي نؤمن بها جميعاً”. بدوره، أدان الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى تصريحات برلوسكوني ورأى فيها “عنصرية” تتخطّى “حدود اللياقة والتفكير المنطقي”. تحول برلوسكوني في العالم الإسلامي إلى “صليبي” له تاريخ طويل في “الإساءة الى الإسلام والمسلمين”. صحيح أن الرجل سعى إلى مد الجسور بينه وبين الكنيسة منذ دخوله عالم السياسة، وقد حرص على نشر لقطات تصوّره وهو يقبّل يد البابا يوحنا بولس الثاني، كما حرص على التقاط صور مماثلة مع البابا بينيديكتوس السادس عشر، إلا أن “الفارس” لم ينل البتة صبغة كاثوليكية في الإعلام الإيطالي اليميني واليساري. بشكل عام، وجدت كنيسة روما في برلوسكوني حليفا استراتيجيا في حربها على خصومها التقليديين، لكنها لم تر فيه إبنا مخلصا يتبع ناموسها بأمانة، ولا تزال العلاقة بين سلطتها وسلطته “ملتبسة”. وفي حين تشن الصحافة اليسارية حملة واسعة على صاحب “الحريم” تقودها صحيفة “لا ريبوبليكا”، يظهر نقد الصحافة الكاثوليكية له خجولا للغاية. في الماضي القريب، علت أصوات المثقفين في نقدها لبرلوسكوني كظاهرة اجتماعية خطيرة، وكان أبرز المناوئين لسياسته أمبرتو إيكو وأنطونيو تابوكي ونانّي موريتي. ويبدو أن موقف “القرف” لم يبق أيّ مكان لموقف الرفض، وهذا ما أشار إليه الأديب فنشنزو كونسوليو في مقالة نُشرت حديثا في صحيفة “لونيتا” (الوحدة). وبينما تذكّر الصحافة “الإسلامية” في كل مناسبة بمواقف برلوسكوني “المسيئة الى الإسلام والمسلمين”، تصور الصحافة الإيطالية رئيس وزراء دولتها “شيخاً” يحيط به حريمه أينما حلّ، كما في قصص “ألف ليلة وليلة”. هو الخليفة، وهو العالم بـ”اختلاف أحوالهن، والتلذذ بما يشتهي منهن”، كما نقل ابن الجوزي في كتاب “الأذكياء”، وما من أحد “له قدرة واتساع على الاستمتاع بالنساء” مثله. هو الأمير وهنّ الجواري، ومنهن “الطويلة الطويلة التي تُشتهى لجسمها، والبيضاء التي تحب لروعتها، والسمراء اللعساء، والصفراء العجزاء”، “ذوات الألسن العذبة والجواب الحاضر”.
مع توالي فصول مسلسل “حريم برلوسكوني”، دعت مجموعة من الأكاديميات الإيطاليات زوجات زعماء الدول الثماني الكبرى إلى مقاطعة الاجتماع المقرر الشهر المقبل لمجموعة دول الثماني في إيطاليا، احتجاجاً على موقف رئيس حكومتهم سيلفيو برلوسكوني الذي ينطوي على تمييز جنسي ضد النساء. في المقابل، أعلن “الفارس” أن ما كتبته الصحافة عن حياته الشخصية لا يعدو كونه “قمامة”، وقال: “لن أتغير. الإيطاليون يريدونني هكذا، وتأييدهم لي لا يقل عن 61 في المئة. يشعرون بأني طيب كريم، مخلص، وبأنني أفي بوعودي”.
باتت صورة “السلطان” أكبر من صورة “الفارس”، وقبل ظهور فضائح الأشهر الأخيرة، نشر الأكاديمي جيورجيو سارتوني كتابا حول ظاهرة برلوسكوني اختار له عنوان “السلطنة”، ورأى فيه أن الإيطاليين انتخبوه لأنهم مثله أو لأنهم يريدون أن يكونوا مثله، وهو يدير البلاد كحاكم شرقي، مختاراً ما يحلو له من الوزراء، ومُبعداً منهم ما يحلو له، وكأنّهم من الخدم. “والسلطان يحتاج إلى حريم، وسلطته تكبر متى صنع هذا الحريم”. تستعيد مجلة “الإكسبرسّو” قصص برلوسكوني مع النساء والسياسة، وتختار لمقالها الطويل العنوان الذي احتل غلاف مجلة “أوجي” منذ سنتين: “حريم برلسكوني”. من جهتها، تتوجه صحيفة “لونيتا” (الوحدة) بعشرة أسئلة تتعلق بالحدود التي تفصل بين العام والخاص، والسؤال الأخير هو: عظمت وسطية الحريم السياسية الثقافية حتى بتنا نشهد انزلاقا سورياليا في المؤسسات، وانتقلنا من الحكومة البرلمانية إلى السلطنة. هل هذا التحوّل شأن خاص أم هو شأن عام؟ ¶

محمود الزيباوي
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى