فلورنس غزلانما يحدث في لبنان

بيروت الكبيرة الزاهية بألوانها، عصية على احتمال الأسود

null

فلورنس غزلان

اغتال العسكر تاريخنا القريب والبعيد، أجهضوا كل محاولة لقيام دولة وطنية، حرموا المواطن من الإحساس بالانتماء لهوية وطن يسمى سوريا ، سجلوه في دفاتر النسب العائلي ، كوثيقة من وثائق ” دفتر النفوس” كل سوري يعني أنه ابن النظام وابن أسرة النظام حُكماً،
كل سوري يعني أنه ابن سوريا الأسد وبس!..وإن أراد أن يُكمل دينه ودنياه فبإمكانه أن يحمل وثيقة أخرى أكثر أهمية تُثَبِت أقدامه حكومياً ،وظيفيا ، فسادياً ،نهبياً وثقافيا ….فيرتفع كيانه ويعلو مقامه حين يحمل وثيقة ” نصير ” أو” عامل ” في حزب البعث القائد للدولة والمجتمع!، فما بالك لو وصل لعضوية فرع في محافظة ما…أو قطرية أو قومية فحدث ولا حرج وخذ دحرجة وكرج في مناصب الترفع والتدرج والترقي والتفرج على عباد الله الأذلال الرعايا من ذوي انعدام الانتماءات هذه.

العسكر باعتبارهم يحبون القوة ولا يفهمون لغة سواها لحل ما يعيقهم ..ولا يعرفون حوارا سوى حوار ( قف ،نفذ ولا تعترض ،خائن ،منافق ، عميل ،عدو الممانعة، مضعف للشعور القومي ، موهن لعزيمة الأمة، أو مستعدي دولة أجنبية على بلادك… خذ بابن الش….أو تعال يا أخو الق…الخ ما ينوبه على أيدي حُماة النظام وأمنه للسيطرة على الدولة والمجتمع) ، ثم آخرها وأهمها جاءتنا حديثا ( عدو المقاومة)!!..

المقاومة نبتت في لبنان وترعرعت في جنوبه، ولم تكن يوماً من صنع حزب إلهي قادم من الغيب محمل بثياب سوداء على أكتاف الباسيج المُدَرِب الإيراني ، بعصابة شهيد الإسلام حسين بن الإمام علي تربط رأسه معرفة باستعداده للموت، ويهذي به لأن مأواه الجنة التي سيحررها ويدخلها كفردوسه المفقود وحصان طروادته ، الذي يركبه كلما خسرت أوراقه عراقيا أو حواريا مع أمريكا من أجل أن يصبح أحد أسياد الكون ، وعلى أقل تقدير سيد المنطقة ، فيعيد لفارس حلمها الإمبراطوري…لكن هذه المقاومة سَحَبَت بواسطة الفعل العسكري والأمني السوري، كل قطعة سلاح وكل محاولة انتصار من أيدي مُنتجي الفعل المقاوِم لبنانيا في أضيق الأحوال وفلسطينيا في أوسعها… من خلال الفعل والسند المدعوم بالمال والعتاد من طرفي المصلحة في بنائه ووجوده والاحتفاظ به لوقت الحاجة الكبرى، والتي جاء أوانها وحل بلاؤها على أهل لبنان منذ السابع من هذا الشهر.

فقد استيقظت عروس البحر” بيروت ” من رقادها بحضن الأزرق …على من يستبيح جسدها ويقطع أوصالها، يريد أن يخفي معالمها الزاهية وحللها السياسية، وإن حملت مالا نحلم به ونأمله لها أي المحاصصة الطائفية، لكنها على أقل تقدير كانت ومازالت ــ قبل هذا الاجتياح ــ تحمل صورا شتى وألوانا وأعلاما وثقافة وانفتاحاً وحرية صحافة وكلمة تعبير، بالإضافة لحرية اقتصاد وحركة وتظاهر وتصارع على الأدوار..اتخذ ذات يوم لون الدم القاني وظل يمرغ وجه بيروت وجسدها العاري عقدا ونصف، لكنها ” الفينيق” نهضت من وئدها…وعادت لتنتصب وتَعد وتُقسم أنها لن تعود للغة الرصاص في حسم الصراع السياسي ، وقد اكتسبت مناعة بعد هذا الدم وهذا الكم الهائل من الضحايا!

