صفحات ثقافية

اذا فسد الشعر!

null
خيري منصور
يروى عن الشاعر ويليام بطلر ييتس انه كان معجبا بشاعر بريطاني شاب، لم ينشر غير القليل من القصائد، وعندما التقاه فوجىء بقامته المسرحية، ووسامته، وصوته الجهوري وعينيه اللتين يمتزج فيهما الحزن بالكبرياء، فما كان من ييتس الا ان صرخ في وجه الشاعر الشاب : لن اقرأك بعد الآن. وهذا هو الضرر الوحيد الذي يمكنني ان الحقه بك كي تبدو ناقصا بالنسبة لي على الاقل. ولم يكن ييتس تنقصه الحكمة خصوصا في سنوات النضج الشعري، لكنه استجاب ولو للحظة لما أملته عليه نرجسية انسانية وليست شعرية فقط، انه يذكرنا بعبارة بالغة الكثافة للشاعر الالماني ريلكه الذي قال بأن الجمال ينطوي على رعب ما، لهذا لا بد ان نحذف منه شيئا كي يصبح قابلا للاحتمال. اما صديقي الزورباوي الذي يكتب الشعر بقدميه، او يعزفه على الهواء، فقد قال لي ذات يوم معترفا بأنه اذا شاهد امرأة ذات جسد معافى وهي تمشي امامه بردفين يشبهان ردفي فرس مدللة، ومعلوفة بسخاء، فإن ما يتمناه هو ان لا يكون وجهها جميلا كي يستطيع الاحتمال ….
اننا نتحدث هنا بلغة اخرى غير تلك التي يتحدث بها المشتغلون في صناعة الذهب رغم انهم يدافعون عن نقصان عيار الذهب كي يتصلّب، ان هذا الدفاع عن النقصان هو من صميم الهاجس البشري خصوصا عندما لا تكون الذات مُتحققة وتشعر في العمق بأنها لم تنل استحقاقها حتى لو كان وهميا! ”’ الشاعر العربي الان، وريث اسلاف لم يفتقروا الى شيء قدر افتقارهم الى التجانس، وهذا بحدّ ذاته امتياز لأنه يغني التنوّع، ويقي من التكرار، لهذا لم يعتبر الشعراء العرب الذين سمعوا جاك بيرك يقول بأنهم كثيرون كأشــجار النخيل في أرضهم وصحرائهم مديحا، لأنه فاضل بين الكم والنوع لصالح الكم واوحى على نحو غير مباشر بأنهم متماثلون كالنخيل رغم ان النخيل ليس كذلك، ولو كان بيرك ممهورا بالرسالة الانطولوجية ذاتها التي قال بأن الابجدية ممهورة بها لعرف ان النخيل ليس متشابها الا بسعفه وانتصاب قامته وتزاوجه بغبار الطّلع… الشاعر العربي الان سليل امرىء القيس والحطيئة معا، وحفيد المتنبي وثالوث الهجاء الاموي، وهو صوفي وصعلوك حسيّ يعصر الحزن بأصابعه كعنقود عنب او سفرجلة ناضجة بقدر ما هو تجريدي يتعامل مع الانوثة لا مع امرأة ومع الوطنية لا مع الوطن ومع العشق لا مع العشاق! عندما يكتب هذا العربي الملتاع، والملدوغ بشهوة اشهار الذات كعورة تستدرجه اللغة، وتفتضح سرّه، لأنه يفعل بلا تردد ما فعله الملك الضلّيل كي يثأر لنفسه من ذويه ويدفع الثمن، وهو اشد انواع الموت الما وتعفّنا وهو تقرّح الجلد تحت عباءة مستعارة من خصم تقمّص في لحظة ماكرة دور الحكم. وهو الحطيئة وابن الرومي معا، اذا لم يجد من يهجوه هجا نفسه، وان لم يجد من يلدغه من فائض الكبت لدغ نفسه ليس لأنه شرير او معجون من سايكولوجيا غير بشرية، بل لأنه الخلاصة التي يتكثف فيها تاريخ غاشم، اورث شعراءه شهوة السلطة فاختلط عليهم الامر بين نفوذ شعري وآخر اجتماعي او اقتصادي او حتى جسدي. يموت هذا الشاعر وفي نفسه شيء من تاء التأنيث، وولاية عباسية او أموية او حتى عثمانية، فالجد الشعري الاعظم ابو الطيّب قال بأن فؤاده ملكي وان كان لسانه شعريا… لهذا ذهب بالنرجسية الى اقصى العمى في عز البصيرة، واستطال حتى تحول الى نخلة باسقة امام الشعراء والى عشبة في حضرة خليفة. ان من صنّفوا ديوان العرب الى خانات منها بل في مقدمتها الفخر والمديح، أهملوا بعدا سايكلوجيا وآخر انثروبولوجيا في نسيج الثقافة التي تشكل منها هذا الوريث….. فالرهان على احد اثنين هما اقصى طرفين متباعدين لمعادلة كونية لها الصدر والقبر معناه الوحيد حذف المتن لصالح الهوامش وحذف الوجود دفاعا عن وجود متخيّل، وهذه بحد ذاتها مفارقة، لأن أبسط بدهيات علم النفس هو ان سَرطنة الذات وتضخمها المرضي هو المعادل الموضوعي للشعور بعدم الاستحقاق والدونية او مركبات النقص اذا استثنينا استخدام مصطلح كلاسيكي في السايكولوجيا، فالغلو في مديح الفروسية ومنظومة قيمها قد يكون البرهان على غيابها، فالناس الذين يتحدثون بافراط عن الديموقراطية انما يفعلون ذلك على سبيل التعويض والحنين الى ما هو مفقود، وهذا ما عبّر عنه برنارد شو عندما قال ان كل انسان يثرثر عما ينقصه بالفعل.
”’ لدينا في ثقافتنا الحديثة محاولات جادة وبالغة الاهمية في رصد حالات العصاب والرهاب والاستعلاء وتبادلية الهجاء، منها ما كتبه صلاح عيسى مثلا عن أدلجة السياب، وما كتبه هادي العلوي عن الاغتيال السياسي في تاريخنا، وحبّذا لو يقوم ناقد عربي برصد هذه الظواهر لدى شعرائنا وكتّابنا ممن احترفوا اغتيال بعضهم، فما كتبه الماركسيون والواقعيون عن مجلة ‘شعر’ مثلا يصلح عينة نموذجية لفحص دم لهذه الثقافة، وبالمقابل فإن ما كتبه القوميون عن الماركسيين لا يقل نموذجية في هذا الفحص.
ما كتبه التقليديون الاتباعيون عن الحداثيين وما تبادله الشعراء الرواد من إقصاء سلطوي لبعضهم من ملكوت الشعر لم يذهب مع الريح فقد ورثناه، بل رضعناه في الحليب المشوب بسمّ الكراهية وثقافة الانتقام والكيدية والثأر ….
وما قاله البياتي عن نزار في الحوار الشهير الذي اجراه معه فاروق البقيلي وما رد به نزار على البياتي، لم يدخل حتى الان الى مختبر السايكولوجيا للتعرف على منسوب الوراثة في هذا المرض المزمن. ان حكاية العربي مع الشعر ليست هي الحكاية ذاتها في أية ثقـــــافة أخرى، لأنه ما من شعر في التاريخ تورط بظاهـــــرة التكسب كما حدث لديوان العرب، ولم يكن ما كتبه عبد الفتاح كيليطو عن القصيدة المتعددة الازواج وما كتبه د. جلال خياط عن التكسب بالشعر وما افتضحه د.علي الوردي في ‘وعّاظ السلاطين’ الا صرير اوليا لبوابة عملاقة مغمورة بالصدأ.
فالشعر العربي لم يكن خارج تلك المنظومة المكائدية عندما يتعلق الامر بالحب والثورة والموت، وغياب المناقبية في بعدها التربوي والاجتماعي لا بد ان يقابل غياباً آخر في الكتابة، ان فساد الشعر وليس فساد الملح هو خاتمة الكتابة، عندما يتحول الشعر الى عيّنات نازفة من دم موبوء، وهنا تقتضي الشهادة منا ان نعترف لمن نجوا من هذه الجرثومة الوبائية بالفضل مرّتين… لأنهم تحولوا الى لقاحات باسلة واجترحوا لنا رواقية كانت ستبقى كلمات مجردة في الموسوعات والمعاجم لولاهم …
الشاعر العربي الآن ليس نبتا شيطانيا او مستولدا بأنبوب الشعرية المترجمة انه وريث هؤلاء جميعا، لكنه بدلا من أن يقتل آباءه تقمصهم وشهر سيوفهم وعوراتهم في وجه أخيه، ويبدو ان للشعر ايضا هابيله وقابيله وله أيضا بروتوسه وقياصرته، لهذا أشفقت على راحلين كبيرين أطلق اعلام الوجبات السريعة ونقد المناسبات عليهما لقب القيصر، رغم أن من يطلقون هذه الالقاب على مبدعينا الراحلين هم بروتوس بطبعات مختلفة! شاعر وكاتب من الاردن
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى