ما يحدث في لبنان

بيــروت

null
حسام عيتاني

الجرح الذي أصاب وجه بيروت عميق ولن يندمل في القريب العاجل. لكن بيروت، مثلها مثل جميع المدن العظيمة قادرة على الرد على العدوان عليها على طريقتها. لن تحمل السلاح وستترك لغيرها التباهي بالانتصارات على الأخوة وأبناء الوطن الواحد.

ليست هي المرة الأولى التي تتعرض حاضرة لبنان الكبرى الى هذا الصنف من الهجمات. ففي الثمانينيات دفعت المدينة غالياً ثمن ممارسات الميليشيات الريفية المنتصرة. غير ان النظر في أحوال العاصمة وأهلها، يشي بأمور أعمق غوراً مما يقوله السائرون في مواكب الابتهاج المسلح.

دعونا لا نخطئ في التشخيص: بيروت ليست لطائفة ولا لفئة حتى لو غلبت على سكانها هوية مذهبية معينة. عاصمتنا هي النول الذي تنسج عليه خيوط الإيلاف اللبناني، بكل ألوانه وتفاصيله. قدرتها على استقبال كل اللبنانيين والعرب وغيرهم، واعتبارهم من أهلها الأقربين، هو موطن سرها وأهميتها. ولو لم تكن كذلك، لما استحقت أي اهتمام. وليس صدفة ان كبار المثقفين اللبنانيين المقيمين في بيروت والمدافعين الحقيقيين عنها بأقلامهم وكلماتهم، هم من ابناء المناطق الذين باتوا اشد تمسكاً حتى من كثير من أهالي بيروت، بما تمثله المدينة.

اطرحوا جانباً تلك الشتائم التي يكيلها الأدب الضيعجي اللبناني الى بيروت، من مخائيل نعيمة الى خليل حاوي ومن بينهما وبعدهما. فتلك الأوصاف وهؤلاء الكتاب ممن يستحقون تحليلاً نقدياً ونفسياً واجتماعياً ليس هنا مجاله. وانسوا آداب وفنون الحنين الى وداعة القرية وألقها. فأكثر ذلك من صنع خيال بائس. ففي هذه المدينة وحدها يكمن الأمل في بناء لبنان الوطن والدولة والمشروع الديموقراطي الحقيقي الذي يعلو فوق هدير الطوائف وصممها المتأصل.

وكما عرفت بيروت كيف تستوعب الهجمات والغزوات السابقة، وتعالج القائمين بها إما بجعلهم من أهلها وبإدخالهم في نسيجها وإيقاعها وشروطها، وإما بلفظهم خارجها بل خارج التاريخ بأسره، ستعرف كيف تلملم أشتات نفسها، برغم كل المرارات وتعيد طرح نفسها كمكان أول للقاء اللبنانيين وحوارهم السياسي والثقافي.

لذا، يتعين التشديد على مسألتين. الأولى إن التوفيق لم يكن حليف النائب سعد الحريري في تحذيره من أن أهل بيروت لن يستقبلوا أي لاجئ في حال تعرض الجنوب الى عدوان إسرائيلي مقبل. فبيروت، المدينة المفتوحة لجميع اللبنانيين والعرب، لا يمكنها ان تقفل ابوابها في وجه احد وإلا خسرت نفسها وخسرت قيمتها.

كان حري بالنائب الحريري التأكيد على قيم التعدد والاعتدال التي تمتاز عاصمتنا بها، برغم كل التجاوزات القميئة التي قام بها مسلحو الزمن الرديء هذا، وبرغم ما كشف الهجوم على بيروت من عطب راسخ في العقل السياسي اللبناني الطائفي، عموماً، والتمسك، في المقابل، بواجب أهالي العاصمة في نجدة أي من مواطنيهم حيال أي مصاب يتعرضون اليه، وخصوصاً إذا كان اعتداءً إسرائيلياً. وكان من الافضل ترك الثأر وسواه من الممارسات والأقوال الاستفزازية لمن اعتدى على بيروت في تلك الليلة الظلماء.

وطالما ان الشيء بالشيء يذكر، كان يحسن ان تسعى وسائل اعلام «المستقبل» الى الاحتفاظ بصورتها كضحية وعدم الوقوع في إغراء الانتقام اللفظي ممن ارتكب خطيئة إرغام التلفزيون والصحيفة والاذاعة على الصمت. ومن أسف ان صمت الوسائل هذه كان ابلغ وبأشواط، من كلامها بعد استئنافه. لقد جذب سحر البيان السريع بل المتسرع وسائل الاعلام التي تعرضت الى ظلم لا يغتفر، فوقعت في إغواء الرد على من اساء اليها. كان يمكن ان تستفيد وسائل «المستقبل» الاعلامية من محنتها بتحويلها الى فرصة ذهبية واستخلاص عِبَرٍ تجعلها في منأى عن الردح الطائفي والمذهبي والارتقاء الى سوية وطنية تترك الخصوم الاعلاميين والسياسيين في غيهم يعمهـــون وفي مستنقعاتهم يتخبطون.

خلاصة القول إن ما من مزاج حربي في بيروت، بل لا يجب ان يكون فيها مزاج من الطينة هذه. وتوجيه الاهانات الى اهالي بيروت بعدم حملهم السلاح في جولة الجنون الاخيرة، لا يمكن ان يصدر سوى عمن يجهل معنى المدينة والمدنية. وأما الحديث عن دور مقبل للتيارات السلفية او لتنظيمات أصولية متطرفة، فيجب ان يؤخذ على محمل الجد لكن من زاوية اعتباره خطراً يهدد بيروت وغيرها من المدن اللبنانية ومدخلاً الى ترييف العاصمة وأهلها وضخ قيم الثأر والعشيرة والقبيلة والطائفة بين ظهرانيهم.

الأمل هو في ان تكون بيروت قادرة على هضم و«تدوير» ما جرى والاستفادة من هذه التجربة المريرة والخروج منها بما يبقيها فوق المنزلقات الضيقة.

السفير


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى