“الإنسان المهدور، دراسة تحليلية نفسية إجتماعية” لمصطفى حجازي
خالد غزال
تحت المجهر الأسود أسود والأبيض أبيض
على رغم انقضاء اكثر من نصف قرن على نيل البلدان العربية استقلالها، وعلى رغم مشاريع التنمية البشرية الشاملة التي انخرطت فيها، يتكشف العالم العربي ومجتمعاته في الزمن الراهن عن حجم التخلف الهائل في جميع مناحي الحياة. تبدو اكثر اشكال التخلف تمظهرا من خلال انعكاسها على الانسان العربي الذي يعيش مأزقا كيانيا يجعله في حال من العجز، مستسلما لقدره، يعاني مرارة الحياة الصعبة المفروضة عليه، وهي امور تنعكس على حياته النفسية وسلوكه اليومي وعلاقته بالمجتمع. وقد شكلت انعكاسات التخلف هذه مادة دراسات في علم النفس الاجتماعي، تصدى فيها الباحث مصطفى حجازي بعمق لتحليل شخصية الانسان العربي ونفسيته ومأزقه الكياني في عدد من ابحاثه وكتبه. يشكل كتابه “الانسان المهدور، دراسة تحليلية نفسية اجتماعية” الصادر عن “المركز الثقافي العربي” في الدار البيضاء وبيروت غوصا في قلب المجتمعات العربية وطبيعة مساراتها.
يحدد حجازي الهدر الانساني بأنه “التنكر لانسانية الانسان وعدم الاعتراف بقيمته وحصانته وكيانه وحقوقه”. فالهدر العام يطول اوسع الفئات في المجتمع، بل قد يصيبه بأكمله، لانه يحوي عمليا انماطاً من السلطة السياسية القائمة على الاستبداد والطغيان وحكم الاجهزة الامنية. في هذا المعنى يمكن الجزم بأن غالبية المجتمعات العربية تخضع لهذا الهدر بحكم استوائها على انظمة استبدادية تتحكم بمصيرها. وينسحب الهدر العام على نهب الثروات العامة وتوظيفها خارج المصلحة العامة، مما يبقي المجتمعات اسيرة الفقر والأمية وازدياد البطالة وتهميش الاجيال الشابة، وينعكس احباطا ويأسا على فئات واسعة من المجتمع، ويتسبب بمشكلات سياسية واجتماعية وفوضى. لكن الاخطر هو تحول الهدر الى ارض خصبة تنبت الارهاب والتطرف على مختلف اشكاله.
يطل الهدر القضايا الوطنية العامة عندما ترتد المجتمعات الى مقومات ما قبل الدولة وتصبح اسيرة منطق القبيلة والعشيرة والطائفة، فتنتفي المواطنية ويتحول الفرد عضواً في مجموعة تحدد له خياراته وتوجهاته، بحيث يتحول الانفكاك عنها تمرداً غير مقبول عليها. ينجم عن هذا الانتماء نوع من الانعزال والهامشية وتقلص الوعي الى حدود المجموعة التي ينتمي اليها هذا المرء. يرى الانسان نفسه وقد فقد حقه في الاختيار وتحدد مصيره بالعلاقة مع ما تنص عليه قوانين المجموعة.
استتباعا للهدر الوطني العام والقوانين التي يفرضها، تتدخل الثقافات والتقاليد البائدة لتحدد للانسان مجرى معينا في تصرفاته، فتدخل عناصر التحريم والتحليل والمسموح وغير المسموح التفكير فيه او ممارسته. يتخذ الامر طابعا ابعد عندما تصبح المؤسسات الدينية مصدرا لانتاج هذا الهدر الانساني من خلال فرض قواعد في الاعتقاد والسلوك والتفكير تسجن الانسان في قفص حديد، وتحدد للوعي ميادين من الصعب الخروج منها من دون ان يتعرض لهدر في وجوده وحياته العامة والخاصة وصولا الى هدر دمه اذا تجاوز خطوطا حمرا تفرضها هذه المؤسسات عبر قوانين المسموح وغير المسموح.
واذا تجاوزنا الاطار المحلي للهدر الانساني، فإن التطورات التكنولوجية وثورة المعلومات وامحاء الحدود الجغرافية بين الدول، وما تنتجه العولمة وتنشره في شتى انحاء العالم انجازات مادية وفكرية واعلامية، تخترق الانسان وتؤثر فيه، سواء أرغب في ذلك أم لم يرغب، وتتسبب بهدر وعيه وتزويره وتوجيهه احيانا خارج ما يتوخى ويأمل. يتسبب الهدر الناجم عن العولمة بانفصام الشخصية وخصوصا في مجتمعات متخلفة كما هي حال مجتمعاتنا، وتطول بشكل خاص جيل الشباب والمثقفين الذين يصعب عليهم المواءمة بين ما ترميه العولمة من معطيات على شتى الصعد، وبين ما هو مترسخ لديهم من ثقافة وتقاليد، فيعانون صراعا بين الرفض والانخراط، مما يتسبب بتمزق داخلي تنعكس آثاره السلبية على مجمل كينونتهم. يفاقم الاعلام وثورة الاتصالات من هذه الفجوة بين العلم ومكتسباته وكيفية الافادة منه، وتحويل هذه المنتجات سلعاً استهلاكية يصعب عليه مقاومة اغراءاتها.
تعاني المرأة في مجتمعاتنا هدراً مضاعفاً في كينونتها وموقعها الانساني وفي علاقتها بالمجتمع والرجل على السواء. يتجلى ذلك في حرمانها الكثير من حقوقها والتعاطي معها وفق تمييز يحط من كرامتها وحقها في الوجود والمساواة مع الرجل. تتضافر الثقافة والتقاليد السائدة تاريخيا في مجتمعاتنا المتخلفة، مع ما تسعى المؤسسات التقليدية سواء انتمت الى العصبيات أو الى الانتماء الديني، في ابقاء المرأة في سجن الاستبداد التقليدي وحرمانها من حقوقها الانسانية. فالمرأة تشكل اليوم اكثر من نصف المجتمعات العربية عددا، لكن موقعها في تنمية المجتمع وتطويره لا يتناسب مطلقا مع حجمها، مما يحرم المجتمع طاقات حية يمكن ان تلعب دورا مؤثرا في تطويره اذا اتيح التوظيف الصحيح لهذه الطاقات. من جهة اخرى، فإن احد مقاييس تعيين موقع مجتمع ما، تأخرا او تقدما، يقوم على درجة الحرية المعطاة للمرأة ومدى تمتعها بالمساواة في الحقوق والواجبات مع الرجل، ومن المسلّم به أن مجتمعاتنا العربية تقع في درجة دنيا من التقدم وفق هذا المقياس.
قد تكون اكثر علامات الهدر الانساني شيوعا في مجتمعاتنا تلك المتصلة بالعلاقة مع الآخر ومدى قدرة المجموعات والقوى السائدة على التعايش بعضها مع البعض وفق منطق القبول المتبادل بصرف النظر عن الاتفاق او الاختلاف في الرأي والعقيدة والالتزام السياسي. وهذا يعود الى غياب الديموقراطية وسيطرة الفكر الاحادي الاقصائي والاستئصالي على مجمل الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. تقوم الديموقراطية على مبدأ تندرج تحته كل القيم، الا هو “الاعتراف بالآخر” بكل ما يعنيه من تمايزات وتباينات. غياب الديمقراطية، ثقافة وممارسة، يفسر سبب وجود انواع الهدر السائدة مجتمعاتنا والتي تكبل الانسان العربي بقيود غليظة.
كثيرة هي الميادين الاخرى يشير حجازي الى كونها تندرج في خانة الانسان العربي المهدور، ويحتل التشديد عليها موقعا مهما في وعيها، لكن الاصعب يكمن في كيفية تجاوزها نحو بناء انسان عربي سويّ، وهي مهمة تقع على المجتمع بأكمله، وعلى القوى المؤمنة بوجوب تحرر الانسان العربي من القيود التي تسجنه وتحدّ من تطوره.