لماذا لم توجد المرأة الصيّادة؟
مهما كانت إرادة العلماء، فان العلم، ما ان يطال مجال الاختلاف بين الجنسين حتى يفتقد الى الموضوعية. العديد من الأمثلة العلمية تبيّن التغيّر الذي طرأ على هذا المجال من المعرفة، بعد اختراقات الحركة النسوية وتبدّل العقليات والمشاركة الواسعة للنساء في بلورة المعرفة عموما.
صحيفة “اللوموند” الفرنسية (8/8/2009) اختارت امثلة محددة عن مجالات علمية بعينها. نورد منها اثنين.
الاول: السبعينات من القرن الماضي. التراتبية الذكورية لدى قرود “البابوان” الافريقية، هل هي نظرية زائلة؟
في العام 1960، ارسل العالم الانثروبولوجي الاميركي لويس ليكي سكرتيرته الى غابات تانزانيا لمراقبة حياة قرود “البابوان”. كانت تلك الرحلة فاتحة تاريخية لسلالة من الانثروبولوجيات اللواتي قلبنَ الوصف والنظريات رأساً على عقب. يتساءل الاميركي لويس ما الفرق بينه وبين سكرتيرته؟ ويجيب مواربا:ً “أرسلوا رجلا وامرأة الى كنيسة. وبعد ربع ساعة اخرجوهما منها. الرجل لا يكون قد رأى شيئا، فيما المرأة سوف تصف لكم القبعات والاحذية”.
الجيل اللاحق على سكرتيرة لويس الاميركي كان على هذا القدر من الدأب على معرفة التفاصيل. انثروبولوجيات الجيل الاول كان يطول بقاؤهن في الميدان، يعملنَ اكثر من زملائهن الرجال. لماذا؟ ليس فقط لأنهن اكثر صبراً وقدرة على المراقبة؛ بل ايضا لأسباب مهنية صرفة. ففي الستينات كنَ اذا رغبن بالعودة الى الجامعة ونيل مركز مرموق فيها، كان عليهن نشر ضعف ما ينشره زملاؤهن الرجال. نظرتهن هزّت أشياء كثيرة، منها النظرية الراسخة حول التراتبية السلطوية الذكورية لدى القرود عموما. وباتَ يمكن القول ان سيطرة الذكور من القرود على مجتمع القرود بأسره ليس سوى اسطورة. هذا ما بلغته المساهمة المتصاعدة للعالمات في الانثروبولوجيا الحيوانية.
المثل الثاني: في الثمانينات من القرن الماضي: لماذا لم توجد المرأة الصيّادة؟
تبعاً لعلم الانثروبولوجيا الاجتماعية التقليدية فان توزيع المهام وسط الشعوب البدائية العائشة على القطف والصيد، هو التوزيع نفسه: للرجال اصطياد الحيوانات كبيرة الحجم؛ وللنساء قطف النباتات او التقاط الحشرات او البيض. طال عمر هذا الوصف وأُرفق بتفسير بديهي: النساء لا يشاركن في الصيد بسبب الحمل والاطفال الخ. وبما ان اختراع الصيد كان دائما أساساً لاختراعات اخرى، فان النوع الذكر هو صاحب الانجازات التقنية والعلمية والغذائية المنبثقة منه…
هذه المقولة أُعيد النظر بها في عام 1980 بفضل العديد من عالمات الانثروبولوجيا الاميركيات. اولا، حصة الاختراع والانجاز التقني ليست بالأقل على أيدي النساء. فبحسب العالمتين نانسي تانر وادريان زهلام، النساء هن اول من استخدم الآلات في أنشطة القطف والقص والقطع والتقطيع. ثانيا، ليس صحيحاً ان النساء لم يشتركن في الصيد.
العالم الفرنسي ألان تستار بدوره هو اكثر من دَرَس هذه الوظيفة النسائية لدى القبائل والشعوب البدائية. النساء كن يذهبن للصيد، ويصطدن الفقمة. اما سكان استراليا الاصليون، “الأربوريجان”، فالنساء من بينهم يصطدن حيوانات الحفَار الشرسة في جحورها. ثالثا، وبحسب العالم الفرنسي نفسه: “المرأة لا تصطاد الحيوان الذي يسيل دمه، بل فقط ذاك الذي يُصطاد من غير إسالة الدم”. سرّ الدم تجده في المعتقدات القديمة حول دم حيض النساء وكل المحرمات الدائرة حوله في الغالبية العظمى من المجتمعات البدائية. وهي تقيم الموازاة بين دم النساء ودم الحيوان؛ لذلك فان “كل شيىء يحصل كما لو كانت المرأة لا تعرِّض دم الحيوان للخطر، بنفس القدر الذي لا تعرِّض فيه دمها هي”.