صفحات الحوار

محمد عضيمة: الهايكو فن يتلازم وتنسيق الزهور وهو ليس موضوعاً للتأمل الروحي

null
ترجم الشعر الياباني الى العربية مصحِّحاً “الفهم الخاطئ” له عندنا
يعيش محمد عضيمة بين بلاد الشام وبلاد الشمس المشرقة – اليابان. منذ أكثر من ثلاثة عشر عاما يشكل هذا الشاعر السوري جسراً بين الأدبين العربي والياباني، خائضاً حروبه المستمرة مع اللغة عبر مجموعات شعرية وكتب نثرية تحلل سيرته الذاتية لاختيار نوع خاص ومبتكر في كتابة الشعر. نصّه الأدبي يشبه الفلاشات التي تخرج عن الأطفال عبر صميم الإنسانية والمرح المستمر. آخر مجموعاته الشعرية صدرت في دمشق، “يد مليئة بالأصابع – شكراً للموت”، أمّا في الدراسة والترجمة فصدر له أخيراً “سفينة الموت/ انطولوجيا الشعر الياباني” و”مفارقات الحداثة الخمس” لأنطوان كامبانيون. لمناسبة إصداره أخيراً ترجمة “كتاب الهايكو” الذي يغطي مرحلة شعرية في اليابان تمتد من القرن السادس عشر حتى الوقت الحاضر، بالتعاون مع المستعرب الياباني كوتا كاريا عن “دار التكوين” الدمشقية، وأثناء زيارته للعاصمة دمشق كان لنا الحوار الآتي:
• بماذا يختلف “كتاب الهايكو” عن سابقه من الترجمات الشعرية باللغة اليابانية؟
– بعد ترجمتي مختارات الشعر الياباني الحديث رأيت أن من الضروري تقديم “الهايكو” إلى القارئ العربي بشكل يتضح فيه معنى روح الهايكو. أي تصحيح صورة الهايكو لدى القارئ العربي، وتحديداً الشعراء. هناك فهم خاطئ للهايكو مصدره ترجمات عن الإنكليزية والفرنسية أو باقي اللغات الأوربية. الهايكو كما يتضح من المقدمة يقوم أساساً على الصنعة في الدرجة الأولى وليس على موضوع التأمل الروحي وانتظار الوحي. الهايكو وتنسيق الزهور فنان متلازمان، تنسيق الزهور يحتاج إلى دربة. الهايكو أيضاً.
• في كتابك “الشعراء يلتقطون الحصى”، تقول: “الهجوم على عائلة اللغة لا مبرر له غير العدم”. هذا الكلام منذ عشر سنين، الآن ماذا فعلت بك اللغة وبحياتك خصوصاً؟
– حتى بعد عشرين سنة سأعيد العبارة نفسها. الإنسان كائن لغوي، وبدون اللغة سيكون العدم، اللاوجود. انتقلتُ من لغة تجريدية غائمة غير واضحة إلى لغة حسية واضحة ودقيقة، حيث أني أفهم نفسي وأفهم الآخرين.
• هل هناك نظرة مغايرة الى السائد بالنسبة الى لغة “كتاب الهايكو”؟
– يقوم الهايكو في الدرجة الأولى على فن المناورة اللغوية وعلى اللعب باللغة بشكل تندمج فيه الحالة مع الكلمات. وبهذا يختلف كلياً عن الشعر الياباني الحديث الذي يستلهم نماذج الشعر الغربي الحديث إلى حدٍّ كبير. لذلك يبقى فن الهايكو مختلفاً شكلاً ومضموناً ويظل هوية اليابان الجمالية الوحيدة.
• هل قدم المشهد الشعري السوري هجوماً حقيقياً على اللغة في رأيك؟
– المشهد الشعري السوري مشهد محافظ وغير جريء على القواعد الشعرية، باستثناء بعض الأسماء. هناك دوماً نزوع إلى انتزاع إعجاب الآخرين هنا، نزوع إلى التنازل تحت عناوين مثل “يجب أن يكون الشعر هكذا. الحساسية الشعرية يجب أن تكون هكذا”.  في اعتقادي أن هذا الكلام ينسحب على حركات الشعر العربي إلى حد كبير. يمكن أن نستثني التجربة المغربية الشعرية، حيث هناك أصوات نقية وجرأة حقيقية على التجريب والتجريب بلا تردد.
• كيف يقال عنك شاعر الفرح أو الساموراي السوري المرح وأنت تشكر الموت في مجموعة شعرية خاصة بالحزن المهذّب؟
– عندما أشكر الموت والفناء، لا أستحضر الحزن. أنا أشكر الحياة. الموت هو الوجه الآخر للحياة. لنتصور أن هناك حياة بلا موت! هي حالة جنونية. ما النتيجة يا ترى؟ عندما أكون مع الفناء والموت، أكون مع معناه الفلسفي، لأن هذا العنوان أُخذ عليّّ كرد على مشروعي “الفرح”. أردت أن أشكر الحياة بطريقة ثانية. لو قلت شكراً للحياة، لكان العنوان سيبدو عادياً جداً.
• هل تمت ولادتك الشعرية في طوكيو؟
– أعتقد أن التجربة اليابانية كشفت لي خصائص العقلية والثقافة الميتافيزيقية، وتالياً خصائص الشعر التجريدي الميتافيزيقي الذي يرتكز على مقولات الوحي والإلهام ويعيد كل شي إلى غيبٍ ما لا علاقة له بالوجود. التجربة اليابانية قادتني إلى الجهة المقابلة تماماً.
• ماذا في شأن سنوات البدء في باريس؟
– في باريس كنت تحت وصاية الميتافيزيقيا، وكنت أكتب بأمر من أدواتها المعرفية. هكذا كتبت أول مجموعة لي “الميامر وإلتساعات التابعة” (دار الآداب، بيروت عام 1988). وحدها التجربة اليابانية أنزلتني من السماء إلى الأرض وألغت ما في داخلي من أوهام حول الشعر والشاعر والنجومية وغيرها.
• كيف تشرح لنا ذلك ؟
– الشاعر إنسان مثل الآخرين. لا يطالب الآخرين بالركوع له، كما هي حالة الشاعر العربي اليوم! باختصار، أنْ يكونَ الشاعر نبياً ورسولاً هو وهمٌ وقد انتهى. وأن يكون الشعر إلهاماً ووحيا، هو وهمٌ أيضاً وقد انتهى تماماً.
• ثمّة استخدام واضح للتكرار على صعيد العبارة والكلمة في معظم مجموعاتك الشعرية، هل هو نوع من تأكيد لحساسية الكلمة أم ملء فراغ شعري؟
– التكرار ليس ملئاً للفراغ، بل لعبة أطفال، أقلدهم في تكرار مفرداتهم فقط لكي يفهموا ما يقولون. عندما أكرر فكأني أركض وراء اللفظ، كأني أركض وراء المعنى.عندما أقول: أنت أنت، أريد أن أصل إلى نهاية أنت، عندما أقول غداً أيضاً غداً كأني أريد الوصول إلى الغد. كأني أريد أن أكتب ما أريد اليوم، كأنما أريد أن أقول إن العالم والتاريخ تكرار لموجود، الذي هو بنفسه تكرار لشيء آخر، كأنما أريد القول لا معنى للأصل، لا وجود لشيء اسمه الأصل، فقط أريد القول إن التقليد والتكرار فضيحة لما يسمّى الخلق. يمكن القول في التكرار أيضاً نقد العقل الميتافيزيقي الذي يركز على وجود أصل ما، كما تعلِّم الأديان مثلاً!
• بعض مثقفي المشهد السوري يعتقدون أنك تحاول السخرية من الشعر المشبّه بالحداثة. هل تسخّف كل القضايا لتظهر تلك التقنية اللغوية المختلفة بالضحك على القصيدة؟
– لا أستغرب مواقف كهذه، ومشكلتي مع هذا الجو ومع غالبية الشعراء والمثقفين السوريين هي نقطة واحدة ليست أكثر، حيث يفتقرون إلى تجربتي في الجمع بين ثلاث ثقافات، كمعايشة ميدانية وذهنية معرفية: أولا ثقافتي العربية، ثم عقد كامل في باريس ويمثل الثقافة الغربية، وأخيراً التجربة اليابانية (الثقافة الشرقية). لا يفهم هؤلاء المثقفون قولي: نحن والغرب ثقافة من دم معرفي واحد، وأننا جزء من الغرب ولسنا شرقاً بالمعنى المعرفي لكلمة شرق. الشرق هو قطعاً اليابان والصين وشيء من الهند، ولا يستطيع هؤلاء استيعاب هذه النتائج. ثم تخيل، وهنا الكارثة، أن ستة وتسعين في المئة منهم لا يعرفون لغة أجنبية! وأن أصحاب الأسماء الشعرية والروائية المعروفة في سوريا لا يستطيعون أن يقرأوا ملحقاً ثقافياً باللغة الإنكليزية التي يتقنها معظم تجار الأسواق المحلية. باختصار هم يترجمون من العربية إلى العربية!
• هناك من انزلق شعرياً في اتجاه الرواية والقصة وما يشبهها. وربّما اكتملت دائرتهم الشعرية، وبدأوا يضيقون ذرعاً بالكتابة المجازية والقصيرة. ما رأيك؟
– أعتقد أن الذي بدأ شاعراً لا يمكن أن يصبح روائياً بكل بساطة، ولا يمكن أن يقتل الشاعر في داخله، وسوف يظل حتى في كتابة الرواية شاعراً. لذا أرى أن روايات الشعراء هي قصائد مقلوبة، ولعل الغيرة من الروائيين الآن هي وراء اندفاعهم إلى كتابة الرواية. سابقاً كان الشاعر أهم قيمة اجتماعية في الوسط الثقافي وفي غيره، لذلك كان الجميع يريدون أن يصبحوا شعراء، واليوم يبدو أن الروائي هو صاحب هذا الامتياز، والغالبية تريد بلوغ هذا الهدف الثمين. بصراحة، كتابة الرواية فيها إغواء مذهل لكثرة الاستخدام اللغوي للاشتقاقات والتراكيب الصورية. وربما لم يحقق البعض شهرته أو ذاته من خلال الشعر فوجد الرواية كحلّ شبه جذري.
• ماذا تقرأ في هذه المرحلة؟
– أكثر قراءتي الحالية هي شعر في الدرجة الأولى وتحديداً شعر المرحلة الأخيرة من الهايكو الياباني، والشعر الفرنسي باستمرار. أضف إلى ذلك قصص للأطفال، كونها تفتح لي آفاقاً جديدة لكتابة القصيدة. أتحاشى قراءة المترجمات قدر الإمكان إلا إذا كان المترجم هاوياً! لا أحبّذ ترجمات المحترفين لكثرة ما فيها من حذلقة وفرض مباشر لرأي المترجم بطريقة أو بأخرى عبر الترجمة، أضف إلى ذلك أنه لا يمر يوم من دون قراءتي للشعر.

عمر الشيخ
النهار

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى