صفحات أخرى

أحوال سوريا ولبنان في ثلاثة كتب

محمود الزيباوي
أصدرت منشورات “المعهد الفرنسي للشرق الأدنى” في الآونة الأخيرة سلسلة من الكتب الخاصة بتاريخ بلاد الشام، منها طبعة جديدة لـ”خطط دمشق” التي وضعها ابن عساكر في القرن الثاني عشر، ومجموعة مقالات أكاديمية عالج فيها المؤرخ المخضرم محمد عدنان البخيت جوانب من تاريخ سوريا ولبنان في العقود الأخيرة من العهد المملوكي والقرون الأولى من الحكم العثماني، الى دراسة معمّقة تناول فيها قاسم محمد أحمد النواصرة مرحلة الحكم المصري لهذه البلاد بين عام 1831 وعام 1841. تشكل هذه المؤلفات مرآة تعكس تاريخ المنطقة من القرون الوسطى إلى العصر الحديث، وتتميز بتناولها بعض المراحل المظلمة من هذا التاريخ وفق الشروط المنهجية الدقيقة التي تلتزمها منشورات “المعهد الفرنسي”.
وضع الإمام ابن عساكر مؤلفات كثيرة أشهرها موسوعة من مجلدات عدة تُعتبر أوسع كتب التواريخ العربية، وعنوانها “تاريخ مدينة دمشق وذكر فضلها وتسمية من حلها من الاماثل أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها”. يتناول هذا الكتاب تاريخ دمشق من خلال عرض لسير كل من قطنها أو مر بأعمالها منذ بدء الخليقة إلى القرن الثاني عشر، أي إلى عصر المؤلف، وفيه كانت دمشق تحت حكم نور الدين الزنكي. ضمّ هذا الكتاب الضخم أكثر من عشرة آلاف وثلاثمئة سيرة تعتمد على الأحاديث المروية، وهذا ما يجعله موسوعة ضخمة في علم الرجال. استهل ابن عساكر موسوعته بالتعريف بدمشق، ثم بعرض مفصل لـ”خطط المدينة” توزّع على أبواب هي تباعا: “ذكر شرف المسجد الجامع بدمشق وفضله وقول من قال إنه لا يوجد في الأقطار مثله”، “معرفة ما ذكر من الأمر الشائع الزائغ من هدم الوليد بقية من كنيسة مريحنا (أي مار يوحنا) وإدخاله إياها في الجامع”، “ما ذكر في بناء المسجد الجامع واختيار بانيه وموضعه على سائر المواضع”، “كيفية ما رُخِّم وزُوِّق ومعرفة كمية المال الذي عليه أُنفق”، “ذكر ما كان عمر بن عبد العزيز همَّ برقم (أي إبلاغ) رده على النصارى حين قاموا في طلبه”، “ذكر ما كان في الجامع من القناديل”، “ما ورد في أمر السُبع وكيف كان ابتداء الحضور فيه والجمع”، “ذكر معرفة مساجد البلد، بذكر التعريف لها والعدد”، “ذكر فضل المساجد المقصودة بالزيارة كالربوة ومقام إبراهيم وكهف جبريل والمغارة”، “في فضل مواضع بظاهر دمشق وأضاحيها، وفضل جبال تضاف إليها ونواحيها”، “ذكر عدد كنائس أهل الذمة التي صالحوا عليها من سلف من هذه الأمة”، “ذكر بعض الدور التي كانت داخل السور”، “ما جاء في ذكر الأنهار المحتفرة للشرب وسقي الزرع والأشجار”، “ما ورد عن الحكماء والعلماء في مدح دمشق بطيب الهواء وعذوبة الماء”، “ذكر تسمية أبوابها ونسبتها إلى أصحابها أو أربابها”، وأخيرا، “ذكر فضل مقابر أهل دمشق وذكر من بها من الأنبياء وأولي السبق”.
تشكل هذه الفصول مادة استثنائية لرسم خريطة لمدينة دمشق في الفترة الممتدة من الحقبة الأموية إلى العهد الزنكي، وتحمل في طياتها طائفة عظيمة من الأخبار التي عكف أهل الاختصاص على دراستها وتحليلها منذ نشر نصها المحقق. يعيد “المعهد الفرنسي للشرق الأدنى” نشر “خطط دمشق” في نسختين، الأولى باللغة الأصلية، وهي التي حققها الدكتور صلاح الدين المنجد ونشرها المجمع العلمي العربي عام 1954، والثانية ترجمة فرنسية وضعها المستشرق الكبير نيكيتا إلسيّيف ونشرها “معهد دمشق الفرنسي” عام 1959. للأسف، اكتفى “المعهد الفرنسي للشرق الأدنى” بنشر نسخة مصورة لهاتين الطبعتين من دون أي إضافة تُذكر، والمؤسف أن الطبعة العربية “الجديدة” تخلو من الشروح القيّمة التي وضعها إلسيّيف في الترجمة الفرنسية، وهي تعليقات علمية موثّقة يفوق حجم مادتها حجم نص ابن عساكر. أقلّ ما يُقال إن نقل هذه الشروح إلى العربية كان من شأنه أن يجعل الطبعة التي حققها صلاح الدين المنجد نسخة مثالية تُعتمد في الدراسات الجامعية والأكاديمية.
بين المماليك والعثمانيين
ينقلنا محمد عدنان البخيت إلى مرحلة أخرى من تاريخ بلاد الشام في ثماني مقالات أكاديمية تعاين واقع أهل الشام في العقود الأخيرة من العهد المملوكي والقرون الأولى من الحكم العثماني. تشكل المقالة الأولى مدخلا الى هذا التاريخ المضطرب عبر عرض مفصّل لرسالة وجهها السلطان العثماني بايزيد الثاني إلى حاكم البلاد التونسية عبد المؤمن بن إبراهيم الحفصي في عام 1491. تشير هذه الرسالة “إلى وساطة عبد المؤمن لدى السلطان العثماني بايزيد من أجل إحلال السلام بينه وبين المماليك. فمن المعروف أن حروبا مريرة قد اندلعت ما بين الدولتين السنيتين، السلطنة المملوكية والسلطنة العثمانية، لمدة ثماني سنوات، كان من نتائجها دمار المناطق الواقعة على جانبي الحدود. ويُلمس من جواب السلطان بايزيد العثماني لعبد المؤمن أن الأخير قد أرسل سفيرا من جانبه يعرف باسم الشيخ محمد الحلفاوي للتوسط في إحلال الصلح والسلام”، “والجدير بالذكر أن تاريخ الرسالة المثبت كان من عام الصلح نفسه ما بين المماليك والعثمانيين”.
تلي هذه الرسالة مقالة تتناول “دور أسرة آل الحنش والمهام التي أوكلت إليها في ريف دمشق” بين عام 1388 وعام 1568، وآل حنش أسرة سنية المذهب تدين بالولاء إلى القبائل القيسية، وهي من منطقة البقاع، وقد لعبت دورا كبيرا في إدارة شؤون مناطق واسعة من بلاد الشام في عهد المماليك البرجية، أي المماليك الشراكسة الذين حكموا بعد المماليك البحرية. أنيط بآل حنش مهام إدارية كالولاية على البقاع وصيدا وبيروت وبعلبك وحماه، وقد التزمت هذه الأسرة مهمة جمع الضرائب في منطقة البقاع، وهذا ما تشهد له مجموعة من الوثائق العثمانية، منها “ترجمة مكتوب ابن حنش الوارد إلى السدة السعيدة في 22 آذار 1517″ و”وقفية الأمير محمد بن الأمير ناصر الدين المعروف بالحنش” التي تعود إلى عام 1543. يعتمد هذا البحث على دفاتر عثمانية تظهر توزيع السكان وتعدادهم في هذه الناحية من بلاد الشام، وتبيّن كميات الضرائب وأنواعها المحصلة من أهالي القرى. يولي الباحث أحد هذه الدفاتر عناية خاصة، وهو دفتر خاص بناحية “كرك نوح” التي سكانها من الشيعة، والمعروف أن الدولة العثمانية لم تعترف رسميا بالمذهب الشيعي، واعتبرت جميع المسلمين سنّة، مما يزيد من صعوبة دراسة أحوال هذه الجماعة في تلك الحقبة التاريخية.
