عندما يثأر التاريخ
خالد غزال
وُصفت الثورة الاسلامية ضد الشاه عام 1979، بأنها “ثورة عكس التاريخ”، على الرغم من ضخامة الجماهير التي نزلت الى الشوارع آنذاك، وكانت تتظاهر ليس حبا بنظام آيات الله، الذي لم تكن تدرك طبيعته ونمط ممارسته، بمقدار الانتقام من الشاه وسلطته واجهزته الامنية. لم يدم الامر طويلا حتى بانت ملامح تلك “الثورة” التي تركّز همّها على قطع مسار الحداثة والتحديث في ايران، واعادة المجتمع الى الوراء، فكرا وممارسة وقولبة وجمودا. على امتداد ثلاثين عاما، قدّم النظام الاسلامي كل ما لديه، وكوّن نظاما بدا للخارج ممسكا بتلابيب المجتمع الايراني ومقولبا اياه بفجاجة. فجأة، تتكشف الوقائع ان إيران “من فوق” ليست إيران “من تحت”. يوحي المشهد الايراني الشعبي بمفارقات متعددة، يصعب الجزم باستنتاجات قاطعة حول مآلها. فنحن امام انقسام في النظام نفسه، بدأ سياسيا، اعتراضا على تزوير الانتخابات لصالح الرئيس الحالي، وبقيادة رجل من قلب النظام نفسه، مير حسين موسوي، وتوسع ليدق باب المؤسسة الدينية التي لم تحسم بعد خياراتها النهائية. من الطبيعي، في نظام أعاد قولبة المجتمع وأباد حركات المعارضة في البلاد، المنبثقة من النظام او المتعارضة معه، ان يأتي التحرك الواسع من قلب هذا النظام نفسه، وهذا أمر لا يغاير منطق التاريخ. في المقابل، كانت الحركة الاعتراضية التي جرى اطلاقها، مناسبة لإظهار منوّعات الاعتراضات “من تحت”، بما يعكس الحراك الاجتماعي وطبيعة القوى المتكونة خلال الحكم الاسلامي والمطالب التي تقول بها.
تكشفت القوى عن تنويعات، منها ما أتى تعبيرا عن الازمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة، ومنها ما عبّر صراحة عن الاعتراض على النظام الاسلامي نفسه و”ولاية الفقيه”، ومنها ما ترجم نفسه صراعا على المصالح الاقتصادية، ومنها ما رفع لواء الديموقراطية والحق في التعبير والاعتراض. شكلت التناقضات الداخلية بتعبيراتها السياسية والاجتماعية المختلفة عنوان الحركة، لا “العدو الخارجي” الذي يلجأ النظام الى استحضاره فزاعة لإعادة الامساك بالداخل ووقف الاعتراض. مع العلم ان النظام بدأ يسير في هذا الاتجاه. لكن الثابت ان قوى اجتماعية من اجيال الشباب ولدت وترعرعت خلال مرحلة سيادة النظام وقوانينه الجامدة وايديولوجيته السياسية – الدينية، ومحاولة غلق المجتمع الايراني على التحديث والحداثة. كان النظام يسير حثيثا في تنميط المجتمع الايراني وفق صورة لا تشي بأنه ينتمي الى العالم الحديث، وسلّط اجهزته القمعية لفرض ما يراه ثقافته وتقاليده، وتدخلت هذه الاجهزة في اصغر شؤون الحياة اليومية، وبدا لها انها نجحت في اغلاق ايران عن العالم ومنع ما يقدّمه العالم من تأثيرات على المجتمعات التي تخترقها منتجات العولمة من دون استئذان، وتمارس هذه المنتجات فعلها بقوة. فيما كانت قوى اجتماعية تنشأ وتتلقى تأثيرات التطورات العالمية على جميع المستويات، وتتلقى افكارا لا علاقة لها بما يطرحه رجال الدين من افكار وآراء لا تمت الى العصر ومنتجاته بصلة، كان المجتمع الايراني يتطور من الخارج في ظل انفصام مع مكوّنات النظام وعقيدته من الداخل، بحيث امكن بعد ثلاثين عاما من تكوّن قوى اجتماعية، وخصوصا اجيال الشباب، لا ترى في النظام ما يعبر عن طموحاتها او ما يستجيب مطالبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ان تعبّر عن نفسها على الصعيد السياسي لتعذر وجود التنظيمات الممثلة لها، فكان طبيعيا ان ترى في الاعتراضات والانشقاقات داخل النظام طريقا للتعبير عن نفسها، فشكلت القوى الحية والحيوية في حركة الشارع الاخيرة.
من المبكر الجزم بالنتيجة النهائية للصراع الدائر حاليا في حلقته القيادية، لكن وجهة التطورات تشير الى ان ايران امام اتجاه شبه وحيد هو رفض قيادته الوصول الى تسوية مع المعارضة المصرة على الغاء الانتخابات، وهذا غير جديد على نظام يتسم بالانغلاق والجمود ولا يعرف منطقا للتسويات قد تكون الوسيلة للحفاظ على مكوناته. يبدو خيار القمع الدموي لحركة الشارع خيارا شبه وحيد، وهذا ما يحصل حاليا في مشاهد تستعيد التاريخ الايراني القمعي زمن الشاه وشرطة”السافاك” التابعة له. قد ينجح النظام قي قمع الاحتجاجات ويغرق البلاد في حمّام دم يطاول الجماهير ولا يوفر المعارضين من اركان النظام نفسه. والنظام في هذا المجال يحمل ترسانة ايديولوجية تبرر له كل تصرف طالما انه يضع اعماله في خدمة الله والاسلام والدفاع عن الثورة الاسلامية، ما يشرّع للاجهزة الامنية والسلطات القيام بأي عمل لضرب ما يهدد الدين ونظامه. تتصاعد من رجال الدين اقوال ترى في نقد ولي الفقيه مسّا بالكرامة الالهية نفسها بما يستوجب اعدام من يخالف الولي الفقيه. لكن ايران بعد الحوادث، بصرف النظر عن كيفية نهايتها، لن تعود ايران قبل الانتخابات. الانشقاق قد حصل والتفسخ قد ابتدأ، والقوى الاجتماعية التي نزلت الى الشارع قد تعود اليه مجددا عند توافر الظروف المناسبة.
يدرس علماء التاريخ والاجتماع مسار تطور الدول في صعودها وهبوطها، في شبابها وشيخوختها. يخضع النظام الايراني الى مراقبة دقيقة من هؤلاء بدأت توحي باستنتاجات اولية على دخول النظام مرحلة “هرمة” وفق تعبير ابن خلدون، وان مظاهر الشيخوخة تزحف حثيثا في قلب النظام والمجتمع. قد تكون الفترة الزمنية لهذا التحول قصيرة قياسا على امبراطوريات امتدت في العمر قرونا، لكن نظاما يعيش على الغيبيات والخرافات كإيديولوجيا يسعى لفرضها على مجتمع منفتح في الاصل على العالم، وفي ظل تحول العالم كله الى قرية صغيرة، بحيث يصعب الاقفال على ما يجري في الخارج، في ظل هذه التحولات العالمية لا يعود مستغربا ان يجد المجتمع الايراني نفسه مكشوفا ومنخورا حتى العظم في فترة زمنية غيرقصيرةعلى اي حال.
كان لافتاً ان متظاهرين رفعوا صورا للزعيم الايراني محمد مصدق الذي اطاح الشاه عام 1953 والذي يرمز لدى الايرانيين الى الديموقراطية والحرية والاستقلال الوطني. هذه الاستعادة تعبير عن رغبة ايرانية في العودة الى قيم سياسية وانسانية افتقدوها على امتداد ثلاثين عاما من حكم القولبة والانغلاق في سجن حديدي ¶
النهار