لكن الأعلام السوداء والأيادي التي حملت بندقية التحرير والمقاومة، غيرت وجهة التسديد والتصويب…وأدارت الكلاشينكوف من ” كريات شمونة” إلى ساحة رياض الصلح، ومن تل أبيب إلى مار الياس والطيونة وجسر فؤاد شهاب …وقطعت من جديد مايصل الشرقية بالغربية…وأعادت للأذهان أيام البيروتيتين …!! وأقفلت التواصل مع العالم جوياً وبحرياً، فهل ستعود بيروت للمعابر والسواتر والخرائب والمصائد والاستنزاف والاقتتال؟؟!..ولم تكتف الألوان السوداء ببيروت بل انتقلت للشمال والجبل، ويقال أن الجيش يسيطر على المواقع وقد اختفت معالم الميليشيات …أو اختبأت …فلا ندري نهائيا أم إلى حين؟!!.

لأن الشروط ما تزال تعمل على رسم خريطة لبنان الجديد بصورة الأسود وحيد اللون والصوت، والذي لا يقبل بصوت آخر غير صوت القوة الفارضة للرأي والصورة السياسية

منذ حرب تموز 2006 ، وارتفاع منسوب الأنا والانتصار قد طغى وتجبر لدرجة التضخم ، وأراد أن يكرسه بشروط أخرى لم تخطر يوما على بال لبنان ، الذي دفع ضريبة هذا التضخم للأنا عند حزب الله ..لكن مغامراته الحربية وصولاته النصرية لم يعد لها نفس الوقع عند قلوب أصابها العطب والوجع أكثر من مرة وعقول مع التجربة استطاعت أن تدرك بحدسها الطبيعي ــ حتى لو كانت بعيدة عن السياسة وأهلها ــ أن تميز بين بندقية تقتل العدو لتحرر وبعد التحرير تستمر بحملها لتصوبها نحو الداخل وتفرض دولتها…نعم دولتها التي خُطط لها منذ زمن بعيد … ولا أعتقد أن التأجيل التاسع عشر لانتخاب رئيس للجمهورية البارحة، يأتي ضمن سياق التوصل لحل أو إمكانية تطبيق المبادرة العربية أو القبول بما يحمله وفد الجامعة العربية…كيف يمكن الثقة بكل هذه المماطلات والجولات التي تريد كسب الوقت والمواقع السياسية على الأرض والمناسبات المناطقية والدولية …حتى يتسنى لها تمرير مخططها، لا نريد أن نفتح صفحات ماضٍ لم يُنسَ بعد ولن ينساه اللبناني ولا العربي…فليس هناك من لا يفهم ويعرف أن حزب الله حزبا طائفياً بجدارة، ولا شك أبدا أن كل السياسات القائمة في لبنان تخوض معاركها على أسس طائفية …لكنا في لحظة من لحظات النرجسية العربية اعتقدنا أو اعتقد البعض أن أجندة حزب الله عروبية!!..أو وطنية لبنانية!…لكن حربه في شوارع بيروت وطرابلس والجبل…أثبتت أنه يريد تحقيق أجندة غير لبنانية وغير وطنية وغير عربية… ، الآن حزب الله يلقى كل التأييد والدعم لانقلابه من مُسانِدَّيه على الحكومة التي ينفي شرعيتها!، مع أنه يقامر بكل ما بناه من سمعة ونصر رسمه في إطار العروبة والتحرير والوطنية وحرصه على تحرير حتى أرض فلسطين!! لكن الشرعية التي يراها حزب الله وأنصاره ، هي شرعية الحزب الواحد… شرعية القوة التي تفرض السياسة… شرعية لا صوت يعلو على صوت المقاومة!! أي مقاومة ابن الوطن الرافض لرأي مغاير لما يُراد له.. فالشبكات اللاسلكية ، التي يصل تعداد خطوطها إلى مئة ألف خط باعتقادي أنها شبكة دولة قائمة بذاتها…وليست شبكة مقاومة!…ولماذا ترفض الخضوع لمراقبة الدولة ، أو على الأقل لتصبح تحت مراقبة الجيش…؟! ولِمَ تقام الدنيا وتقعد لإقالة موظف في المطار مهما علت رتبته ؟ …وهل تحارب السلطة من أجل هذه القرارات ، التي لم تنفذ أيضا؟!…ماذا فعل السوريون لحكومة أقالت عشرات الموظفين الكبار من مراكزهم ووظائفهم ؟ ..ماذا فعل السوريون لحكومة تعتقل وتقتل بدم بارد وتوجه تهم الزيف والخداع لأشراف مواطنيها ومعارضي نظامها معارضة سلمية؟ …لماذا الكيل بمكيالين ورؤية الأمور بأكثر من معيار حين يتعلق الأمر بأجندة إيرانية سورية؟…أما ما يحصل للمواطن السوري والداخل السوري أو اللبناني فهو بعرف أنظمة الحكم الفردي بلونه الأسود…أمر داخلي! …لأنه يعلم علم اليقين أن الحسم هنا للقوة والبطش…وبالتالي لصالحه….فهل يعني هذا الحراك من حزب الله ، أنه يفضل أن يرى لبنان بلون النظام السوري أو الإيراني؟، وهل يعتقد أنه اللون المفضل لدى غالبية الشعب اللبناني؟ أم أنه يفكر عنه ويخطط نيابة عنه ويبرمج ويشبك ويفخخ من أجل دولته وحيدة الصورة واللون؟.