في الدراسة الثالثة، يستعرض محمد عدنان البخيت “أحداث بلاط طرابلس الشام” بين عامي 1606 و1607، وتستند هذه المقالة المثيرة الى رسالتين تعودان إلى تلك الفترة، وقد كتب الأولى مصطفى بن جمال الدين بن كرامة، من أهالي طرابلس، وكتب الأخرى حسن بن محمد البوريني، من دمشق، والكاتبان من أهل السنّة المناصرين للسلطة العثمانية، وهما من معاصري تلك الأحداث. في نهاية القرن السادس عشر، ضعفت السلطة العثمانية، وظهرت حركات التمرد في أنحاء السلطنة، وكان أبرزها “الحركة الجلالية” التي اكتسحت بلاد الأناضول، وتبعتها حركات مشابهة في بلاد الشام. ضمت السلطة العثمانية هذه البلاد في عهد السلطان سليم الأول بعد معركة مرج دابق في 24 آب 1516، ولم تلغ الزعامات المحلية المتعاونة معها، بل اعتمدتها بشكل أساسي في حكم هذه المناطق. سعت هذه الزعامات إلى توسيع دائرة نفوذها على حساب السلطة العثمانية المحلية من دون أن تستقل عنها، وسارعت القوى الأوروبية إلى التقرب من هذه الزعامات لإضعاف العثمانيين، وكانت أبرز هذه الزعامات الأسرة المعنية الدرزية والأسرة الجانبلاطية الكردية. في مطلع القرن السابع عشر، اتسعت سلطة الأسرة الجانبلاطية في ولاية حلب، وتلكأ زعيمها في الانضمام إلى حملة الوزير سنان باشا ضد الشاه عباس الأول، فأمر الوزير بقتله في بلدة وان التركية عام 1605، ولمّا تمّ ذلك، ثار ابن أخيه علي جانبلاط، ورفع علم العصيان. استغل صاحب عكار يوسف باشا سيفا هذا الوضع، وهو زعيم تركماني الأصل، سنّي المذهب، وقد عرض خدماته على السلطان، وتطوّع لتصفية علي جانبلاط مقابل تنصيبه أميرا على بلاد الشام، لكنه فشل في مهمته، وفرّ من عكار. انضم فخر الدين المعني إلى حركة العصيان التي أشعلها جانبلاط، واحتل الرجلان مناطق يوسف باشا باستثناء قلعة طرابلس، ثم خرّبا بعلبك، وسلكا طريق دمشق وحاصرا المدينة. أجرى جانبلاط اتصالات مع يوسف باشا سيفا أدت إلى عقد مصاهرة بين العائلتين، ثم عاد إلى حلب، فأرسل اليه السلطانُ الوزيرَ الكبير مراد باشا للقضاء عليه. جرى القتال بين قوى حاكم الحرب وقوى الوزير قرب مرعش، وانتهت المعركة بفوز العثمانيين. فر علي بك جانبلاط إلى ملاطية ثم قصد اسطنبول حيث عفا عنه السلطان وولاّه حكومة طمشوار، لكنه قٌتل في ما بعد عام 1611. تمّ القضاء على فخر الدين في عهد السلطان مراد الرابع، وبموته انتهت هذه الصفحة من تاريخ هذه البلاد. نقل المؤرخون شهادات حية تعود إلى تلك الحقبة، وتأتي رسالة مصطفى بن جمال الدين بن كرامة لتُضاف إلى هذا الملف، وشهادته هذه تختلف عن الشهادات المعروفة، ذلك أنها تعكس “مشاعر أحد أبناء طرابلس، قاعدة السنّة، ضمن إطار من الأقليات الإسلامية والمسيحية”.
تتعرض الدراسة الرابعة إلى “جوانب من تاريخ بيروت في العهدين المملوكي والعثماني”، وهي مرحلة تبقى “غامضة”، لأن “مؤرخي الحواضر الكبرى في دمشق وحماه وحلب قلما كانوا يعنون بتاريخ ما كان يجري في المناطق الساحلية”. في مقدمة بحثه، يشير الكاتب إلى مقولة سائدة تقول “ان مدن سواحل بلاد الشام وقراها بقيت خربة مهجورة، نتيجة لسياسة التدمير التي اتبعها صلاح الدين الأيوبي، وسار عليها أوائل السلاطين المماليك”، ويرى أن “هذا التعميم بحاجة إلى تعديل جذري”. على عكس ما يُقال، تم تعمير بيروت وتحصينها منذ نهاية العصر المملوكي، وشهدت المدينة حركة عمرانية مهمة في مطلع العهد العثماني. أوكلت أمور بيروت إلى أسرة عساف، وكانت تتزعم التركمان، ومقرها بلدة غزير، وأبرز أبنائها الأمير منصور عساف الذي توفي في عام 1580. وقد استمر نفوذ هذه الأسرة إلى أن برز الأمير الدرزي فخر الدين المعني الكبير الذي ضمّ المدينة إلى دائرة سيطرته. تكاثر عدد المسلمين نتيجة للحملات العسكرية المملوكية على مناطق الجرد والمتن وكسروان لإخضاع الطوائف الإسلامية غير السنية. هُجِّر أهل هذه المناطق للإقامة في بيروت، واحتفظ البعض منهم بعقيدته الشيعية “سرياً”، وقيل إنه سعى إلى نشرها، مما أدى إلى احتدام الصراع بين السنّة والشيعة كما يشهد نص مثير نشره القلقشندي في “صبح الأعشى”. استقرت في بيروت اسر سنّية وفدت من البقاع، منهم بنو الحمرا من قرية صغبين، ويُنسب الى هذه العائلة حي الحمرا. ازداد عدد السنّة بسرعة، وعكس هذا الازدياد سيطرة الدولة واستقرار أوضاعها. ازدهر ميناء بيروت التجاري، وتضاعف عدد الحجاج الأوروبيين الوافدين إلى المدينة، وشكلوا جماعة من جماعاتها المتعددة. ينشر محمد عدنان البخيت خمسة دفاتر عثمانية تعود إلى القرن السادس عشر تشمل إحصاءات السكان وتوزيعاتهم المذهبية والعرقية. تُظهر هذه السجلات أن الغالبية العظمى من سكان بيروت كانوا من السنّة، وان السادة والأشراف كانوا قلة في المدينة. يرفق المؤرخ بحثه بوثائق أخرى تتحدث عن تمرد الدروز في النصف الثاني من القرن السادس عشر، منها “حكم إلى أمير أمراء الشام وإلى قضاة صيدا وبيروت”، ونصّه: “بناء على رغبة البعض الذين جاؤوا إلى سدتنا السعيدة، وأعلمنا أن هناك في سنجق بيروت الطائفة الدرزية ومقدميها ورعاياها يحملون البنادق، يرغبون منا إصدار أمر بأخذ هذه البنادق، إنني آمر عند وصول حكمي الشريف هذا أن تجمع جميع البنادق الموجودة في أيدي هذه الطائفة أو في أيدي غيرها وأن تتعاونوا معا وأن تسلّم البنادق إلى قلعة دمشق”.
تلي هذه المقالة دراسة تتناول العوائد المالية لمقاطعات دمشق الشام على ضوء دفاتر عثمانية تعود إلى عام 1569، ويمكن الجزم أن قراءة هذه الدراسة تصعب على غير المختصين بأمور الاقتصاد. بعدها، يقدم الباحث الأردني دراسة متأنية تعالج أحوال العشائر العربية في ولاية دمشق الشام في القرن السادس عشر، واعتماد السلطة العثمانية على العشائر الكبرى منها لإدارة الأراضي والقطاعات لصالحها.
نعود إلى لبنان في الدراسة السابعة، وعنوانها “الأمير حسين بن الأمير فخر الدين المعني، حياته وآثاره”. قام الصراع العشائري في بلادنا بين الجناح القيسي والجناح اليمني، وتزعم فخر الدين القيسية، بينما تزعم آل سيفا اليمنية. شهد الجناحان عددا من المصاهرات السياسية على الرغم من العداء المستحكم بينهما، وأبرز هذه المصاهرات زواج الأمير فخر الدين بابنة الأمير علي بن سيفا شقيق يوسف باشا سيفا، ومنها أنجب الأمير المعني ولديه حسين وحسن. اتسعت سلطة فخر الدين بسرعة، مما شكل تحديا للسلطة العثمانية، وبعث السلطان مراد الرابع بوالي الشام كجك أحمد باشا للقبض على فخر الدين في عام 1633. أمر الأمير ولده حسين ووكيله أبا نوفل نادر الخازن مع ثلاثة آلاف من المقاتلين بالاعتصام في قلعة المرقب بالقرب من اللاذقية، وتمكن قبطان البحر العثماني جعفر باشا من إلقاء القبض على الأمير حسين مع وكيله وأرسلهما إلى الوزير العثماني في حلب، لكن أبا نوفل نجح في الفرار فعاد إلى كسروان، بينما بقي حسين أسيرا في قبضة العثمانيين. “كان من المتوقع أن يصفح السلطان مراد الرابع عن الأمير فخر الدين وعن أولاده وأفراد أسرته الذين رافقوه في الأسر إلى القسطنطينية، إلا أن فرار الأمير ملحم بن الأمير يونس المعني، ابن أخي الأمير فخر الدين، وشنّه الغارات على منافسي البيت المعني من اليمانية من جهة وعلى العسكر العثماني في ولاية الشام من جهة أخرى، أثار حفيظة السلطان وأوغر صدره، فأمر بإعدام فخر الدين وأفراد أسرته في 13 نيسان 1635″، لكن الأمير حسين نجا من ذلك الحكم “لكونه صغيرا رشيدا فالحا”، وقد “أبقوه في سرايا القلعة كعادتهم، وعدل من مذهب أسلافه وتبع منهج الإسلام”. تركت هذه الأحداث أثرا عميقا في نفس الأمير، والتعبير البالغ عن هذا الأثر كتابة نقشها على خاتمه تقول: “أغنى الغنى في ترك المنى”. في عهد السلطان محمد الرابع، تقدم الأمير حسين في مراتب الإدارة العثمانية، واحتل المناصب العالية في الدولة، لكن الوضع تغير مع الصدر الأعظم محمد كوبريلي، فانصرف إلى التأليف والمطالعة حتى وفاته في نهاية القرن السادس عشر، وبوفاته انقرض البيت المعني في الشوف وانتقل الحكم إلى أصهارهم من الأسرة الشهابية.
يختم البخيت كتابه بمقالة عنوانها “مسيرة دمشق وسيرة يوسف بن حسين الأيبش (1925-2003)”، وتخرج هذه المقالة بموضوعها على الإطار التاريخي الذي جمع بين المقالات الأخرى، وهي في الأساس تحية الى ذكرى الباحث الجامعي الكبير يوسف أيبش شدد فيها الكاتب على دور دمشق الدائم في “احتضان السكان الجدد” وصهرهم في ثقافتها.
زمن الحكم المصري
يستعرض قاسم محمد أحمد النواصرة حقبة أخرى من تاريخ بلاد الشام، وهي حقبة الحكم المصري التي لم تدم سوى عشر سنين. بسط محمد علي باشا سلطته على هذه البلاد في زمن انحلال الخلافة العثمانية، مستغلا انشغال بريطانيا بمشكلاتها الداخلية وانصراف فرنسا إلى حل وضعها المتردي في الجزائر. مثّلت هذه الخطوة تحديا صارخا للسلطة العثمانية، وجاءت بعدما تخلى السلطان محمود الثاني عن وعده بمنح محمد علي عددا من المقاطعات مكافأةً له على مشاركته في معركته ضد الوهابيين وحرب اليونان، وكان قد منح جزيرة كريت لابنه إبراهيم باشا، وهي كانت معقلاً للثوار اليونانيين، ومصدراً للأتعاب. صمّم حاكم مصر على بناء أمبراطورية عربية على حساب السلطنة العثمانية، فمدّ نفوذه إلى الجزيرة العربية والسودان وسيطرته على شاطئ البحر الأحمر، وكانت حملة الشام استكمالا لهذا المخطط، لكنها منيت بالفشل بعد عشر سنين. تناول أكثر من مؤرخ تلك المرحلة المصيرية من تاريخ بلاد الشام. كتب ميخائيل الدمشقي “تاريخ حوادث الشام ولبنان من سنة 1783 -1841″، وجمع أسد رستم وثائق “المحفوظات الملكية” في ثلاثة مجلدات، واستعاد جوزف حجار تلك الحقبة في كتاب حمل عنوان “أوروبا ومصير الشرق العربي”، ووضعت لطيفة سالم كتابا تناول “الحكم المصري في الشام”. يكمل قاسم محمد أحمد النواصرة هذا البحث، وتتميز قراءته للأحداث باعتماده عددا كبيرا من الوثائق غير المنشورة، منها وثائق من أرشيف رئاسة الوزراء التركية في اسطنبول، ومجموعة وثائق من دار المحفوظات القومية في القاهرة تُعرف بمجموعة “محافظ عابدين” وتضم القرارات الصادرة من محمد علي باشا إلى ابنه إبراهيم باشا، وسجلات تعود إلى المحاكم الشرعية لمدينة دمشق، وفرمانات صادرة من سلاطين الدولة العثمانية، ووثائق محفوظة في وزارة الخارجية البريطانية.
يبدأ قاسم محمد أحمد النواصرة كتابه بسرد الوقائع التاريخية قبل أن يعمد إلى دراسة “الموقف البريطاني والفرنسي من الحكم المصري لبلاد الشام” وتحليله. عمد هذا الحكم إلى إنشاء إدارة جديدة، وأدخل إصلاحات جذرية على الجهازين القضائي والعسكري، واستحدث تنظيما اقتصاديا شمل مجمل القطاعات التجارية في البلاد. انفتحت السلطة الجديدة على مختلف جماعات بلاد الشام، وانتهجت سياسة مغايرة للسياسة التقليدية في هذه المناطق. في العهد العثماني، “كان أهل الذمة مجردين من الوظائف إلا في حالات نادرة”، وقد “منعوا من الدخول إلى الحمامات العامة إلا يومين في الأسبوع وفرض عليهم ارتداء الزي الأسود الطويل”. في العهد المصري، أُلغيت الفروق بين المسلمين وغيرهم “من الناحية الشكلية دون المساس بجوهر الفوارق الجماعية”. عومل المسيحيون معاملة المسلمين، وشكلت هذه السياسة تحولا اجتماعيا عميقا، “فالمسيحيون، باستثناء الذين يقطنون لبنان، كان محظورا عليهم لبس الحرير بالعمائم البيضاء، أو الخضراء، أو الحمراء، وانتعال الأحذية من هذه الألوان، وحُرّم عليهم ركوب الخيل، والسير في الطريق إلى يمين المسلم، خصوصا في المدن الداخلية البعيدة عن لبنان كحمص وحماة”. رفعت السلطة الجديدة القيود عن الذميين من المسيحيين واليهود، كما رفعتها عن الوزراء الأجانب، وألغت المرتبات التي كانت مفروضة على المعابد والأديرة لجميع طوائف النصارى الكائنة بالقدس الشريف من روم وإفرنج وأرمن وقبط. مُنح حنا البحري لقب بك، وهو حمصي سافر إلى مصر وعمل فيها، وهو أول مسيحي يأخذ هذا اللقب، وقد كلّف إدارة مال بلاد الشام، بينما عُيّن أخوه جرمانوس البحري مديرا لمال مديرية حلب. أراد محمد علي من خلال هذه السياسة الانفتاح على كل فئات الشعب في إدارة شؤون البلاد، كما سعى إلى كسب ود الدول الأوروبية التي رفعت شعار “حماية مسيحيي الشرق” للدخول إلى هذه البلاد.
قامت السلطة بتنظيم الضرائب، ووضعت حداً لابتزاز الإقطاعيين للفلاحين، وأسست المصرف الزراعي، لكن هذه الإصلاحات لم تعط الثمار المرجوة بسبب زيادة الضرائب، والتجنيد الإجباري، ونزع السلاح من السكان، وتسخيرهم في أعمال الدولة. تأزمت المسألة الزراعية وزاد بؤس الفلاحين، وأدّى الانفتاح التجاري إلى منافسة التجارة الأوروبية للتجارة المحلية، كانت نتيجتها طوفان السلع الأوروبية وخراب الصناعة المحلية وتردي الحياة المعيشية للعاملين فيها. على الصعيد الصحي، حاولت الدولة الحد من انتشار الأمراض الوبائية، فأنشأت المستشفيات الصحية والمحاجر، لكن تردي الأوضاع الأمنية حدّ من تحقيق الغاية المرجوة. كذلك، أدخلت السلطة إصلاحات جذرية على الحياة التعليمية، فأنشأت المدارس الحكومية، وبنت مدرسة نظامية في دمشق، وأمرت بتعميم القراءة والكتابة بين أفراد الجيش، وأدخلت العلوم الحديثة على البرامج الدراسية. في هذا المناخ الانفتاحي، ازداد نشاط الإرساليات، وأبرز علاماته افتتاح اللعازريين مدرسة عينطورة عام 1834 ونقل البعثة التبشيرية الأميركية مطبعتها من مالطا إلى بيروت. رغبت السلطة المصرية في إشراك أبناء بلاد الشام في الحكم حتى لا يكون حكمها استبداديا، لكن الأمور سارت بعكس ما تشتهيه. نشب العداء بين محمد علي وعبد الله باشا والي عكا، وكان جذر هذا العداء اعتراف الحاكم المصري بالأمير بشير الشهابي الذي انحاز إليه وسانده في مخططه التوسعي. انقسمت دمشق فئتين: فئة ترحب بالحكم الجديد، وفئة تقاوم تقدمه بشدة. اشتدت هذه المقاومة مع تدهور أحوال البلاد، وعمّت مناطق أخرى من بلاد الشام.
أمام هذا التحول الجغرافي في منطقة الشرق الأوسط، بدت السياسة البريطانية مترددة في البدء، إذ كان عليها أن تختار بين أن تدع محمد علي يؤسس دولة عربية قوية للوقوف ضد الأطماع الروسية في المنطقة، أو أن تحافظ على الدولة العثمانية كي تظل الحاجز بينما تهدم الإمبراطورية الناشئة، وقد مالت إلى الخيار الثاني بسرعة. في المقابل، بدت فرنسا مؤيدة ضمنيا لمحمد علي الذي يعتبر حليفها، وطمعت بالفوائد التجارية الجمة التي يمكن أن تجنيها من هذا الحكم، غير أنها سعت إلى احتواء الأزمة خشية التدخل الروسي لصالح الدولة العثمانية. باختصار، وجدت الدول العظمى نفسها أمام خيارات شديدة التعقيد، وسرعان ما ألحّت كلٌّ من فرنسا وبريطانيا والنمسا على محمد علي باشا بالتسليم والإذعان للسلطان العثماني خشية حدوث اختلال كبير في ميزان القوى الدولية يصعب تحديد وجهته، لكن محمد علي مضى في مشروعه، وكشف عن رغبته في إنشاء أمبراطورية عربية واسعة الأرجاء تضم مصر وبلاد الشام والسودان والجزيرة العربية. تدخل القناصل الأوروبيون في تحديد مسار هذه الأزمة، وسرعان ما تحولوا لاعبين أساسيين فيها، فسعوا إلى المشاركة في شؤون إدارة بلاد الشام، وباتوا أشبه بوكلاء يتمتعون بسلطة مباشرة على إقطاعات واسعة من هذه البلاد. بعثت بريطانيا بمترجم في سفارتها في اسطنبول ريتشارد وود، وعهدت إليه مهمة تحريك بذور الشقاق في قلوب السكان، فجعل مركزه في كسروان، وجدّ في إبعاد بشير الشهابي عن محمد علي، وكان وقوف الأمير اللبناني إلى جانب الحاكم المصري في عام 1832 قد سهّل إخضاع بلاد الشام للسيطرة المصرية. حث البريطانيون جماعة الدروز على رفض سلطة بشير وحليفه إبراهيم باشا، وحاولوا عبثا إبعاد الموارنة عن فرنسا. صمدت السلطة المصرية الفتية، واضطرت إلى فرض مزيد من الضرائب لتثبيت قوتها، فضجر أهل الشام من هذه الإدارة بسبب ثقل وطأتها، وتجددت حركات التمرد في صافيتا وعكار، وسارع العثمانيون إلى تشجيع هذه الثورات. تحالف أهل جبل عامل “لأول مرة في تاريخهم مع العثمانيين”، واستمرت ثورتهم ضد الشهابيين ثلاث سنوات. شارك القناصل في رسم مسير هذه الأحداث، وباتوا دولة داخل دولة، وتدخلوا في كل صغيرة وكبيرة، ولم تجرؤ الإدارة المصرية على الدخول في مواجهة مباشرة معهم، واتبعت معهم “أسلوب اللين والتسامح، رغبة منها في وقوف القناصل إلى جانبها في صراعها مع الدولة العثمانية”.
تحولت معركة محمد علي مع العثمانيين مواجهةً مع البريطانيين. اعتمد حاكم مصر سياسة تجارية جديدة تقوم على الاحتكار، وفرض القيود على النشاط البريطاني، مما زاد من حدة هذه المواجهة. رأت بريطانيا أن وصول محمد علي إلى سوريا قد يدفع به إلى احتلال بغداد، وخشيت على مصالحها في المنطقة، ورغبت في تأمين طريق مواصلاتها إلى الهند، وكشفت عن نيتها في إنشاء سفن لها في نهر الفرات. في المقابل، منح محمد علي الامتيازات للتجار الفرنسيين، وحظيت فرنسا بأوسع نشاط أوروبي مع بلاد الشام، بينما سعت بريطانيا إلى ضرب سياسة الاحتكار المصرية، ونجحت في إصدار فرمان سلطاني يلغي هذا الاحتكار. انتهجت فرنسا سياسة التقارب مع محمد علي نكايةً ببريطانيا، وهي منافستها في السيطرة على هذه المنطقة، لكنها لم تساند حاكم مصر بشكل علني، ثم شكّت في قدرته على مواجهة ما يعترضه من صعوبات، وخذلته حين احتاج إلى مساعدتها. تطور الموقف بشكل حاد إزاء تصلب محمد علي في فرض نفوذه على المنطقة، ورفضت كل الدول الأوروبية على اختلاف توجهاتها المشروع المصري، وخشيت فرنسا بدورها من محاذير هذه الخطوة. أعدّ العثمانيون العدة لمواجهة إبراهيم باشا المصري، وكانت المواجهة في معركة نصيبين عام 1839، وفيها انتصر المصريون، فدخلوا إلى قلب الأناضول، واستولوا على الأسطول العثماني. تحرك البريطانيون بسرعة قصوى، ووقّعوا مع حلفائهم في تموز 1840 معاهدة عُرفت باسم معاهدة لندن، وتنص على رد البلاد إلى العثمانيين، وإبقاء القسم الجنوبي من سوريا ما عدا عكا تحت سلطة محمد علي، مع تأكيد حق بريطانيا والنمسا في مناصرة موانئ سوريا لمساندة كل من يريد الرجوع إلى تبعية الدولة العثمانية، وحق روسيا وبريطانيا والنمسا في الدخول إلى البوسفور لحماية الآستانة.
رفض محمد علي هذه المعاهدة ومضى في المواجهة، بينما تواصلت حركات التمرد في بلاد الشام بدعم متواصل من القوى المعادية لمصر. كتب بشير الشهابي إلى محمد علي وقال له “إن تدخل الأجانب في شؤون البلاد هو الذي يحرض الثائرين مشيرا إلى ضرورة اللجوء إلى القسوة لوضع حد لتصرفاتهم”. بٌثّت شائعة في دمشق تفيد أن عكا سقطت في يد العثمانيين، فقام السكان بالثورة، وقتلوا حنا البحري بك. تواصل إمداد الأهالي بالمال والسلاح للتمرد على الحكم المصري، وامتدت حركات التمرد إلى سائر بلاد الشام حتى نهاية عام 1841. دعت الدولة العثمانية محمد علي إلى انسحاب مقابل إعطائه عكا وجنوب سوريا مدى الحياة، إضافة إلى منحه حكم مصر، له ولأولاده من بعده، لكنه رفض هذا العرض. دخلت القوات البريطانية في مواجهة مباشرة مع المصريين، وسعت الى تطبيق اتفاق لندن بالوسائل العسكرية، فاقتحمت صيدا بعد معركة مستميتة، وسقطت طرابلس بعد صيدا، وتساقطت من بعدها الولايات والمدن الواحدة تلو الأخرى، وانتهت المواجهة بسقوط عكا، فتحولت سوريا حاجزاً يفصل بين المصريين والعثمانيين. سلّم الأمير بشير نفسه إلى البريطانيين، فأُبعد إلى مالطا مع عائلته وحاشيته، وأقام فيها فترة قبل انتقاله إلى اسطنبول. خذلت فرنسا حليفها محمد علي بعدما شجعته في توسعه وطموحه، وتركته وحيدا في مواجهته مع غريمتها بريطانيا، وأدت هذه المواجهة إلى نهاية مأسوية لوالي مصر ¶
النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى