الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّورية

موقع ولاية الفقيه في السياسة الإيرانية الراهنة

شمس الدين الكيلاني
استقر رأي “الإمامية” الإثني عشرية على أن الإمامة ليست شأناً تقرره الجماعة / الأمة/، “بل ركن الدين، وقاعدة الإسلام، وأكدوا على (وجوب الإمام، والعصمة، ووجوب النص)، وأن عليّاً وولده الأحد عشر أحق بالخلافة من كل أحد، وأنهم أفضل الخلق بعد الرسول”. وبات الإمام “حجة يهدى بها إلى الله، من تركه هلك، ومن لزمه نجا”. وانتهت الإمامية إلى الاعتقاد “أن الله لا يخلي الأرض من حجة على العباد من نبي أو وصي ظاهر مشهور أو غائب مستور”. ويبدو أن هذه النظرية صيغت بعد ما اعتقدوه بغيبة الإمام الثاني عشر الكبرى941م..
لذا اختلفت طريقة تعامل الفقيه الشيعي مع السلطة ومفاهيمه عنها جذرياً، منذ الـ”غيبة”، تراجعت رؤيته السياسية الثيوقراطية لحين عودة الإمام، وانفتح الطريق أمامه للنظر إلى (السياسي) كنشاط دنيوي، إلى حدّ القول بعدم مشروعية العمل لإقامة حكم إسلامي في ظل غياب الإمام المعصوم، لأن الإمام الذي هو صاحب الحق الوحيد في منصب الإمامة، أما في ما عداه فحكم بشري دنيوي، لم يتجاوز “مطلب الفقيه الشيعي آنذاك من أي سلطان سياسي، حتى لو كان شيعياً.. مطلب العدل”.
وبرز اتجاهان في وسط الفقهاء الشيعة بعد الغيبة، أولهما “الإخباريون” الذين استبعدوا أي “مؤسسة دينية” تتوسط علاقة المؤمن بربه، وشددوا على التقيد بتعاليم الأئمة “، ووضعوا “المجتهدين” والمؤمنين البسطاء على المستوى نفسه”، ونأوا بأنفسهم عن أي سلطة أو أي مشروع سياسي في زمن الغيبة، وقد واجه هذا الاتجاه “الاخباري” الذي ساد في “قم، والري”، اتجاها “أصوليا” قاده الشيخ المفيد (413هـ ـ 1021م) والشيخ الطوسي (1067م)، والمرتضي (تـ 435هـ)، حيث سار عليه فقهاء الشيعة ببغداد، أكدوا على دور المجتهد وبذروا فكرة “مؤسسة دينية” شيعية، وقد شجّع هذا الاتجاه السلطان البويهي في بغداد.
وبينما بقي الاخباريون يعتزلون السياسة، مدَّ الأصوليون يدهم للتعاون مع الايلخانيين والصفويين والقاجاريين، وتوجه الفقهاء “الأصوليون” لخدمة دولة التغلب، واستنباط الأحكام اللازمة، لتكيف “التشييع” مع الدولة المتغلبة الشيعية. فكان الشيخ المفيد، أيام البويهيين، قد (عبّر اجرائياً عن أول ملامح “ولاية الفقيه” بينما كان الفقيه محمد بن مكي الجزيني العاملي (1384م)، أول من استعمل تعبير “نائب الإمام” ليحدد صلاحيات فقهاء عصر الغيبة.
وقد جعلت السلطنة الصفوية (1501 ـ 1727م) “المؤسسة الدينية” الشيعية (صدر الصدور)، من أهم ركائزها . واستمرت “مرجعية التقليد” التي تبلورت على يد فقهاء العهد البويهي، تشكل صيغة موازية لصيغة الفقيه المنخرط في المؤسسة الدينية الرسمية “مؤسسة المراتب”، لكن استرجع الأصوليون زمام المبادرة مع محمد باقر البهبهائي (1793م) بدعم من السلطنة القاجارية، فتكرَّس مفهوم “المؤسسة الدينية” ودور (الاكليروس) الديني، فكان أن ظهر القول “بولاية الفقيه المطلقة” على يد الملا أحمد النراقي (1830م)، الذي لم يكن له سابقة في الفقه الشيعي، وحجته في ذلك أنه في غياب الإمام المعصوم، فإن المجتهد يحل محله.
التغيرات الكونية، والاحتكاك بالحياة الأوروبية الدستورية، والشعور بالخطر، وتأثراً “بالإصلاح” العثماني، والفكر الاصلاحي السني (محمد عبده. الكواكبي)، اطلقت الحركة “المشروطية” في إيران داخل “الحوزات الدينية”.وقف علماء المؤسسة الدينية الرسمية مع الشاه ضد الحركة الدستورية (المشروطية) (1905)، بالمقابل فقد وقف معها علماء “الحوزات العلمية” كالسيد عبد الله البهبهائي، ومحمد الطباطبائي بدعم من مراجع النجف: الملا كاظم خراساني، وعبد الله المازنداري، حيث أفتى الخراساني “إن قوانين المجلس الدستوري هي قوانين محترمة، وإطاعتها فرض على جميع المؤمنين”. لكن الضربة الحاسمة أتت من الميرزا محمد حسين نائيتي (1936)، الذي انفرد بالمرجعية الشيعية عام (1920)، فشرَّع “حق ولاية الأمة على نفسها في عصر الغيبة”. وبرَّر فقهياً الحياة الدستورية استناداً الى صيغة الشورى المطبقة في عهد الرسول، الخلفاء الراشدين، وعلى الفقه السلطاني السني، وعلى ما يجب أن تكون عليه السلطة شيعياً في عهد الغيبة، ورأى امكانية اتفاق سني ـ شيعي حول هذه المسألة، وذلك في الظروف التي ساد فيها المنظور التوحيدي للاسلام (الجامعة الاسلامية) على الاصلاحية الاسلامية، بفرعيها السني والشيعي. وشدَّد على أن الانقياد الأعمى للاكليروس الشيعي هو أساس “رسوخ معبودية السلطان”.
إن خطاب النائيني يفضي إلى اعتبار السياسة شأناً مدنياً، يتعلق بمجموع الأمة، وهذا يفتح الطريق واسعاً أمام حياة دستورية تؤكد على حقوق الأفراد في التعبير، وفي إدارة شؤون بلدهم بطريقة ديموقراطية. إلا أن التطورات اللاحقة في إيران (كما هو حاصل في الدولة العثمانية) لن تخدم هذا الخط، جاءت الحرب العالمية الأولى لتعطل الحياة الدستورية، ثم أتى وقوف الغرب مع الشاه ضد الحركة الدستورية، وفيما بعد ضد حركة مصدق وتقوية النزعة الامبراطورية بمساندة أميركية، فانفتح الباب مشرعاً لتقوية “المؤسسة الدينية” ولاسترجاع أطروحة “ولاية الفقيه المطلقة” من جديد نظرياً، ثم عملياً على يد الإمام الخميني، الذي أصبح (الفقيه) عنده مُشرفاً وقائداً روحياً وسياسياً للدولة والمجتمع.
فتحت وفاة الإمام الخميني الطريق أمام مسار جديد، فالسيد علي الخامئني، الذي حل محلّه، لا يرتقي إلى مرتبة (آية الله العظمى) المخصصة للفقيه الجامع لشروط الإفتاء، مما قد يفضى لفصل عملي بين الوظيفة الدينية (مرجع التقليد) والوظيفة السياسية (الولاية العامة)، وقد يقود بدفع من الحركة الشعبية العارمة الحالية، التي انفجرت بدلالة الانتخابات الرئاسية، بشكل موارب إلى فصل الدين عن الدولة. فهل يقود تشابك العلاقات وتنافرها في هرم الدولة، والمجتمع الأهلي، إلى (علمنة) تشق طريقها في قلب دولة ولاية الفقيه، فترجع ايران الى النائيني، لتبني تصوراً اسلامياً مشتركاً يخرج عن دائرة الطوائف. وتبني دولة مدنية دستورية، ديموقراطية دون أن تقطع مع الموروث؟
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى