«رمضان الخير»: طاحونة الاستهلاك
ورد كاسوحة *
من يتابع جيداً وقائع هذا الشهر المدلّل يظنّ أنّ الأزمة الرأسمالية العالمية لم تمرّ من هنا. أمر قد يبدو منطقياً لمن يتحسّس ظاهر الأشياء، وخصوصاً أنّ الشواهد التي تسند هذا الظاهر «كثيرة»، ومنها على سبيل المثال: الموائد الرمضانية العامرة (باتت محفلاً لاستهلاك السياسة والطعام في آن معاً)، النشاط الدعائي الفظ للجمعيات المسماة «خيرية»، الكرنفال التلفزيوني المريع والممالئ للذائقة الاستهلاكية المبتذلة… غير أنّ الوقائع غير الظاهرة للعيان تقول أيضاً إنّ ماكينة الاستهلاك الرمضانية قد تقلّصت إلى حدود معينة، هي حدود قدرة الرأسمال على الحدّ من خسائره (لا على زيادة أرباحه) بعد أزمة انهيار البورصات ونفاد مئات الملايين من الدولارات. ومن يُجرِ مقارنة بسيطة بين الإنفاق الدعائي في السنوات الماضية والإنفاق اليوم فسيلحظ حتماً كم تقلّصت الميزانيات المرصودة لهذا الشهر، من دون أن يؤدي ذلك إلى تقلّص مماثل في حجم الأرباح. وهنا يقع المرء على مفارقة لافتة. إذ إن المنطق التجاري البسيط يقول بأن الطلب على «السلع» يقلّ كلما تضاءلت «معايير الجودة» في هذه السلع. و«معايير الجودة» في مجتمعاتنا الطرفية ترتبط بحجم الإنفاق على السلعة لا بقدرة هذه السلعة على تلبية احتياجات المستهلك. لذا كان لا بد من أن تنعكس خسائر شركات الإنتاج التلفزيونية وشركات الإعلان تلقائياً على مستهلكي سلعهما، أي على جمهور «التلفزة الرمضانية». لكن شيئاً من هذا لم يحدث. والسبب في ذلك أنّ العادات الاستهلاكية المستجدّة في شهر رمضان كفّت عن كونها عنصراً دخيلاً على حياة الناس، وباتت بفضل جهود خبراء التسويق والإعلان «حاجة ملحّة»، تشبه حاجتهم (حتى البيولوجية منها) إلى العمل والنوم وممارسة الجنس… والانفضاض عن هذه «الحاجة» لم يعد أمراً سهلاً كما كان قبل سنوات، ويحتاج إلى أكثر من انهيار البورصات حتى يستوي ويصبح أمراً واقعاً.
وكما تسرّع المراقبون في إعلان دفن النظام الرأسمالي بعد أزمته البنيوية الأخيرة، كذلك فعلوا في تقديرهم لانعكاسات الأزمة على الأنماط الاستهلاكية السائدة في المركز والأطراف على حد سواء. ولأننا ننتمي إلى مجتمعات طرفية وتابعة للمركز الرأسمالي، فإن رصد أنماط استهلاكنا بعد الأزمة، يغدو أولوية قصوى تتقدم على سواها من الأولويات. وأيّ مناسبة أفضل من شهر رمضان لتظهير قدرة أصحاب الرساميل الكومبرادورية على «التكيّف مع الوضع»، ودفع الناس إلى المزيد من الإنفاق الاستهلاكي رغم ضيق ذات اليد واستفحال الفقر إلى حدود غير مسبوقة.
وبما أن العامل الديني هو الغالب على هذا الشهر، فإن توسّله من طرف المعلنين وأصحاب شركات الإنتاج وأرباب الجمعيات «الخيرية» يغدو تحصيل حاصل. صحيح أن اللعب على عنصر التديّن في رمضان ليس بجديد على الرأسمال وملحقاته، إلا أن الجديد حقاً هو انتقال هذه الظاهرة من الحيز الدعوي الصرف وغير المتطلّب إلى حيز مختلف تماماً. حيّز يجعل من «الدعوة» صنواً للاستهلاك، ويربط فاعليتها بمقدار ما تعود به من أرباح على أصحاب المحطة الدعوية أو الجمعية «الخيرية». فمن دون هذا المردود المادي لا قيمة لهذا «المسلسل التاريخي» أو ذاك «البرنامج الديني»، ولا مكان لهما في هذا الحيّز من الهواء المباشر (هل تتخيلون ثمن هذا الحيّز في رمضان؟). والنّهم إلى التسليع وتجريد «المنتجات» الفنية من قيمتها الاعتبارية لا تنتهي هنا، فما إن «يأفل» شهر رمضان حتى يبدأ الحساب. والحساب هو حساب المعلنين وأصحاب المحطات لشركات الإنتاج التي تحاسب بدورها الكتّاب والمخرجين والممثلين والمذيعين على عصيانهم (أو إذعانهم وهو الغالب) لشروط البث الرمضاني، والويل لمن لم يستوفِ منتجه هذه الشروط التعجيزية والمناهضة للإبداع الحرّ تعريفاً! ها هنا يأتي دور شركات الإحصاء لتجري جردتها السنوية وترى أيّ البرامح هو الأكثر إقبالاً حتى نستنسخه العام المقبل، وأيها هو الأقلّ إقبالاً حتى نطرده من الجنّة الرمضانية. ودفتر الشروط الفضائي (العائد إلى المحطات الخليجية) معروف للجميع، ولمن لا يعرفه نقول إنه كناية عن خلطة سوريالية تضمّ إلى التديّن الاستهلاكي، الإثارة غير الفاضحة! والفروسية القبلية (فروسية الغزو والسبي!) والعادات الأصيلة (كجرّ النساء من شعورهن وقتلهنّ عندما يرتكبن العار!)…
أمّا التناول الرصين لتاريخ هذه المنطقة وتقليبه على كل الأوجه السلبية منها والإيجابية، فلا يناسب «مزاجنا المحافظ» (بشقيه النيوليبرالي والأصولي)، ولا يتّسق مع «أجواء» رمضان التي يريدها المنتج الخليجي والمعلن اللبناني (وكذا السوري والمصري) معقّمة وخاضعة «لفلتر» دقيق. «فلتر» يجب ألا يمرّ عبره أي مشهد جارح (مشهد يخدش حياءنا وحساسية ليبراليينا!): فشبابنا لا يرتاد النوادي الليلية ولا يغرق في السّكر حتى ينسى واقعه المزري، ونساؤنا لا يرتدين إلا البرقع ولا يشغلن مواقع عامة ولا همّ لهن إلا تزجية الوقت في البيوت المقفلة، وشعوبنا العربية لا تكره إسرائيل ولا تشتم أنظمتها الدكتاتورية ليل نهار…
وكلّما اقتربت بعض الإنتاجات الفنية من واقعنا أكثر، ازداد ابتعاد الإنتاج النفطي عنها. فهذه الأعمال تخالف دفتر شروط المنتج والمعلن معاً، ولا تغذّي نهمهما المفرط إلى الربح. وإلا كيف نفسّر انفضاض معظم المحطات الفضائية العربية (عدا قناة «الجديد») عن عرض مسلسل غنيّ ومحبوك فنياً
تقلّصت ماكينة الاستهلاك الرمضانية إلى حدود قدرة الرأسمال على الحدّ من خسائره
كمسلسل «الدوامة». مسلسل يحكي قصّة اكتشاف النفط في سوريا عقب الاستقلال، ويعرض للحراك السياسي والاجتماعي الكبير الذي تميّزت به تلك الحقبة من تاريخنا. وقد تمثّل معاينة هذا العمل فرصة نموذجية لإظهار كمّ العداء الذي يكنّه الرأسمال المهيمن للنماذج الإبداعية التي تحمل همّاً تنويرياً وثقافياً جاداً؛ فأصحاب العمل لا يلعبون على عنصر التديّن، ولا يبالغون في تظهير الإثارة السوقية، والأهم من هذا وذاك لا يسلّعون النساء، ولا يغفلون أثر اكتشاف النفط واحتكاره على ما يحدث حالياً. لذا لن تجد إنتاجات كهذه مكاناً لها في طاحونة الاستهلاك الرمضاني حتى إشعار آخر. وإذا أراد المثنّى صبح (مخرج العمل) أو فوّاز حداد وورثة الراحل ممدوح عدوان (سيناريو ممدوح عدوان مأخوذ عن رواية «الضغينة والهوى» لفواز حداد) إخراج هذا العمل إلى النور فلا بد أن يكفّوا عن نزقهم وطيشهم، ويتركوا جانباً مشروعهم التنويري، ويعودوا صاغرين إلى حظيرة الكتابة الاستهلاكية السّهلة و«القابلة للهضم». «فحالة الاستعصاء» التي تلاقيها هذه الأعمال لدى المستهلك «السهل المنال» باتت سمة عامة. وعموميتها متأتية عن ممارسة المحطات الفضائية أسلوباً خبيثاً ومبتكراً مع المشاهد ــــ المستهلك. أسلوب يقضي «بأسر» هذا المشاهد وتنميط ذائقته إلى حدّ لا يعود يميز فيه بين الغثّ والسّمين. إذ كيف له وهو المنساق تماماً وراء مشاهد العنف القبلي والتديّن الاستهلاكي وابتذال المرأة أن يدرك أنّ المعرفة لا تتناقض مع المتعة وأن التوفيق بينهما ممكن من دون أن يكون تلفيقاً كما جرت العادة. ففي ظلّ عدم وجود بدائل يعتدّ بها (وإن وُجدت فستكون إما محاصرة أو هشّة درامياً) من جهة، ومجاراة «النقد الفني» للسائد الاستهلاكي من جهة أخرى، يفقد المشاهد بوصلته تماماً، ويترك لغريزته (أو حاجته) أن تقوده إلى حيث تريد. والحاجة (أو الغريزة) المتخفّفة من العامل الذهني تقود عادة إلى الإشباع الاستهلاكي المفرط وغير المحدود. هنا يأتي «دور» الناشط والمثقف والصحافي (بعيداً عن الأوهام الخلاصية لبعض المثقفين) للتدليل على هذا العطب، ومن ثم تفكيك الحالة الرمضانية الاستهلاكية بمجملها. فحتى يعود رمضان شهراً للخير والبركة على ما تقول السردية الإسلامية، يجب تخليصه من طابعه الاستهلاكي المقيت، وتحريره من ربقة الحلف المافيوزي المثلّث الذي أفسده تماماً، وقتل روحه السّمحة.
* كاتب سوري