دولة المحاصصة : انفجار تجريبي يأخذ لبنان إلي حافة الهاوية
د. بشير موسي نافع
لم يكن الانفجار الذي عاشه لبنان في نهاية الأسبوع الماضي ومطلع هذا الأسبوع مفاجئاً، فالتقارير والتعليقات المنذرة بتفاقم الأزمة اللبنانية السياسية خلال الأسابيع القليلة الماضية وصلت حد الإجماع.
ولكن هذا التطور ليس هو الانفجار الشامل، ولا هو نسخة جديدة من الحرب الأهلية التي امتدت من منتصف السبعينيات إلي مطلع التسعينيات. هذا، علي الأرجح، انفجار تجريبي، يستهدف تحقيق أهداف سياسية محددة، وليس السيطرة علي لبنان أو العاصمة بيروت أو الدولة اللبنانية. في دلالاته الآنية، أشار التدهور الأمني اللبناني إلي حقيقة ميزان القوي علي الأرض، بعد أكثر من سنتين من الانغلاق السياسي والتدخلات العربية والإقليمية والأجنبية. وفي دلالاته الأبعد، يشير إلي إخفاق وبؤس الدولة القائمة علي نظام المحاصصة، الإخفاق الذي يعتبر تاريخ لبنان الحديث تجسيداً له، والذي يجري منذ بداية الاحتلال فرضه علي العراق تحت أسماع وأبصار العرب جميعاً.
لم يكن الانفجار الأمني مفاجئاً لأن الأطراف المعنية لا ترغب في، وربما لا تستطيع بعد، التوصل إلي تفاهم سياسي للأزمة اللبنانية. الناظر إلي تفاصيل الأزمة من خارجها يري بوضوح أن ليس ثمة خلافات تستدعي الشلل الذي تعيشه البلاد منذ نهاية ولاية الرئيس لحود؛ فالحكومة (التي تمثل ما يعرف بقوي الأكثرية) ملتزمة في بيان تأسيسها الذي حصلت عليه الثقة بالاعتراف بحزب الله كقوة مقاومة وليس كميليشيا، والحزب من ناحيته ملتزم بوحدة لبنان واستقرار دولته. التوفيق بين الإشكاليات التي تهدد مصداقية كل من الموقفين ليست من التعقيد بحيث يستحيل التوصل إلي توافق تفاوضي حولها. اللبنانيون، فوق ذلك، يعرفون أن لا أحد يمكنه إلغاء الآخرين، هذا علي الرغم من أن الانقسام الحالي ليس طائفياً قاطعاً كما قد تبدو الأمور؛ فلا الشيعة موحدين كلهم حول حزب الله، ولا السنة يدينون في كليتهم لقيادة الحريري. أما المسيحيون، فينقسمون مناصفة بين طرفي الصراع. أزمة لبنان وشلل دولته هما نتاج الحرب العربية الباردة من جهة، وعدم حسم القرار الأمريكي من جهة أخري.
عربياً، أقيم استقرار النظام العربي منذ منتصف التسعينيات علي تفاهم دول المحور الثلاثي: مصر وسورية والسعودية. الخلافات حول غزو العراق واحتلاله أدت إلي انهيار تفاهم الدول الثلاث. وقد انعكس هذا الانهيار بعد ذلك في سلسلة من التطورات، بدأت باغتيال الرئيس الحريري، ومرت بتعزيز التحالف السوري ـ الإيراني، ولم تنته بالانقسام العربي الصارخ من الحرب الإسرائيلية علي لبنان في صيف 2006. دولياً، عاد التدخل الأجنبي الفعال في الشأن اللبناني بصدور قرار مجلس الأمن (الفرنسي ـ الأمريكي) الداعي لخروج سورية من لبنان في 2004. بصدور القرار، ارتفع الغطاء الدولي (والعربي، بالطبع) عن الوجود السوري في لبنان وعن الدور السوري في إدارة الشأن اللبناني، وبدأت بالتالي مرحلة من الصراع علي لبنان، هي في حقيقتها صورة مصغرة من الصراع علي سورية. ولكن القوي اللبنانية المتحالفة مع واشنطن وباريس لم تحسن إدارة الشأن اللبناني بعد خروج السوريين، إما لسذاجتها السياسية أو لعجزها عن التصرف باستقلالية كافية عن الحلفاء الكبار. طوال عامين كاملين بعد الخروج السوري العسكري، سيطر وهم علي قوي الأكثرية بأن إطاحة النظام السوري باتت قريبة، وأن لبنان سينتهي إلي جانب المنتصرين في هذا الصراع الأسطوري الهائل علي روح الشرق وهويته. خسرت قوي الأكثرية حزب الله، حليفها الانتخابي الرئيسي؛ خسرت الجنرال عون، خصم سورية العنيد؛ خسرت رئيس الجمهورية لحود؛ وخسرت قطاعاً كبيراً من الرأي العام العربي. وفي النهاية، لم تستطع واشنطن إسقاط النظام السوري، ليس لخشية إسرائيل من الفوضي، كما يقال، بل لأن المقاومة العراقية وضعت حداً لسياسة الغزو والاحتلال في المنطقة العربية.
بإخفاق المشروع الأمريكي في العراق، هزيمة الإسرائيليين في حربهم علي لبنان، العجز عن إسقاط النظام السوري، وفشل مشروع تصفية قوي المقاومة الفلسطينية، تغير ميزان القوي لصالح معسكر المعارضة. ولكن هذا لا يعني نهاية الدور الدولي. الولايات المتحدة تدرك أن توازن القوي في لبنان (كما هو في فلسطين والعراق) ليس لصالح حلفائها وسياساتها، ولأن هذه التوازنات لا يمكن التعامل معها بالقوة المسلحة إلا في العراق، فقد بات مصير العديد من ملفات المنطقة معلقاً بتوجه واشنطن نحو تغيير الفضاء الاستراتيجي. هدف هذا التوجه الرئيسي هو بالتأكيد إيران، والاداة التي قد توظف لتغيير الفضاء الاستراتيجي في المنطقة هي توجيه ضربة أمريكية عسكرية لإيران. مشكلة لبنان، وأغلبيته الحاكمة علي وجه الخصوص، أن إدارة الرئيس بوش لم تحزم أمرها بعد حول ما إن كانت ستقوم قبل نهاية العام بمهاجمة إيران، أو أنها ستترك الملفات المتعلقة بالدور الإيراني المناهض للمصالح الأمريكية في المنطقة للإدارة القادمة. حتي تحزم واشنطن أمرها، فليس هناك مجال لتوافق الحل النهائي في لبنان.
ربما دفع الأمريكيون أو الفرنسيون باتجاه القرارين اللذين اتخذتهما الحكومة الللبنانية بخصوص شبكة اتصالات حزب الله وبضابط الجيش اللبناني المسؤول عن أمن المطار؛ وربما كان القراران تعبيراً عن السذاجة السياسية التي اتسم بها عدد كبير من قرارات الأكثرية الحاكمة. المهم، علي أية حال، أن قدراً قليلاً من الحكمة والتأمل سبق إصدار القرارين. فحتي لو كانت الحكومة اللبنانية تستند إلي إرادة لبنانية إجماعية لكان قرار مصادرة شبكة اتصالات حزب الله الخاصة ملفاً ليس من السهل التعامل معه، فكيف والحكومة لا تستند إلي إرادة وطنية كاملة والشكوك تحيط بشرعيتها؟ الذي اتخذ القرارين كان واقعاً تحت ضغط أجنبي، كان لا يدري تماماً ما الذي يفعله، أو كان يسعي إلي تفجير الوضع اللبناني. والذي حدث أن الانفجار قد وقع بالفعل. ثمة من قال ان حزب الله هو الجهة الوحيدة المسلحة خارج نطاق الدولة. حزب الله هو بالتأكيد القوة المسلحة الرئيسية في لبنان، ولكن تتابع الاشتباكات خلال أيام الانفجار الثلاثة أشار بوضوح إلي أن السلاح بات في أيدي الجميع؛ وعندما وقع الانفجار، اتضحت حقيقة توازن القوي العسكري علي الأرض. ولهذا السبب علي وجه الخصوص فإن تكرار الحرب الأهلية اللبنانية في نسختها الأخيرة غير محتمل. حتي لو اجتمعت قوي الأكثرية الثلاث ذات التوجه الميليشياوي، المستقبل والتقدمي ـ الاشتراكي والقوات اللبنانية، فلن يكون باستطاعتها الصمود طويلاً أمام حزب الله وحلفائه. الطريقة الوحيدة لتغيير ميزان القوي (ومن ثمة انطلاق حرب أهلية حقيقية) هو التدخل الخارجي المباشر أو شبه المباشر.
حتي تصل الحرب العربية الباردة إلي نهايتها، حتي تحزم واشنطن أمرها، أو تترك وباريس اللبنانيين لشأنهم، ثمة دروس يستحسن علي الطرفين اللبنانيين استخلاصها سريعاً من أحداث هذا الاسبوع. الأول، أن لبنان لا يمكن أن يستقر باستبعاد فئة لصالح أخري. وربما ظنت الأكثرية أن من الممكن إقامة الدولة، التي جعلتها شعارها المفضل، باستبعاد خصومها. ومع مرور الشهور، وصمود الدعم المصري ـ السعودي والفرنسي ـ الأمريكي، تعودت الأكثرية علي الوضع الشاذ للحكم. في النهاية، ما كان للاستبعاد إلا أن يؤدي للانفجار. القول بأن الرئيس لحود ليس رئيساً شرعياً لأن الأكثرية البرلمانية التي مددت له (بما فيها رموز الأكثرية) كانت خاضعة للضغط السوري، ومن ثمة مقاطعته نهائياً؛ والادعاء بأن حكومة استقال منها كل الوزراء الشيعة هي حكومة ميثاقية ودستورية وشرعية، ومن ثمة عقد هذه الحكومة لاتخاذ قرارات كبري تمس أمن البلاد واستقرارها، كل هذا هو نوع من الأكروبات السياسية الخطرة. علي الأكثرية أن تعترف بالوضع الشاذ الذي تقوده، أن تتواضع في خطابها، أن تتوقف عن استخدام الحكومة لتعميق حالة الأزمة، وأن تنتظر حتي توفر الظروف العربية والدولية فرصة للانفراج وإعادة بناء استقرار ما، إن كان هذا ممكناً علي أية حال. إحدي المسائل الرئيسية، التي لا بد من اعتبارها فرضية أولية ينبغي الانطلاق منها، هي أنه ما دام الصراع علي فلسطين مستمراً، بأبعاده الفلسطينية والعربية والإسلامية الواضحة، فإن حزب الله لن يتخلي عن سلاحه.
الدرس الآخر يخص حزب الله والقوي الحليفة له. حزب الله هو قوة مقاومة بلا شك، وهو مقاومة ذات سجل؛ وقد وجد الحزب نفسه مجبراً علي خوض معترك الصراع الداخلي بقوة طبيعة الأشياء، من ناحية، وبسبب التطورات اللبنانية الخاصة منذ الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب قبل ثماني سنوات، من ناحية أخري. ولكن المعركة الداخلية لم تكن يوماً واضحة المعالم والألوان، وهي ليست بالضرورة في نبل معركة المقاومة. احد أوجه فقدان النبل في لبنان الحديث هو البعد الطائفي للصراع السياسي. وبالنظر إلي ارتباطات حزب الله الوثيقة بإيران، بالنظر إلي ما تركه غزو العراق واحتلاله من أثر فادح علي النسيج الطائفي العربي، فإن خطوة فرض السيطرة علي بيروت الغربية أثارت ـ ولا بد ـ أصداء طائفية، أراد حزب الله أو لم يرد، قصد ذلك أو لم يقصد. قد لا يكون المتحدثون باسم السنة في لبنان جميعهم من الجديرين بالتحدث باسم السنة، ولكن سلاح الطائفية سهل الامتشاق، باهظ التكاليف، ولن يكون صعباً علي هؤلاء إثارة نوازع الكثيرين من الملايين من أبناء السنة.
أما الدرس الثالث فيخص لبنان والعرب جميعاً. ثمة عدد لا يحصي من الأساطير التي تحتل رؤية اللبنانيين لأنفسهم، ابتداء من مقولة الخصوصية اللبنانية، استقلال لبنان وتميزه، إلي ديمقراطيته الاستثنائية وحريته. اللبنانيون لا يريدون رؤية النسخة الحقيقية لتاريخهم: أن قياداتهم في أغلبها من ورثة العائلات السياسية، أن الديمقراطية اللبنانية بنيت علي النفوذ والأموال الأجنبية والتوازنات الطائفية، وأن لبنان تحول منذ استقلاله إلي ساحة لانعكاس موازين القوي الإقليمية والدولية. الثابت اللبناني الصلب هو نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية. وهذا النظام هو السبب الرئيسي، القناة الرئيسية، للتأزم اللبناني المتكرر، أو اندلاع أكثر من حرب أهلية، منذ الاستقلال. لإعادة بناء لبنان الدولة والاجتماع السياسي، لا بد من التخلص النهائي من نظام المحاصصة. وما عرفه لبنان، سيعيشه العراق. بناء الدولة العراقية علي أسس المحاصصة الطائفية والمذهبية والإثنية، وفي ظل الاحتلال الأجنبي، هو وصفة لحرب أهلية دائمة. يستبطن مفهوم المحاصصة انقسام الاجتماع الداخلي علي نفسه، وهو مفهوم غريب علي تاريخ هذه المنطقة ووعي شعوبها الجماعي.
كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
15/05/2008
القدس العربي