ضحايا الحدث
أمجد ناصر
أحداث لبنان الأخيرة دراماتيكية. فقد نسفت توازنا بدا أنه لن يختل بهذه السرعة. فكرة السلاح لم تكن مطروحة. فمن يملك السلاح، فعلا، كان يصوبه في اتجاه الجبهة الوحيدة التي يجمع عليها اللبنانيون بصدق أو بمداهنة: الجنوب. كان الكلام هو الذي يسمع صداه بقوة علي جانبي الأزمة. كلام يطن، علي مدار الساعة، في التلفزة والاذاعات والصحف، وهذه كثيرة ومتعددة في لبنان بكثرة الألسن وتشعبها. لكن الكلام يقتل أيضا. الكلام فتنة والفتنة أشد من القتل. هذا ما لم يدركه الوالغون بعنف لفظي سادر في وحول الأزمة.. الكلام كثير في لبنان ورخيص الثمن. تستطيع أن تبيع (أو تشتري) كلاما فاسدا بعملة فاسدة، من دون حاجة الي صراف. فتلك عملة غير قابلة للصرف لكنها مسمومة. الكلام كثير في لبنان ورخيص لكنه يملك عصبا قادرا علي رفع الضغط. لا يشفي جرحا غير أنه يستطيع صنع أعداء صالحين للقتل في أي لحظة. هذه هي حصيلة الكلام الذي تقيأه أمراء الطوائف والحروب في لبنان منذ اغتيال الحريري الي اليوم: شحن النفوس، شحذ الاسنان، استنهاض الغرائز الكامنة، تأجيج المخاوف، استعادة ذكريات حروب الأزقة والشوارع. قلة من اللبنانيين، اليوم، يعرفون رغد العيش في سويسرا الشرق. تلك ذاكرة الآباء والأجداد. تلك اسطورتهم التي لن تجد من يصدقها بينهم، أو يرويها علي مقهي رصيفي في شارع الحمرا. فقد تكفل الأبناء بتحطيم القلاع وأسطورة لا تصلح لقصة قصيرة. لبنانيو اليوم لم يعرفوا سوي الأبراج التي تطل منها الطوائف علي بعضها البعض. ان بقي شيء من فنادق الزيتونة او نادل في السان جورج فتلك ذكريات في كتب الحنين. الحقيقة الأوضح هي الضواحي البائسة وأحزمة الفقر والمهجرين. فإذا كانت الضاحية الجنوبية، دولة الفقراء والمهجرين وحزب الله، ربع الوطن ، قبل عشرين سنة، كم صارت الآن؟ نصف الوطن! هناك ضواح كثيرة مثل الضاحية الجنوبية. إنها أحشاء لبنان الحقيقية، سوي ذلك مكياج متبرج علي وجه دمية في التلفزيون.
دراماتيكي ما حصل في لبنان أخيرا. فقد دفن موضوعات لم تعد قادرة علي صنع مانشيت في الصحيفة أو خبر في مقدمة النشرة التلفزيونية. فـ الانقلابات تغري المانشيت أكثر. المانشيت يكره التكرار. فالتكرار مضجر. وهو لا يعرف كيف يصنع من الضجر خبرا. المانشيت يريد أن يبيع كلامه الفاسد ولكن بعملة صحيحة، أو صعبة إن أمكن. الانقلاب يثيره. يشنّف حواسه ويرهفها في اتجاه واحد. يصبح ما عدا الانقلاب قضايا مدرجة علي لوائح الجمعيات الخيرية ودوائر الاغاثة.
مأساة عصرنا أن العالم يوجد، فقط، في المانشيت ومقدمات الأخبار. فما لم تلحظه حاسة الشم الكلبية للمانشيت لا وجود له حتي لو كان تسونامي . عندما قال مفكر فرنسي إن حرب الخليج لم تحدث، كان يقصد المانشيت وصور الصفحة الأولي ومقدمة نشرة الأخبار. تسونامي بورما لم يحدث. فلم تكن هناك كاميرا. مات مئة الف شخص، في يومين أو ثلاثة، من غير أن يموتوا. فنحن لم نرهم، علي الشاشة، يموتون. الموت المعترف به رسميا، حتي بالنسبة للامم المتحدة، هو الذي تعرضه الشاشة.
في آخر خبر علي نشرة الجزيرة ، الأكثر اهتماما بالشأن الفلسطيني بين سائر الفضائيات، كان مراسلها وائل الدحدوح يسلط الكاميرا علي قسم العناية الفائقة الخاصة بالاطفال في أحد مستشفيات غزة. كان يعرف ان دوره لم يأت. كان عليه أن ينتظر حتي يفرغ كل زعماء الأزقة في بيروت والجبل والشمال من نزع آخر ورقة توت علي الشاشة كي يقف أمام كاميرا البث المباشر. إنه يعرف أننا لن نري خبره، أو لن نهتم به. فأي إثارة في خبر عن قسم للاطفال في مستشفي؟ كان عليه أن يخترع نبرة أخري غير نبرته المعتادة قبل أن ينصرف ما تبقي من مشاهدين الي شاشة أخري. أن يرفع صوته مثلا، أو أن يخفضه كأنه يهمس بسر. اختار الثاني. خفض المراسل المحترف صوته. تحرك ببطء. قال إن هذا جناح الأطفال في مستشفي كذا، ونحن، الآن، في قسم العناية الفائقة. هذه معدات تعمل بالكهرباء. في الأسرة، كما تلاحظون، أطفال. الأطفال سيموتون إن انقطع التيار الكهربائي. التيار الكهربائي يحتاج الي طاقة. الطاقة عند اسرائيل، واسرائيل أوقفت تزويد قطاع غزة بها. بسبب نبرته المختلفة (أي تمثيله) لم يغير بعض المشاهدين، علي ما أظن، القناة.
ليس موت غزة البطيء هو الضحية الوحيدة لـ الانقلاب في لبنان. هناك، أيضا، الذكري الستون للنكبة التي ستحل غدا. ليس بعيدا جدا احتلال فلسطين. ليس طويلا عمر اسرائيل. آباؤنا عاشوا النكبة وشاهدوا المسخ وهو يولد. جيراننا ظلوا يحتفظون بمفاتيح حديدية ضخمة لبيوت اقفلت علي طبخة لم يضف اليها الملح او البهار.
الستون ليست رقما كبيرا. انه اقل من متوسط اعمار زعمائنا البواسل، ولكنها كانت كافية لتشريد شعب كامل وصنع رواية لتاريخ وشعب لم يوجدا قط علي تلك الارض.
كل الغرب (أي كل العالم للأسف) يصدق الرواية الاسرائيلية. ولكن أهناك رواية بلا ذاكرة. كم عمر الذاكرة الاسرائيلية؟
مَنْ لأيّ من آباء اسرائيل جد او جدة مدفونان في فلسطين؟ لكن الذاكرة، مع ذلك تشيخ، والآباء يموتون والمفاتيح الحديدية، الكبيرة يأكلها الصدأ، والثوار السابقون تتهدل كروشهم علي الكراسي. النكبة حصلت. لكن نكبة النكبة ان هناك عالما عربيا نسي اليوم النكبة، فيما يرصد، بيقظة وغضب، تحركات العدو شرقا او يبحث عن كعكة من تراب تحت رأس المصلي.
أليس هذا ما اظهرت مقدماته الفادحة أحداث بيروت الاخيرة؟!