هل سيخرج الوفد العربي بنتيجة؟..هل سيأخذ الجيش اللبناني دوره الوطني المحايد ويفرض الأمن فعلا؟…هل سيتعقل حزب الله ويلتزم بقرارات الجيش والوفد العربي ثم المبادرة العربية؟ ..هل سيتم انتخاب رئيس لهذه الدولة المصابة بأورام خبيثة ستودي بها إلى التفتيت والموت …أو لحريق عراقي الصورة؟!…هل ستذهب المنطقة إلى جحيم الفوضى؟ وهكذا يراد لها …إما الفوضى أو وجود القوة الأكبر والأجندة الخادمة للنووي الإيراني من جهة ولإلغاء المحكمة الدولية من جهة أخرى ورفع العزل العربي والعالمي عن سوريا، ولهذا يمرر الوقت حتى تنتهي الانتخابات الأمريكية وتأتي الأوضاع العالمية بشكل يجعل مجال المناورة أمام سوريا وإيران أكبر اتساعاً، ولهذا أوعزت لحزب الله القيام بكسب المواقع وتعزيزها، وإن كان الثمن خراب البلاد وتدهور المنطقة …لأن العرب مجتمعين من الضعف بشكل لا يستطيعون معه أن يفعلوا شيئاً، ولن يفعلوا إلا المزيد من البيانات والصراعات والشتائم في مؤتمراتهم ، التي لا تجدي…والمواطن يعض على أصابعه ينتظر فرجاً…أو موتاً

مع كل هذا اليأس المنظور …مازلت أعلق الآمال على بيروت…مازلت أرى فيها نقطة ضوء …سيلمع ويتسع لينير سماء بيروت …ولن تسمح للون الأسود أن يطغى على حياتها…فقد اعتادت على ألوان قزح …وفرحه وانبثاقه بعد مرور العاصفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى