هل عبرت الصحافة العربية من الأزمة المالية العالمية؟
3 صحف يومية من الكويت والجزائر ومصر توقفت عن الصدور
أبوظبي: سلمان الدوسري
بعد انقضاء نحو عام ونصف على بزوغ فجر الأزمة المالية العالمية، تبدو الصحافة العربية في وضع أحسن كثيرا مما كانت عليه التوقعات حينها. كانت التقارير تنبئ بخروج عدد غير قليل من الصحف من الساحة الإعلامية، وبلغ التشاؤم حدا لدرجة انتظر الجميع متى تشيّع جنازة الصحف العربية واحدة تلو الأخرى، غير أن الأرقام التي لا تكذب تؤكد أن 3 صحف عربية فقط (من الكويت والجزائر ومصر) قد توقفت عن الصدور، وهو وضع بكل تأكيد لم يتوقعه أفضل المتفائلين عندما أطلت الأزمة المالية العالمية برأسها من الباب الأمامي للاقتصاد العربي، بل وللإعلام وباقي القطاعات الرئيسية الأخرى.
وفي مقابل هذه الصحف، هناك 7 شركات عالمية مختصة بالنشر الصحافي، مثلا، أعلنت إفلاسها في العام الحالي، بينما وضعت مجموعة «تربيون» نفسها طوعا تحت قانون الإفلاس (تمتلك 23 محطة تلفزيونية، وعددا كبيرا من الصحف اليومية)، وألغت «كريستيان ساينس مونيتور» الطبعة الورقية، واعتمدت كليا على طبعة الإنترنت، أما أول صحيفة أميركية يتم إغلاقها فكانت صحيفة «ذا روكي ماونتن نيوز». إذن الكفة تميل لصالح الصحف العربية التي يمكن القول إنها نجت من تأثيرات الأزمة المالية السلبية، على الأقل حتى الآن.
للإشارة هنا، فإن الحديث عن خروج الصحف العربية من الأزمة، نعني به بالدرجة الأولى الصحف اليومية، بينما إجمالي عدد المجلات التي توقفت عن الصدور في المنطقة العربية منذ بداية الربع الأخير من العام الماضي 2008، وحتى نهاية النصف الأول من العام الحالي 103 مجلات، منها 52 مجلة توقفت تماما عن الصدور مقابل 48 مجلة علقت صدورها بشكل مؤقت، فيما استغنت بعض الإصدارات عن الطباعة الورقية واكتفت بالتحول التام إلى موقع إلكتروني. غني عن القول أن جل هذه المطبوعات كانت تعاني من أزمات حتى قبل الأزمة المالية العالمية.
ولعل السؤال العريض الذي يتلقفه الجميع: كيف نجت الصحف العربية من مقصلة الأزمة المالية العالمية التي لم تبقِ ولم تذر، فإذا كان 99 مصرفا في الولايات المتحدة الأميركية وحدها أغلقت أبوابها، فما الوصفة السحرية التي نجت من خلالها الصحف العربية؟ يرد على سؤال «الشرق الأوسط» عبد الحميد أحمد، رئيس تحرير جريدة «قلف نيوز» الإماراتية (أكثر الصحف في الإمارات توزيعا)، بقوله «إن الأزمة المالية العالمية لم تتسبب في طوي الصحف وجفاف الأقلام»، مضيفا: «ليس في الوطن العربي بعد».
وبحسب ما يوضح عبد الحميد أحمد فإن الصحافة المملوكة أو شبه المملوكة، الممولة كاملا ومباشرة، أو الممولة جزئيا وغير مباشرة من الحكومات، لها دورة حياة بعيدة شيئا ما عن الدورة الاقتصادية، في صعودها وهبوطها، «وهي ليست صحفا ربحية تخضع لمعايير الأعمال، وهذه سوف تبقى ما بقيت الحكومات».
وماذا عن الصحف المستقلة والخاصة والمملوكة لمستثمرين؟ بحسب بحث قام به إيرل ويلكنسون، الرئيس التنفيذي لجمعية تسويق وسائل الإعلام الدولية، عن طريق الدراسة والتقصي واستجواب الناشرين، فإن هناك نموذجين للصحف، سماهما الأقل تأثرا وتمتلك مقومات الصمود والبقاء، ومقومات هذه الصحف هي التي تكون: قاعدة انتشارها المشتركون، والباعة، وتوزيعها في نطاق جغرافي ضيق، أقل من 60 في المائة من دخلها يأتي من الإعلان، قليلة الاعتماد على المبوبة، قليلة الديون إلى عدمها، ليست مشتركة في نقابات واتحادات، النفقات الرأسمالية ليست مرتبطة بأعمال الطباعة فقط. بينما النموذج الثاني وهو الصحف الأكثر تأثرا، وهي تلك التي تضربها عاصفة الأزمة المالية العالمية بشدة وتدفعها إلى «الموت»، ومقومات هذا النموذج هو تلك الصحف الأكثر اعتمادا على النسخة (من منافذ البيع)، المجانية، التي توزع في نطاق جغرافي واسع، نسبة تزيد على 60 في المائة من دخلها تأتي من الإعلان، وهي أكثر اعتمادا على الإعلانات المبوبة، وأكثر ديونا، عضو في الاتحادات والنقابات، المصروفات الرأسمالية توجه أكثر لعمليات الطباعة، والأكثر انتشارا على شبكة الإنترنت.
ويعلق على هذه الدراسة عبد الحميد أحمد بالقول إن «هذه الدراسة القيمة اعتمدت على السوقين الأميركية والأوروبية تحديدا، وربما أن بعض العوامل لا تنطبق كثيرا على حالة الصحف العربية، لكن مؤشراتها يمكن الاعتماد عليها عند البحث في وسائل وطرق إنقاض الصحف العربية، عن طريق النظر لهذين النموذجين».
غير أن عبد الحميد أحمد يستغرب ربط الصحافة العربية دائما بالنموذج الغربي «ولا ننظر إلى النموذج الآسيوي أو الاستثناء الآسيوي»، مضيفا: «فماذا تقول التقارير عن هذا الاستثناء؟ ببساطة إنها قصة نجاح، وكأن آسيا هي المعقل الأخير للصحافة المطبوعة، فثمان من أكبر عشر صحف مدفوعة الثمن في العالم تطبع في آسيا، أكبر الأسواق هي الصين ثم الهند ثم اليابان، بينما أميركا تحتل المرتبة الرابعة، وبينما نسب التوزيع تنخفض في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، ترتفع في آسيا بنسب تصل إلى 5 في المائة». ويستمر عبد الحميد أحمد في الإعجاب بالنموذج الآسيوي الذي لم يتأثر كثيرا من الأزمة المالية العالمية، مشيرا إلى أن في الهند وحدها انضم أكثر من 11 مليون قارئ جديد للصحف في عام 2008.
وبعد كل هذه المقارنة التي تصب بكل تأكيد في صالح النموذج الآسيوي في التغلب على الأزمة المالية، أين تقف الصحف العربية من هذين النموذجين؟ يجيب رئيس تحرير صحيفة «قلف نيوز» بالقول: «إن نقص المعلومات والدراسات والبيانات حول الصحف العربية، لجهة عدد مشتركيها ونسبة نفاذها على الإنترنت، وأوضاعها المالية من حيث الديون والالتزامات وكذلك أرباحها السنوية واستثماراتها المستقبلية، يجعل من الصعب تصنيفها، وإن كنت أميل إلى وضع غالبيتها في التصنيف الأول لجهة سيطرة عادة القراءة الورقية في الوطن العربي، وعدم النفاذ الكبير على الإنترنت، ونطاق توزيعها الجغرافي غير الواسع، مما يجعلها في مأمن، مثل نظيرتها الآسيوية، ومما يجعلها أكثر قدرة على البقاء والصمود لسنوات كثيرة مقبلة، نظيرتها الأميركية والأوروبية».
ويرى عبد الحميد أحمد، بحسب مقاربته النموذج العربي للنموذج الآسيوي، لكن وضع الصحف العربية، على الرغم من نجاتها، حتى الآن، من المقصلة المالية الكبرى، فإنها لا تبدو صورتها وردية بالكامل، فرئيس تحرير صحيفة خليجية معروفة، لم يشأ ذكر هويته، أسرّ لـ«الشرق الأوسط» بأن وضع صحيفته، التي تبدو من الخارج قوية قادرة على مجابهة تأثيرات الأزمة السلبية، في وضع محرج للغاية «نعتمد كليا على ضخ المستثمرين الملاك لرأسمال إضافي بين الحين والآخر، حتى نتمكن من إصدار الصحيفة بوضعها الحالي».
وعندما سألناه: إلى متى سيبقى هذا الوضع الاستثنائي من الدعم المالي؟ رد بالقول: «لا أخفيك أنها مغامرة بالانتظار لشهور قادمة، فربما تحمل الأزمة أخبارا إيجابية تخفف من الحمل الذي يتحمله بالكامل ملاك الصحيفة».
رئيس تحرير الصحيفة الخليجية لم يذكر ميزانيته الشهرية التي يقوم بدفعها الملاك بدلا عنه، لكن وليد النصف، رئيس تحرير صحيفة «القبس» الكويتية، يقول إن تكاليف إصدار صحيفة يومية يصل إلى نصف مليون دينار كويتي (نحو 230 ألف دولار أميركي)، النصف يؤكد أن هذا الرقم هو في حدوده الدنيا، أي أن أقل الصحف هي من تصل مصاريفها إلى هذا الرقم.
ولأن الأزمة المالية العالمية لا تزال هي المسيطرة على المؤسسات الصحافية العربية، فقد هيمنت تأثيرات الأزمة على المنتدى السنوي لصحيفة «الاتحاد» الظبيانية، التي تحتفل بمرور 40 عاما على إصدارها، وعلى الرغم من أن المنتدى عقد تحت شعار «الصحافة العربية.. الواقع والطموح»، إلا أن كثيرا مما شهده المنتدى كان بالحديث عن تأثيرات الأزمة هذه، وهنا يشير وليد النصف، رئيس تحرير «القبس» الكويتية في ورقة عمل بعنوان «الصحافة.. دروس من الأزمة المالية العالمية»، إلى أثر تلك الأزمة على مهنة الصحافة، مشيرا إلى تسريح 15 ألف صحافي في الولايات المتحدة الأميركية عام 2008، كما أقدمت الكثير من المؤسسات الإعلامية على خفض رواتب العاملين لديها.
وأشار النصف إلى أن الصحافة الورقية تتعرض لمنافسة إلكترونية شرسة، وأن البيانات المنشورة تشير إلى زيادة عدد قراء الصحف الإلكترونية بنسبة 14 في المائة عام 2008، بعدما كان عام 2006 نحو 9 في المائة.
في حين يشير وليد عكاوي، المدير التنفيذي لشركة «ITP» للنشر، إلى إن تراجع الإنفاق الإعلاني بعد الأزمة، كان له الأثر الكبير على الصحف العربية.
ويصف عكاوي أزمة الإصدارات الصحافية في المنطقة العربية، بأنها تعود إلى التراجع الحاد في الإنفاق الإعلاني وصعوبات التحصيل، علاوة على افتقار تلك الإصدارات لمقومات النمو المستدامة والمتمثلة في جودة المحتوى، مضيفا: «تراجع الإنفاق الإعلاني بنحو 30 في المائة خلال النصف الأول من العام الحالي 2009 مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي 2008».
ويشير عكاوي إلى أن تراجع الإنفاق في الصحف كان بنسبة 10 في المائة فقط، مقابل تراجع لا يزيد على 5 في المائة في الإعلانات التلفزيونية، في ظل أفضلية مؤقتة لمواقع الإنترنت المتخصصة على المجلات والصحف المتخصصة.
الخبير في الشؤون الآسيوية الدكتور عبد الله المدني يؤكد أن الهند والصين لم تتأثرا بالأزمة المالية، وأن هناك عوامل أخرى، إضافة إلى التواصل مع الجماهير، من بينها أن الهند والصين قد شهدتا تحسنا في مستويات المعيشة، «فالمواطن صارت لديه القدرة على الاشتراك في الصحف، وتحسن وضعه، وحصل على مستوى تعليمي أفضل ما دفعه للحصول على الصحف والاشتراك فيها». وما بين النموذج الآسيوي (الاستثنائي) الذي نجا من مقصلة الأزمة، والنموذج الغربي الذي أوجعته ضربات الأزمة المالية المتتالية، لا تزال الصحافة العربية اليومية ماشية في مسيرتها، غير متأثرة بزلزال الأزمة، قادرة على تخطي صعاب هذا الزلزال، أما كيف؟ فهناك من قلص مصروفاته، والآخر قلل عدد صفحات الصدور، وبعض ثالث لا يزال يعتمد على دعم مباشر من الملاك، لمواجهة أخطر أزمة تواجه الصحافة العربية في تاريخها، صحيح أن الوضع يبدو غير خطير حتى هذه اللحظة، لكن إلى متى تستطيع الصحف العربية الصمود في الفترة المقبلة، يرد رئيس تحرير الصحيفة الخليجية الذي تحدث عن خطورة وضع صحيفته بالقول «سننتظر ثم ننتظر إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا».
الشرق الأوسط