صالح بشير إلى جوار ربه… من يعوِّض هذا الغياب؟
بلال خبيز
هل كتب صالح بشير مقالته لهذا الأسبوع؟ «لو صاح الديك على هذه الكرة الأرضية لعرفنا، لكنه الموت»… الموت الذي يأتي مبكراً كعادته، لن نقرأ صالح بشير مرة أخرى على صفحات الصحف، لقد أخلى المكان لأناس قد يكتبون عنه. ومن سوء طالعي أنني واحد منهم.
بموت صالح بشير تنقص الجدوى، فلم يعد في وسعي أن أنتظر مقالة الثلاثاء متيقناً من لذة القراءة… لقد غاب صالح بشير وبغيابه باتت اللذائذ أقل مما كانت من قبل، وهي كانت قليلة أصلاً، لكن نقص اللذائذ لا يكفي وصفاً لهذه الخسارة، فصالح بشير ككاتب متميز، كان واحداً من الذين يجهد الكاتب في كل مكان لضمهم إلى لائحة قرائه، فالكاتب يكتب لمن هو أعلم منه وأفقه، وصالح بشير كان أعلمنا وأفقهنا… أقله، كان واحداً من الأعلام القلائل الذين يغادرون تباعاً من دون استئذان.
حين يكتب الحي عن الميت، جسداً، يخشى من المستقبل، فالكتّاب في الأصل ليسوا سوى تلامذة لكتّاب آخرين، يقرؤون لأنهم يجيدون ادعاء الصفتين: صفة القارئ وصفة الكاتب. مؤلم أن يغيب القارئ الذي هو صالح، إنما أيضاً قد يكون غياب صالح الكاتب أشد إيلاماً، ومنذ اليوم عليّ أن أغادر اطمئناني كل ثلاثاء، وأن أبدأ بالتفتيش وسط كومة قش الكلام السائر عن إبرة كاتب في وسعه أن يلكز أعصابي ويحرضني على الفكرة… غياب صالح بشير يترك الأسبوع ناقصاً نقصاً فادحاً، ويصعب أن نملأ هذا النقص كيفما اتفق.
لم أكن أعرف صالح بشير شخصياً، وكانت العلاقة بيننا علاقة قارئين بكاتبين، فكنت أقرأ صالح وحين أكتب أفكر فيه قارئاً، والحال، حين يخسر ميزان الكتابة إحدى كفتيه، تصبح الكتابة عصية وبالغة العسر… هذا الغياب لا يتصل بالحزن العميق والمباشر على رحيل الرجل الذي عرفته كاتباً… هذا الغياب يترك الأحياء حيارى، والأرجح أننا في غياب هذا الرجل نصبح أقل ثقة بما نقوله مما كنا من قبل. كما لو أن غياب صالح بشير يضعنا على حافة الاعتراف بأنانياتنا المرتفعة كقراء. ننتظر أن يكتب، ونريد أن نعجب بما يكتب، ولا نمهله أو نرحمه أو ندعه قليلاً ليرتاح. لهذا نحسب أنه تركنا من دون استئذان، لنغالب الحيرة في غيابه.
يقولون إن الكاتب لا يموت، آثاره تبقى، ودوماً ثمة من يعيد قراءته بعد زمن، لكن الكتّاب يعرفون جيداً أن خسارة واحد منهم تعني أن مستقبل الكاتب نفسه بات مهدداً، فلا تستقيم كتابة من دون متلقين، ولا تصح كتابة عالية الشأن على ما كانت عليه كتابة صالح من دون أن تجعل الكتّاب أنفسهم جمهوراً من القراء والمتلقين… صالح كان كاتبنا، نحن الكتّاب، وكنا قرّاءه، واليوم حين يغيب تفيض في الروح مشاعر الفقد العظيم، فبهذا الفقد أفقد أنا القارئ بعض صفتي كقارئ، وينقص الكلام الذي أكتبه قيمة كان يستمدها من تلك القراءة، مثلما يفقد الكلام الذي أكتبه ميزانه الدقيق الذي يجعلني أتهيب الكتابة وأنا أحسب أن صالح قد يقرأ ما أكتب.
وداعاً يا كاتبي… وداعاً يا قارئي… كان المنفى قبل غيابك أكثر اتساعاً مما هو عليه الآن… اليوم تكاد تتحول الأمكنة كلها إلى منفى، وتعجز المدن عن تصريف الوقت بما يجدي ويجعل العيش أكثر من مجرد مجاملات.
لقد عودتنا هذه البلاد أن نقطع العهود للشهداء… لكننا أبداً لم نقطع عهوداً لكتّابنا الكبار ونفيهم حقوقهم… الكتابة تستمر ما فتئ الكلام مستمراً، هذا أمر بديهي… إنما يجدر بنا أن نفكر جدياً بأن نقطع عهداً لصالح بشير… أن نكمل ما بدأه ولم ينهه، كحال معظم الكتابة في كل مكان من العالم، ومعنى أن نكمل ما بدأه صالح يتصل اتصالاً مباشراً باجتراح الأفكار اللامعة، والاتسام بالنزاهة الفكرية التي جعلته دوماً واحداً من القلائل الذين يتجرؤون على نقد أنفسهم ومراجعة ما كانوا قد كتبوه بوصف الكتابة دوماً عملاً ناقصاً ولا تتم إلا بانتهاء الزمان.
صالح بشير إلى جوار ربه… هذا يبعث على الحزن… لكننا ما إن ننفض الحزن عن كلماتنا وأفكارنا، حتى نعاود سيرته في ما كان يكتب ونقتحم المواضع التي كان فيها يساجل ويناقش، ونجرب حياكة خيط الأفكار الذي كان قد أنجز بعضه… لكننا مع هذا الجهد كله، لا أحسب أننا نستطيع أن نعوض هذا الغياب.
* كاتب لبناني