بيروت المستعيدة سيرتها السيئة الذكر
منى فياض
تستقبلك المدن أحيانا على نحوٍ خاص، كأنها تحتفل بك، فتستعرض نفسها أمامك لتبدو بأفضل ما تستطيعه. وهكذا كان الحال مع واشنطن لدى وصولنا للمشاركة في لقاءات دعم مشاركة المجتمع المدني في الحياة العامة. كان الطقس الربيعي الذي يفيض دفئاً واعتدالاً بشمسه الساطعة التي وفرت درجة الحرارة والرطوبة المناسبتين. بحيث ان ابنتي التي تقطن مونريال تحسرت على حظها الذي جعلها تختار المدينة غير المناسبة للسكن.
طالما اندهشت في كل مرة أزور فيها المدن الغربية عامة، اوروبا او شمالي اميركا، أي المدن المنتمية الى العالم الأول الصناعي المعدني القاسي والجاف. إذ في كل مرة أجد أنها تختلف عن انطباعاتنا وتصوراتنا عنها، كعواصم للبلدان الصناعية الطافحة لا بد بالكتل الاسمنتية والحديد ودواخين المصانع وتلوثها مع ألوانها الكئيبة الخابية.
لكن دائما تخيّب هذه المدن تصوراتنا الخاطئة عنها فتقدم لنا خضرة أشجارها اليانعة ذات الطراوة والنضارة التي لا تصدق، وشوارعها الفسيحة وعماراتها الجميلة التي تعبرها السنون فتزيدها جمالا ورسوخاً واندماجاً في ما يحيطها. تدهشك فسحات جنائنها وحدائقها العامة التي تفتح ذراعيها للعابرين بها وتغريهم بالمكوث في ظل اشجارها الباسقة ذات الخضرة المتدرجة والمتعددة.
وهكذا ينتشر المتنزهون أمام البيت الأبيض مجموعات مختلفة من البشر، منهم من جاء للاعتراض او للتعبير عن موقف أو لشتم ساكن البيت.
ومنهم من جاء للسياحة وللتفرج او للتنزه فقط وللجلوس قبالته تحت فيء أشجار باسقة وقرب تماثيل لافاييت القائد الفرنسي الشهير.
حتى السناجب البرية تجد لها مكاناً هنا للتنزه بين الناس دون وجل وكأنها تدجّنت مثل الحمائم التي تنافسها على التجول.
كل شيء هنا يغريك بإجراء المقارنة بمدننا الهجينة التي لا تعرف لها نمطاً معمارياً واحداً ولا هندسة منسجمة وهي رغم انتمائها الى بلدان العالم الثالث بما يفترضه نظرياً من اقتراب من الطبيعة وابتعاد عن الضجيج والتلوث نظراً لأنها بلدان لا تزال تعتمد على الزراعة ولا تعرف تلوث الصناعة وقسوتها؛ إلا ان العكس صحيح فمدننا الخالية من التصنيع والتكنولوجيا التي يذمها بعض الحالمين، نجدها ملوثة يعلوها الغبار ويملؤها الضجيج ويزيد من تلوثها وتكاد تنعدم فيها الخضرة ولا تعرف الحدائق او الجنائن إلا ما تبقى منها من عصور حكامها الرجعيين القدماء او ما بقي من عصر السلطنة العثمانية المستبدة سيئة الذكر. وهذه المدن ذات الهيئة الدائمة التبدل لا ترسو على حال بحيث تتغير صورتها بشكل مستمر فلا تحتفظ لنفسها بمعالم ثابتة او واضحة.
كأنها على علاقة مضطربة بالمكان وبالزمان فهي عاجزة عن الاحتفاظ بأبنيتها القديمة الأثرية فسرعان ما تلجأ الى هدمها بحثا عما هو جديد وعصري باعتقادها فتبني الابنية الحديثة الزجاجية او الاسمنتية بطريقة نمطية متشابهة. وكأنها اعتادت على سطوة الصحراء دائمة التغير والتبدل.
هذا ما خطر ببالي عند قدومي الى واشنطن، لكن سرعان ما تبدل حال المدينة واكفهرت فأطبق عليها طقس غائم، ممطر وبارد، وكأنها عكست مشاعر الخوف والقلق التي انتابتنا مع بدء ورود الانباء التي تحمل رائحة استعادة الحرب التي لم نودعها بعد عندما تحول الاضراب السلمي المفترض وذو الطابع المطلبي الى حركة انقلابية لجأت الى العنف الذي طالما حذرنا منه.
تحولت الزيارة من مناسبة ثقافية وفكرية يمكن الاستفادة منها على صعد عدة عبر لقاءات وزيارات للمتاحف او تسكع في طرقات مدينة جميلة كواشنطن فتحولت الى سجن وزمن مستقطع ننتظر خلاله نشرات الاخبار وتلقفها والركض الى مراكز البزنس لاستخدام الانترنت. يعيدك ذلك كله الى زمن الحرب الذي طالما رددنا مع المثل «تنذكر ما تنعاد».
لكن يبدو اننا أدمنّا الحروب وزمنها فسرعان ما عدنا الى سيرتنا السابقة نفسها واستعيد العنف والمعارك وانتشار المسلحين مع أقنعتهم ورشاشاتهم وبدء تعداد الضحايا.
هل هي الحرب؟ ولو أنها الآن تبدو من طرف غالب واحد. لكنه عود على بدء واستعادة الى زمن تعداد المفقودين الذين لم يكد البدء بمحاولة الخروج من ذاكرتهم المعلقة وجعلهم جزءا من التاريخ المأساوي لكن المعترف به للحرب الأهلية السابقة.
ولم أكد أقترح متحفاً لجرائم حربنا العتيدة السابقة كي نتذكرها فيتسنى لنا ان ننساها بشكل صحي وسليم وجعلها جزءا من التاريخ الذي نسجله دون تضخيم او عواقب تعيق ذاكرتنا من التخلص من آلامها واحزانها.. حتى أطلت علينا بشائر العنف المتجدد حاملة معها امكان تجدد سيرتنا المعتادة وبدء تعداد ضحايا جدد لن نستطيع الحداد عليهم مجددا كي نراكم المزيد من الأخطاء التي تقودنا الى دورة جديدة من دورات العنف التي سنحتار في تسميتها الآن: فماذا سوف نطلق على هذا النوع من العنف؟ الحرب الأهلية السابقة اتسمت باسم الحرب الأهلية اللبنانية وصار النزاع بين الطوائف يتخذ لنفسه اسم «اللبننة». الآن لدينا نموذج الحرب العراقية حيث تختلط فيها الامور فتصبح «العرقنة» تعني عدم استواء الحرب على نموذج واضح المعالم والاطراف او على وتيرة واحدة من العنف؛ كما انه ليس للضحايا صفة واحدة واضحة فتختلط الامور فلا نعود نعرف المقاوم من الارهابي والمطالب بتحرير أرضه ممن يزرعها موتاً وخوفاً وتقتيلاً..
فماذا ستكون عليه المرحلة اللبنانية المقبلة؟ حرب المقاومة ضد أهلها؟
إن اكثر ما يدعو للأسف أنها ستكون نهاية الحقبة التي عرف فيها حزب الله كحزب مقاوم يشهر سلاحه ضد إسرئيل وحدها ولا يريد سوى تحرير الأرض اللبنانية.
ها هو قد تحول الآن الى الداخل اللبناني من أجل إجبار الحكومة على التراجع عن قرارات اتخذتها بقوة السلاح!! وها هو يريد احتلال بيروت وإرهاب أهلها بدل تحرير مزارع شبعا!!
وها نحن احتُجزنا بعيدا عن بيروت نتابع الأخبار مجددا مستعيدين القلق والخوف اللذين لم يغادرانا اصلاً متابعين ما يحصل في شوارعنا التي نعرفها وبين بيوتنا التي غادرناها لفترة ولكن مُنعنا من العودة اليها في الوقت المحدد لنا لذلك.
وهكذا تركنا بيروت مدينة نعرفها، متسائلين أي مدينة سوف تستقبلنا الان؟ هل سوف تظل لدينا حرياتنا التي طالما عهدناها؟ حرية التعبير والكلام والعمل والتنقل؟ حرية الصحافة والكتابة والحريات النقابية والمهنية وحرية الانتماء السياسي وحرية الاختلاف. باختصار هل سنودع الديمقراطية- ولو غير المكتملة مقارنة بالحريات والديمقراطيات في الغرب- لكنها ديمقراطية مع ذلك!!! هل سنترحم عليها؟؟
ماذا ستحمل لنا الأيام القادمة؟
كان لنا إذن كل الحق فيما سبق وتخوفنا منه واختلفنا حوله مع حزب الله من ان من حق الدولة وحدها احتكار السلاح واحتكار العنف وان الجيش ليس بحاجة الى المسلحين كي يقتحموا أبنية ومؤسسات لكي يتسلمها منهم ومن ثم يحافظ على حياة من يقدر منهم. عليه حمايتهم وحده من دون شريك او تعليمات من طرف واحد حتى ولو احتكر اسم الله وتمثيله.
كاتبة من لبنان