مأزق حزب الله
صالح بشير
مأزق «حزب الله»، يتجسد في أنه لا يستطيع ترجمة «انتصاراته» الخارجية إلى غلبة داخلية. فواقع لبنان الديموغرافي، وتركيبته الطائفية-المذهبية، يحولان دون ذلك ويمنعانه. وربما يعود ذلك إلى أن التوازن قائم في لبنان أساساً بين أقليات كبرى (إلى جانب أقليات صغرى رديفة)، وليس بين أغلبية صريحة وأقليات، تتمكن خلالها الأولى من فرض كلمتها على ما سواها والانفراد بالسلطة.
كشفت أحداث لبنان الأخيرة، على نحو جليّ بليغ، عن إعضال فادح يواجهه «حزب الله»: فهو قادر، «مقاوِمًا» على نيل إجماع اللبنانيين، صادقاً طوعياً كان ذلك الإجماع أم اضطرارياً، ولكنه عاجز عن ترجمة ذلك الإجماع إلى أرجحية سياسية على الصعيد الداخلي، مهما بلغت سطوته العسكرية واشتدت. تعليل ذلك يسير غير ملغز، مفاده ببساطة أن «حزب الله» يكون، في نظر بقية اللبنانيين أو جلهم، «قوة وطنية» إذ يجابه إسرائيل، ولكنه، على الصعيد الداخلي، لا يعدو أن يكون قوة طائفية وفئوية، حيث لا تجدي إمكاناته العسكرية، وسطوته المعنوية، بما في ذلك «نصره الإلهي» في حرب تموز 2006، في تحقيق الغلبة وفي إرسائها واقعاً قائماً ومستتباً.
ذلك ما يفسر، على سبيل المثال، لماذا كان باستطاعة «حزب الله» إسقاط الجنرال شاؤول موفاز، وزير دفاع الدولة العبرية أثناء مواجهة صائفة 2006؟ ولماذا أخفق إخفاقاً تاماً في الإجهاز على خصم أضعف بما لا يُقاس، هو فؤاد السنيورة وحكومته؟ في حالة الوزير الإسرائيلي، كان «النصر» أو الفشل يقاسان بمقاييس موضوعية، قد يستوفيها ما آل إليه النصاب العسكري، قدرة على البقاء والصمود من جانب، عُدّا نصراً، وقصوراً عن بلوغ الهدف من شن الحرب من الجانب الآخر، اعتبر هزيمة، وأفضى إلى استقالة من تحمل مسؤوليته. أما على الصعيد الداخلي، وذلك اللبناني على نحو أخص، فقد يكون المعطى العسكري فاعلا، ولكنه لا يمكنه أن يكون حاسماً في إرساء غلبة وحيدة الجانب.
ذلك هو مأزق «حزب الله»، لا يستطيع ترجمة «انتصاراته» الخارجية إلى غلبة داخلية. واقع لبنان الديموغرافي، وتركيبته الطائفية-المذهبية، يحولان دون ذلك ويمنعانه. ربما يعود ذلك، مقارنة بسائر بلدان المشرق، إلى أن التوازن قائم في لبنان أساسا بين أقليات كبرى (إلى جانب أقليات صغرى رديفة)، لا بين أغلبية صريحة وبين أقليات، بحيث يمكن للأولى أن تفرض غلبة قوامها التفوق العددي، أو بحيث يمكن لإحدى الأقليات أن تنفرد بالسلطة، بانقلاب عسكري مثلا، وأن تتماهى بالدولة وتفرض سيطرتها.
وقد وقف «حزب الله» على هذه الحقيقة الكأداء والعنيدة، عندما اعتقد بأن انتصاره «الإلهي» يخوله إسقاط حكومة السنيورة ويمكنه من أسباب تحقيق ذلك الهدف، فكان أن نظم اعتصاماً في قلب العاصمة بيروت، توهمه فعل ضغط حاسماً آني المفعول، فإذا منطق الوضع اللبناني وفرادته، وامتناعه عن الانضواء في نصاب غلبة أحادية الجانب، تفرغ الخطوة تلك من كل مضمون وتحيّدها وتحولها إلى مجرد إقامة عشوائية، طالت حتى أضحى مرور الزمن يعمل ضدها، أفلحت ربما في إحراج حركة المرور والتجارة، وأخفقت في ما هو أكثر من ذلك، أي انحصرت في مفاعيلها وآثارها الجانبية، وفقدت كل جدوى منشودة من ورائها على الصعيد السياسي.
تحرك «حزب الله» الأخير، وإقدامه على السيطرة عسكرياً على بيروت، مخاطراً بإعادة البلد إلى جحيم الحرب الأهلية، تعبير بليغ عن مأزقه ذاك الآنف توصيفه، وهو إلى ذلك دليل على استعصاء ذلك المأزق، مادام «حزب الله» لم يجد من وسيلة لتذليله غير تلك التي تفضي إلى إعادة إنتاجه وإلى تأبيده. فهو إن كان قد سعى من وراء تحركه الأخير إلى البرهنة على أنه القوة العسكرية الأكبر في لبنان، فإنه يكون قد برهن على ما لا حاجة إلى البرهنة عليه، وانجرّ بذلك إلى نافل «القول» والفعل. وهو إن سعى إلى سحب شرعية دوره «الدفاعي»، الخارجي، على تحركاته القتالية الداخلية، وألحق هذه الأخيرة بأعمال «المقاومة» وأسبغ عليها تلك الصفة، خاطر بعدم الإقناع وبما هو أدهى، بإنهاء الإجماع اللبناني الذي كان قائماً حوله كقوّةٍ مُقاوِمة، وذلك، ببساطة، لأن نقل «المقاومة» إلى الداخل من شأنه أن يحول هذه الأخيرة إلى حرب أهلية. والحق أن «حزب الله» ارتكب ما يوحي بذلك وما ينذر به إذ قدم مبادراته القتالية الأخيرة على أنها تهدف إلى حماية «سلاح المقاومة»، وسارع، في سبيل تسويغ ذلك، إلى وصم خصومه بالخيانة والتواطؤ مع المتآمرين من الولايات المتحدة وإسرائيل، بمقتضى خطابة راسخة في المنطقة، مزرية ولكنها لاتزال في عزّ عنفوانها، تقوم على نسبة بعض الداخل، ذلك الخصم المعادي، إلى الخارج، وتفضي إلى إدراج الخلاف معه في مصاف الحرب والإلغاء المتبادل.
لا شك في أن «حزب الله» رأى أن يوظف في معركة داخلية ما يعتبره نقطة قوته، فعله الخارجي المقاوم، ولكنه إذ أقدم على ذلك، خاطر بشرعيته مقاوِماً من دون أن يتمكن من تحقيق غلبة في الداخل، غير تلك العسكرية، وهذه يسيرة في متناوله، وبرهن، من خلال فعل القوة ذاك على ضعف مكين، كما كتب حازم صاغيّة في صحيفة «الحياة» قبل أيام… ضعف القوي الذي لا يستطيع أن يستمد قوته غير الضعف، في بلد ربما كان من آيات فرادته أنه يقوم على ميزان الضعف لا على ميزان القوة.
* كاتب تونسي