المتغيرات الدولية وأثارها الإقليمية
أغرقت سياسات المحافظين الجدد الولايات المتحدة في أزمة مالية حادة ، جرّت وراءها النظام الرأسمالي العالمي كله، وتطورت إلى انكماش اقتصادي ، ما رتّب ويرتّب تبعات على السياسات الأمريكية في العالم، ولاسيما في منطقتنا التي حظيت بالحصة الكبرى من العدوانية والدمار في مرحلة بوش البائدة. . لم تهزم الولايات المتحدة هزيمة حاسمة في أي ساحة، لكنها عجزت عن هزيمة خصومها ومقاوميها هزيمة حاسمة أيضا وعلقت جراء ذلك في أوضاع صعبة لا تملك مخارج مريحة منها: فهي لا تستطيع أن تنتصر، ولا تستطيع الانسحاب دون تغير كبير في مكانتها ودورها في العالم، بالنتيجة، لم تتغير الطبيعة العدوانية للإمبريالية ، لكن الطاقات والقوى التي تستطيع توظيفها لخدمة تلك الأهداف، انكمشت بفعل الفشل والأزمة، وصار محتما تغيير الأساليب والأدوات، تجسّد التغيير المشار إليه باللجوء إلى المهادنة والتعايش حيثما يمكن، واعتماد الضغوط السياسية المبطنة أو الهادئة، بدل تلك الحادة المترافقة بالتهديدات العسكرية أو الحروب، كما جرى في المرحلة السابقة….أما الأعمال العسكرية التي تستنزف المال والأرواح والرصيد السياسي، فيحتفظ بها للضرورات القصوى حيث لا يكون ممكنا استبدالها!
ولعل أحد أبرز التغيرات في كيفية خدمة الأهداف السياسية الأمريكية هو زيادة الاعتماد على (الحلفاء ) وعلى (الأتباع )، الدوليين والإقليميين، والسماح بتوسع هوامش مبادراتهم،( الأمر الذي كان شديد الضيق في عهد المحافظين الجدد) وهو ما مكّن(من بين أسباب أخرى أقل أهمية) من تطور فعالية وأدوار عدة قوى أوربية وإقليمية، وأدى ويؤدي إلى تبلور اللوحة الراهنة في الشرق الأوسط:
1- أسفرت الانتخابات اللبنانية عن تثبيت التوازن الذي كان قائما قبلها دون وجود ( تفاهم إقليمي ـ دولي ) سهّل، على الأقل، هذا التثبيت! ، فظلت الأكثرية النيابية أكثرية، وظلت الأقلية أقلية، وهو ما يصعب تفسيره في بلد تتميز طبقته السياسية كلها تقريبا بالاعتماد الوثيق على هذا الطرف الخارجي أو ذاك. وقد بدأت الجهود الحثيثة لتشكيل ( حكومة وحدة وطنية؟) بين الطرفين، و هي في الحقيقة حكومة تساكن بين محازبي إستراتيجيتين متصارعتين إقليميا ودولياً
2- في العراق، لجأت القوات الأمريكية إلى قواعد محصّنة ، وتركت الأمن و خروقا ته التي لا تنتهي ، وما يكلف من دماء وخسائر، للقوات التي كونتها خلال ستة أعوام من الاحتلال، وطالبت نظام التقاسم الطائفي ـ العرقي الذي صممته وأشرفت على ولادته، بالحفاظ على الأوضاع ومنع تدهورها، و”جلست قوات الاحتلال جانبا”، تراقب، مخفضة خسائرها ، و محتفظة بإمكانية التدخل عند اللزوم، واضعة قدرة النظام التابع تحت اختبار الجدارة للمرة الأولى منذ ستة أعوام.
3- وفي فلسطين ،حيث لا إمكانية لحل وسط بين المشروعين المتصارعين، تجري المحافظة على الحصار المشدّد على غزة، ومنع إعادة الإعمار،لإبقائها تحت الضغط، بعدما تعذر في العدوان الأخير سحق حماس ومبدأ المقاومة. و يجري استخدام ذلك من قبل نظام مبارك لانتزاع كل ما يمكن انتزاعه من حماس في مسعى مستمر لترويض روح المقاومة فيها، وعند الشعب الفلسطيني ككل. وتم مؤخرا تعزيز قبضة أنصار (المحور الأمريكي ـ العربي ـ الإسرائيلي) على فتح ـ السلطة ،في مؤتمر فتح الأخير… و تركت حركة فتح في المنافي والمخيمات (كحركة تحرر وطني) لتتابع انطفاءها بصمت! في حين يبدو أن النظامين السوري والإيراني ومن ثم حماس، يفتقدون حاليا القدرة على المبادرة والرد على الحصار والضغط المستمر على غزة (أو هم لا يريدون ذلك الآن؟). و تعمق بالتالي الشرخ الإستراتيجي بين سلطة أبو مازن وبين حماس وسائر قوى المقاومة الفلسطينية، وباتت إمكانية المصالحة أصعب بكثير مما كانت.
4- في إيران، تبلور ( على ضوء الانتخابات الأخيرة ) انقسام داخلي كبير، يشمل النخب السياسية و المجتمع من قمته إلى قاعدته، وتشمل محاوره مختلف قضايا الحياة: نظام الحكم، الحياة الاجتماعية و الحريات، أولويات الاقتصاد ، السياسة الداخلية والخارجية ،، بما فيها السياسة الواجب اعتمادها إقليميا (لاسيما تجاه إسرائيل)، ودولياً (تجاه الغرب عموما، والولايات المتحدة خصوصا). و بالطبع، فإن المحور الإقليمي ـ الدولي المناهض للراديكاليين الإيرانيين لم ينقطع لحظة عن محاولة الإفادة من الانقسام الناشئ و الضغط لتعميقه، خدمة لمصالحه، لاسيما أن مرحلة العمل العسكري المباشر ضد إيران قد انطوت، وإلى زمن ليس بقريب كما يبدو (رغم الجعجعة الإسرائيلية عن ضرب إيران عسكريا، و هو ما لايمكن أن يحصل دون موافقة ودعم الأمريكيين ، الأمر المتعذر في المدى المنظور).
5- أبعد قليلا إلى الشرق،في أفغانستان وباكستان، تبرز الأولوية الإمبريالية الأكثر إلحاحا لتجنب الهزيمة ، بعد الفشل الأوضح لمرحلة بوش ، والذي تجسد في العجز عن بناء نظام عميل وفعال ولو بالحدود الدنيا اللازمة لضبط الأوضاع في البلاد، حيث ظل ما بني (نظام قرضاي وجيشه)هزيلا وعاجزا ، في حين تزداد طالبان قوة وهجومية في أفغانستان وباكستان معا، جراء ذلك لا يجد الأمريكان وحلفاؤهم الأوربيون بدا من الاعتماد على أنفسهم وجيوشهم، فنراهم يصبون الدعم المتزايد هناك ،قوات وعتادا وأموالا، . إلى جانب المسعى المحموم لتقوية حليفهم المحلي في المنطقة(النظام الباكستاني) وزيادة دوره إلى الحد الأقصى الممكن( أنظر دوره في وزيرستان، وما يتلقاه من دعم سياسي ومالي وعسكري)، هذا في حين تتصاعد تحذيرات جنرالات الأطلسي من كارثة(؟؟؟) ستحل بالحلف والغرب والغرب عموما، إذا جرى انسحاب غربي( مبكر؟) من المنطقة!
في ظل كل ماسبق،وهو موضع إدراك من مختلف الأطراف، كيف تتصرف القوى الإقليمية ؟
ـ الكيان الصهيوني، الطرف الإقليمي الأقوى والأقدر على ابتزاز الإدارة الأمريكية، يسعى في ظل تحالف أقصى اليمين الحاكم للإفادة من حالة الضعف الأمريكي التي يدركها جيدا، فيرفض فعليا السياسة المعلنة لأوباما (الباحث عن تهدئة و تقدم ما في مجال التسوية، ولا سيما مع سلطة أوسلو،) ، و يهمل تماما أبو مازن ورهانه المستميت على استمرار المفاوضات، ويتابع التوسع الاستيطاني، وابتلاع القدس ، ويطالب بـ (تطبيع) علاقاته مع الأنظمة العربية واعتراف بيهودية الدولة، مقابل وقف مفترض للاستيطان. ويصعد تهديداته العسكرية لحزب الله ولإيران،متابعا عبر كل هذا تنفيذ إستراتيجيته القاضية بمراكمة الوقائع على الأرض لصالحه كلما سنحت الفرصة، معاكسا بذلك المسعى الأمريكي لخلق مناخ من التهدئة الإعلامية والسياسية في المنطقة، كتحضير ضروري للدخول في ا لمساومات المطلوبة أمريكيا.
ـ تركيا المرحب بدورها أمريكيا( فهي عضو في حلف شمال الأطلسي على كل حال)، تعمل بنشاط للإفادة من المرحلة إلى أقصى حد تستطيعه، فتتقدم كوسيط إقليمي من أجل تسوية في الجولان، وتوسع دورها في العراق، ساعية في الوقت ذاته لضمان حشد النظم الإقليمية ضد حزب العمال الكردستاني، وتعرض وساطتها بين فتح وحماس، بل وبين الدول العربية الموزعة على محوري الصراع! ومن الجلي أنها تريد تقديم نفسها للمنطقة والعالم، ولاسيما للشرق(المسلم)، كدولة (إسلامية) كبيرة، قادرة على لعب دور أساسي في التوسط في النزاعات، والسعي لتحقيق (استقرار )ما، في إقليم مضطرب ، بعد ما تبينت لها صعوبة قبولها كعضو في الإتحاد الأوربي، آملة أن يعوضها الشرق الأوسط عن إغلاق الاتحاد الأوربي أبوابه في وجهها!
ـ نظام كامب ديفيد الذي تخلى عن معظم إن لم يكن كل الدور الإقليمي لمصر، عربيا وإسلاميا وإفريقيا،إثر الاتفاقيات المشؤومة،إلا ما تكلفه أمريكا به مباشرة، اندفع خطوات في الأشهر الماضية، في تكامل أدوار صريح مع الكيان الصهيوني ضد أي عمل مقاوم، سواء في فلسطين أو لبنان، مجاهرا بعدائه للمحور السوري- الإيراني ، ومتحمسا ليلعب دور رأس الحربة( العربية ؟) في مواجهة أي عمل أو حتى فكر مقاوم، طامحا وهو يفعل هذا إلى نيل الرضى والدعم الأمريكي من جديد، بعد سنوات من برود العلاقات. و لا عجب والحال هكذا أن لا يوفر جهدا لعرقلة محاولات المصالحة السورية ـ السعودية، وأن يفتعل قضية من ما عرف بـ (خلية حزب الله)، وأن لا يرخي قبضته أبدا عن خناق قطاع غزة، وأن يجبر الأطراف الفلسطينية على تجاهل وساطة أي طرف آخر سواه متسلحاً بقوة الجغرافيا السياسية ، ما يضمن له الاستفراد بحماس ، وأن يجعل من ( الخطر الإيراني) شغله الشاغل و الفزاعة الكبرى لشعبه وللعرب…..و كل هذا في تطوع مشين للعب دور المنفذ المبادر للمشروع الأمريكي، والمتناغم مع (إسرائيل)، إثباتا للولاء والإخلاص للسيد الأمريكي( في ظروف الضعف، كما في ظروف القوة !) علهّ يوفر له الدعم الذي يحتاجه في مجالات عديدة، لاسيما في قضية وراثة السلطة المزمعة!
ـ جاءت الأزمة الداخلية في إيران في توقيت سيعرقل الظرف الدولي والإقليمي المتحرك استثمارها ، بالرغم من قدرة النظام الإمبريالي على فعل ذلك، بل وبالرغم من مساهمته الملموسة في صنعها خلال السنوات الماضية. و سيترتب على كيفية معالجة النظام الإيراني لهذه الأزمة نتائج بالغة الأهمية على قوة إيران أو ضعفها في المدى المنظور والبعيد، ولاسيما على دورها ووزنها الإقليمي.
ستنشغل إيران لوقت يطول أو يقصر بشأنها الداخلي على كل حال، وهو ما ينعكس بدرجة أو بأخرى على فعاليتها الإقليمية، وعلى أطراف المحور الذي تشكل هي بالذات قوته الأساسية.
ـ في وسط إقليم مضطرب ، كيف يتصرف النظام في سورية؟
عبّر الإعلام الرسمي عن شعور بـ(النصر؟) في الأشهر الأولى التي تدفقت فيها الوفود الأوربية ثم الأمريكية إلى سوريا ،وتصرف النظام كمن ينتظر تغيرات أساسية في مواقف تلك الأطراف!. ولأن الفرق يمكن أن يكون كبيرا بين عدم النجاح وبين الهزيمة( كما هو الحال بالنسبة إلى الولايات المتحدة) وبالتالي بين النتائج المترتبة على كل منهما، فقد انقلب ذلك الشعور بسرعة إلى خيبة أمل، نتيجة ضآلة التغير في السياسة الأمريكية تجاهه . وفي حين ترك للأوربيين أن يبادروا لتحسين المناخ والعلاقات مع النظام ضمن حدود، فإن شيئا مهما لم يتغير في مناخ العلاقة مع بقية قوى المحور الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ العربي، فلم تنفرج العلاقة السعودية ـ السورية حتى اليوم رغم كثافة المساعي، ولم تتحسن مواقف النظام المصري، إن لم تزدد سوءاً، ولم يظهر الكيان الصهيوني سوى الردود السلبية ، إن لم نقل العدوانية، تجاه محاولات استئناف المفاوضات غير المباشرة عبر الوسيط التركي!
نؤكد في عرضنا للتطورات الإقليمية بالقول: إن تغيرات موازين القوى التي تمت نتيجة صراعات السنوات القليلة المنصرمة في الشرق الأوسط ، مضافة إلى مفاعيل الأزمة الاقتصادية، أجبرت الولايات المتحدة على تعديل في سياستها الخارجية، تمثل بتجنب فتح أكثر من جبهة عسكرية في وقت واحد، وبتقديم تنازلات لحلفائها تسمح لهم بقدر أكبر من الفاعلية والمبادرة ، وبحصة من النفوذ السياسي لم تكن تتيحها لهم في السابق….إلا أن الموازين نفسها مازالت غير كافية لإجبارها على تقديم التنازلات لخصومها أو أعدائها، فما زالت أهدافها تجاههم هي ذاتها، و ما التغيرات الإقليمية سوى محاولة لتوظيف قوى حليفة لخدمة الأهداف نفسها ، وإن يكن بوتائر أقل استعجالا، وأساليب أكثر دهاءً.
و لفرض تنازلات حقيقية على الإمبريالية الأمريكية في منطقتنا، كما على إسرائيل ، ثمة حاجة لتغييرات كبيرة في موازين القوى ، لايمكن تحقيقها بدون أن تظفر الشعوب بحريتها، وبحقها في العيش الكريم فهي منبع الطاقات الكبرى الضرورية لذلك،وهي صاحب المصلحة الأكبر في صد الإمبريالية ودحر الصهيونية.
إن التضييق على الحريات العامة ، و الإفقار المتزايد لعامة الشعب لن يزيد سوريا إلا ضعفاً وهشاشة في مواجهة وضع دولي وإقليمي مسكون بالعواصف والاضطرابات التي لا تهدأ.
هيئة التحرير
طريق اليسار – العدد 15: سبتمبر/ أيلول 2009
تجمع اليسار الماركسي في سورية
طرح (جوليان غو)، في مقالة منشورة في دورية علمية خاصة بعلم الاجتماع، نظرية مثيرة عن الفرق بين أسلوب الإمبريالية البريطانية وأسلوب الإمبريالية الأمريكية. وأقدم لكم تلخيصاً للمقالة:
http://benjamingeer.blogspot.com/2009/08/blog-post_23.html