بعيدا عن المساخر
عبد الحليم قنديل
صحافة النظم العربية ـ عموما ـ هي صحافة مساخر.
وتبدو المساخر ـ في طبعتها الأصلية ـ حين تتحدث صحافة النظم العربية عن إيران، وعن تجاوزات الانتخابات، وعن قوات الحرس الثوري، وعن قمع التظاهرات، وعن اغتيال الديمقراطية، وعن وعن….، وكأن صحافة النظم جادة فعلا، وتقصد ماتقول بالحرف، وكأنها لاتكتب بحبر أمن الدولة، وكأنها تعيش في بحبوحة حرية، وكأنها عاشت جيلا بعد جيل في ظل نظم منتخبة انتخابا نزيها، وليس في ظل نظم تحكم وتورث بالحق العائلي، ولا تعرف ـ من الأصل ـ شيئا اسمه انتخابات، وإذا أجرتها تكلف بها ‘كمبيوتر’ وزارات الداخلية، وتديرها بطريقة ‘مشفرة’ تماما، فلا ناخبين ولا معارك مرشحين، بل هي النتائج المعدة سلفا، والفوز المحفوظ في اللوح المحفوظ، وباستثناءات تؤكد القاعدة الظلامية العامة، وعلى طريقة انتخابات لبنان الخارجة عن نص التزوير . ولا يخلو المشهد من مظاهر فانتازيا سوداء، كأن ترى رئيس تحرير صحيفة مصرية رسمية، يقدر بالكاد على فك الخط، ولا يصوغ جملة عربية سليمة بغير معونة صديق، ثم تراه فجأة، وقد انقلب إلى ثائر ديمقراطي مغوار، ويحدثك ـ بحماس ـ عن التغيير والثورة في إيران، وكأن الأخ ـ بسلامته ـ قد انتقل لمعسكر التغيير والثورة، أو كأنه عضو قيادي في تنظيم ديمقراطي، بينما لم يعرف تنظيما في حياته غير جهاز مباحث أمن الدولة، ولا عرف تظاهرة في حياته غير حشود جنود الأمن المركزي، ولا عرف طابورا انتخابيا في حياته غير طابور الولاء المقدس لسيادة الديكتاتور، وغير تقبيل يد سيادة اللواء ثلاث مرات في اليوم، وغير النوم على أمل ألا تفلت منه كلمة خلال أحاديث الأحلام، وتلتقطها أقرب سماعة بشرية أو تليفونية، ويتحول من خادم لمباحث أمن الدولة إلى ضحية لمباحث الأموال العامة.
وبعيدا عن صحافة المساخر، وعن نظم المساخر، تبدو الحوادث في إيران أقرب إلى الفهم والتفهم، فلسنا ـ في النظر لإيران ـ بصدد جنة أرضية، ولا بصدد ديقراطية كاملة، بل بصدد نظام سياسي حقيقي، وليس عزبة ‘الأب’ الحاكم على الطريقة العربية، ففي إيران الإسلامية نظام فريد خاص جدا، وبتعدد مراكز تأثير يكفل التوازن، بعضها ينتسب إلى أولوية الدين وولاية الفقيه، وأخرى تنتسب إلى التصويت الشعبي الانتخابي،’في مركز الرأس يوجد قرار المرشد الأعلى، وهو ليس منتخبا من الناس، بل منتخب من رجال دين بمواصفات خاصة، وفي فضاء المرشد توجد حرية واسعة ـ لامعقب عليها ـ لمراجع التقليد الكبرى، وفي معية المرشد مجالس ‘الخبراء’ و’صيانة الدستور’ و ‘تشخيص مصلحة النظام’، وفي مركز القوة الصلبة يوجد الحرس الثوري والجيش النظامي، وفي قلب الصورة الناعم ـ وتحت ظل المرشد طبعا ـ توجد مؤسسات منتخبة من الشعب، توجد رئاسة الجمهورية ومجلس الشورى، وهو ما يعني أننا بصدد نظام نصف ديني نصف ديمقراطي، وبصدد نظام يجمع التحكم الديني إلى الانتخاب الديمقراطي، وفيه مزيج من حاكمية الله وحاكمية الناس .
وقد جرت عشر دورات انتخاب للرئاسة في ظل إيران الثورة، ولا يسمح بانتخاب شخص لأكثر من دورتين متتاليتين، وتقلب على المنصب المنتخب ـ الذي استبدل أحيانا بصفة رئيس الوزراء ـ كل من الحسن بني صدر ومحمد علي رجائي وآية الله علي الخامنئي وهاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي ومحمود أحمدي نجاد، وعمل مير حسين موسوي ـ المرشح الخاسر في الانتخابات الأخيرة ـ رئيسا للوزراء مع آية الله علي الخامنئي، وفي مركز المرشد الأعلى مات الخميني وخلفه الخامنئي، وهو ما يعني أن سبعة من الكبار توالوا على الحكم في إيران خلال الثلاثين سنة الأخيرة، بينما في مصر ـ أكبر بلد عربي ـ ظل مبارك خلال المدة ذاتها، وجمع في يده ـ لو جرت المقارنة بإيران ـ سلطات المرشد الأعلى وسلطات الرؤساء جميعا، وظل مصدر السلطة الأوحد للجميع من الوزراء إلى الخفراء، وبقي في منصبه باستفتاءات عبث ديكوري، وبمساخر نتائج التسع تسعات، ثم ـ بعد ذلك ـ يحدثونك عن القهر في إيران، وإذا كانت إيران مقهورة، ولا تزر وازرة وزر أخرى على أي حال، فما الذي يصح في وصف وضعنا إذن ؟، لابد أنه الجحيم، أو حدائق الحيوانات،’وقد ضربنا مثلا بمصر، مع أن النظام المصري ليس أسوأ من غيره من النظم العربية، وإن كان ـ بطبائع الأمور ـ أسوأ نظام بالنسبة لمصر، وبالطبع، فنحن نتحدث هنا عن طبيعة نظم الحكم، وليس عن المكانة الكلية، فقد صارت إيران ـ بعد الثورة ـ قوة هائلة في صناعة التاريخ، بينما النظم العربية جعلتنا في وضع الجثث والجيف في سلة نفايات التاريخ .
والمعنى: أن الوضع في إيران ـ على دواعي الخلل’فيه ـ لاتصح مقارنته عقلا بوضع النظم العربية المزري، ففي إيران دراما حقيقية، وفي بلادنا حقول الموات، وفي إيران حيوية هائلة بدت طافرة في موجات الخلاف على نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، تظاهرات بمئات الألوف خرجت لمناصرة المرشح الخاسر مير حسين موسوي، وتظاهرات بالملايين خرجت لمناصرة الفائز مجددا بالرئاسة محمود أحمدي نجاد، وهذه الحيوية الفياضة ـ على صداماتها الدموية المؤلمة ـ تضيف لرصيد’النظام الإسلامي في إيران، فثمة خلاف تحول أحيانا إلى صدام هائج، ولكن من داخل عباءة المرشد الأعلى، والذي لا يجري قبول ترشيح أحد للرئاسة بغير رضاه، وهذه علامة نقص ظاهر، وتقيد الاحتكام الصريح الطليق لصوت الشعب، لكن الانتخابات الأخيرة ـ مع ذلك ـ كشفت قوة النظام، وأكدت عمق ارتباطه بأوسع قطاعات الشعب الإيراني، فرغم تقييد الترشيح، وصلت نسبة التصويت إلى 85 بالمئة من إجمالي الناخبين، وهي نسبة مذهلة، وبلا مثيل تقريبا في أي نظام ديمقراطي على وجه الأرض، ثم أن حديث المخالفات الانتخابية بدا مرفها مترفا، ولا يقارن بالطبع إلى التزوير الهمجي المألوف في انتخابات العرب، وخرائط الاحتجاج الإيراني على نتائج الانتخابات تنير الصورة، فقد جرت أعنف وأضخم الاحتجاجات في منطقة شمال طهران، وهي منطقة الارستقراطية الإيرانية، وقد ذهب غالب أصواتها للمرشح الخاسر مير حسين موسوي، والذي حصل على’ثلث إجمالي الأصوات في إيران كلها، وهو يصف نفسه بأنه محافظ معتدل، بينما بدا جل أنصاره من الشبان والشابات المتطلعين لطريقة الحياة الغربية، بينما حصل أحمدي نجاد على أقل من ثلثي إجمالي الأصوات، وهي أصوات الأغلبية الكاسحة في قرى الريف الإيراني، وفي المدن الصغرى، وفي شرائح طهران الأفقر، وقد سبق لنجاد ـ ذي النزعة الاشتراكية الإسلامية ـ أن فاز على هاشمي رافسنجاني، وهو رئيس سابق وملياردير فاسد ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، ويوصف بالبراغماتي الميال للتهادن مع الغرب، وقد أثر انحيازه المعلن لموسوي على فرص الأخير بالفوز، وقد يصح وصف رافسنجاني بأنه ‘الشيطان الداخلي’ المهدد لخط الثورة الإسلامية . وفي الحساب الأخير، يبدو فوز أحمدي نجاد نصرا لغالبية الشعب الإيراني ونصرا للمقاومة العربية، فنجاد ـ ببساطته الإنسانية الآسرة ـ اشتراكي النزعة، ونجاد ـ بانحيازه للمبادئ ـ عدو لإسرائيل والهمجية الأمريكية، والمبدئيون في إيران ـ أي المحافظين ـ هم الأكثر ميلا لنصرة قضايا الأمة العربية من منظور إسلامي، بينما الإصلاحيون ـ أو البراغماتيون ـ ذوي نزعة فارسية تميل لاحتقار العرب، وتتعلق بنزعات الجنس الآري الميال للتواصل مع الغرب على حساب عرب الشارع .. لا عرب النظم .
كاتب مصري
القدس العربي