يقــرأون كتــب الاختصــاص أو كتــب الديــن
كنت أقرأ قبل الزواج.. أحب القراءة لكن ليس لديّ وقت
نور الحلبي
بدا أرسطو متفائلاً لمّا قيل له: كيف تحكم على إنسان؟ فأجاب: اسأله كم كتابا تقرأ؟ وماذا تقرأ؟. يبدو جلياً أن مسألة «هل تقرأ» كانت محسومة لديه وأمر بديهي غير قابل للجدل، فعلى الأرجح ان القراءة أمر مسلّم به لدى الإنسان وبالتالي الحكم يصدر إنطلاقاً من كميّة وماهيّة هذه القراءات. لكن لو عاش ارسطو في يومنا هذا لربما أعاد النظر في حيثيات القضية وفي قائمته الاستجوابية، ولاستهل محاكمته بسؤال صعب: هل تقرأ؟ اذاً ماذا تقرأ؟ وكم كتاب تقرأ؟
بيروت العاصمة العالمية للكتاب كما اعلنتها منظمة اليونيسكو لهذا العام، تنتظر معرضها العربي الدولي للكتاب الـ 53 المزمع افتتاحه في الحادي عشر من كانون الأول /ديسمبر في مركز «بيال» للمعارض. وهو تقليد سنوي اعتادته هذه المدينة التي تحمل شهادة مضيئة من التاريخ في حرية الكتاب واحتواء أهم المطبوعات الفنية والفكرية والأدبية والثقافية مقارنة بمحيطها. لكن هل تقرأ بيروت؟ وماذا تقرأ بيروت؟
أكثر الكتب مبيعاً وفقاً لما جاء في احصائية النادي الثقافي العربي حول معرض الكتاب الدولي في العام الفائت توزعت بين عدة مجالات كما يلي: في مجال الفلسفة والفكر وعلم النفس تساوى في المرتبة الأولى كتابا: لاهوت الغلبة ـ التأسيس الديني للفلسفة السياسية الأميركية، لمحمود حيدر، صادر عن دار الفارابي. وكتاب المسجد ورسالته في الألفية الثالثة – الوسطية والاعتدال والحضارة، ليحيى أحمد الكعكي، صادر عن دار النهضة. أما في مجال السياسة فتصدّر المرتبة الأولى كتاب «من حسن نصر لله الى ميشال عون – قراءة سياسية لحزب الله، لفايز قزي، صادر عن رياض الريس للكتب والنشر. والمرتبة الثانية لكتاب «اسرار الصندوق الأسود»، لغسان شربل، صادر عن رياض الريس للنشر. المرتبة الثالثة «زلزال الدولة» لفوزي زيدان وتقديم سعد رفيق الحريري، صادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون. ويأتي في المرتبة الرابعة كتاب «صفاء الخاطر» لبشارة مرهج، صادر عن رياض الريس للكتب والنشر. ويُلاحظ ان الكتب السياسية التي احتلت الصدارة العام الفائت، هي كتب آنية أغلبها معني بالشأن اللبناني الراهن فقط.
احتل المرتبة الأولى في مجال علم الاجتماع كتاب «معنى أن تكون لبنانياً»، لمنى فياض، صادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون. أما في الشعر والرواية والنقد الأدبي فحاز ديوان «مقام الصوت»، لعصام العبد الله ـ صادر عن دار النهضة العربية على المرتبة الأولى، في حين تبوأت رواية «حبّ بيروتي»، لسحر مندور المنصب الأول وهي رواية صادرة عن دار الآداب للنشر والتوزيع. وكان لافتاً انه تحت فئة «العلوم» كما ورد في الإحصائية تصدرت ثلاثة كتب «علمية» أعلى المبيعات وهي: كارمن والأبراج (المرتبة الأولى)، ماغي فرح 2009 سنة الأزمات العنيفة (المرتبة الثانية)، التداوي بالأعشاب للعلامة داوود الانطاكي (المرتبة الثالثة). أما في ما يتعلق بالكتب المندرجة تحت قائمة «الفنون» فقد احتل كتاب «سلسلة الطبخ العالمي» المرتبة الأولى يليه في المرتبة الثانية «الف باء الطبخ الموسّع» وجاء في المرتبة الثالثة كتاب «سفرة أناهيد الشهية» لـ أناهيد دونيكيان!. في حين جاء في المرتبة الأولى كتاب «تاريخ لبنان الحديث من الامارة الى اتفاق الطائف» لـ فواز طرابلسي، صادر عن دار رياض الريس للكتب والنشر، وذلك ضمن كتب التاريخ الأكثر مبيعاً.
تجدر الإشارة الى أن النادي الثقافي العربي استند الى إحصائيات دقيقة من خلال ايصالات بيع الكتب المشتراة خلال المعرض والمسلّمة الى مندوبيه.
هل حقاً القراءة متعة؟
«أعز مكان في الدنى سرج سابح وخير خليس في الزمان كتاب» بيت أشهر من أن يعرّف ولربما هو اشهر من المتنبي ذاته صاحب هذا البيت. الجميع يردده ومتفق عليه ومؤمن بأحقيته وصوابيته ولكن ربما بات الأمر كما قال المخرج الروسي «اندريه تاركوفسكي» في كتابه «النحت في الزمن» أن «أعمال العظام مقروءة كما تقرأ العامة النجوم على نحو تنجيمي في الغالب وليس على نحو فلكي.». يضحك المهندس المدني جمال يوسف ويقول «سؤال محرج» ثم يضيف «نعم اقرأ المخططات والخرائط بحكم عملي، أما القراءة في مجالات أخرى فتستلزم وقتاً طويلاً لا أملكه رغم انها ضرورية وممتعة فهي تفتح الأفق وتوسّع المخيلة، لكن لا وقت.. لا وقت». بدورها رشا حكيم أجابت «أقرأ في أوقات الفراغ القليلة، فالعمل في مهنة المحاماة متعب، ويومي يبدأ عند الثامنة والنصف صباحاً لغاية الخامسة عصراً بعدها أعود الى البيت منهكة من قراءة الملفات والقضايا ومن إعداد وكتابة اللوائح» لكنها تضيف « القراءة ممتعة شرط ان يكون الكتاب جميلاً أي بعيدا عن التعقيد ويتضمن أفكاراً متجددة ومفيدة. فذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي هي أجمل رواية قراتها حتى الآن أضافة الى ديوان «أبجدية الياسمي» لنزار قباني ولكنني وقفت عاجزة أمام كتاب «تهافت الفلاسفة» لـ الفيلسوف الغزالي وانتظر ترجمته الى العربية!» وختمت بالقول «اعتقد أن اغلب قراءات المحامين مرتبطة بمجال عملهم».
أما صباح ترمس فكانت إجابتها محسومة وقاطعة «لا اقرأ غير كتب اختصاصي في الجامعة، لا يوجد وقت فمن يدرس هندسة داخلية فلن يمتلك وقتاً إضافياً للمطالعة في مجالات أخرى». وماذا عن الصحيفة اليومية؟ «أقرأ برجي»!!
هكذا يُلاحظ أن مسألة ضيق الوقت تحظى بإجماع منقطع النظير بعيداً عن «النخب» العاملة في المجال الثقافي كالصحافيين والكتّاب والشعراء والفنانين التشكليين وغيرهم. فتوفيق عبّاد (صحافي) يرد مؤكداً «أقرأ الكتب الفلسفية والفكرية والمجلات الثقافية كمجلة العربي مثلاً، إضافة الى الصحف اليومية وهو ضروري كي أنال المعرفة وأستفيد في مجال مهنتي فضلاً عن المتعة التي تحققها القراءة «. وأهم ما في الأمر أنه يجد أوقاتاً للقراءة لأنها جزء من عمله ولأنه على حد قوله لا يشغل نفسه كثيراً بأمور أخرى.
من جهته أحمد البابا طالب الإخراج والهاوي الموسيقي، يحب قراءة قصص التشويق التي تتضمن مشاهد إجرامية وقتل وحرب، يقرأ باللغة الانكليزية ويحب كتابات «دان براون». «اسعى الى جمع مخزون من الصور والمشهديات والسيناريوهات في عقلي لتكون اساساً ابني عليه رؤيتي الإخراجية وبصمتي الفنية لاحقاً».
القراءة فنّ معقد وشائك!
حاولت المناهج المدرسية بأسلوب استعراضي نظري إقناعنا بأنّ القراءة متعة لا تضارعها متع اخرى، لكنها اعتمدت لذلك سبل حشو الأدمغة بالمعلومات وتحويل القراءة الى عبء ثقيل يقع على كاهل الطالب ما أدى الى مفاعيل مناقضة للمفاهيم التي حاولت الترويج لها. وجاءت النتائج تسوّسا فكريا وأفولا لشمس الكتاب في عصر بات من الممكن فيه استحضار العالم الى غرف الجلوس بكبسة زر سواء عبر جهاز الكومبيوتر او على شاشات التلفزة.
«أقرأ الكتب الطبية لأنني لا امتلك الوقت الكافي لقراءة أنواع أخرى من الكتب» هكذا ردّ الطبيب حسن اسماعيل، وعمّا اذا كان سيزور معرض الكتاب المقبل أجاب متردداً «ربما.. إن لم أكن مشغولاً»، وعن أهمية متابعة آخر وأهم التطورات المستجدة في عالم الطب ردّ باستغراب «ولماذا اخترعوا الإنترنت إذاً؟! ربما توجد ثغرة لا يغطيها سوى الكتاب لميزته التوسعية والتفصيلية لكن الانترنت يغطي قسماً كبيراً أيضاً».
وفي مقال لها نشرته صحيفة «ذا غارديان» البريطانية، كتبت الكاتبة الانكليزية الراحلة فيرجينيا وولف «القراءة فنّ معقّد، الامتحان الأصعب لحواسنا كما نلمس كقراء..». وبالتالي يمكن القول انها حرق للطاقة وتستلزم مجهودا فكريا وذهنيا، او ربما ورشة كبيرة تتطلب جهوزية ذهنية تامة ووقتا طويلا يكرّس لخدمتها كي تؤدي دورها التعليمي والتثقيفي وكي تضرب جذورها في حياتنا فتغيّرها، تأكيداً لمقولة أنطوان كومبانيون (استاذ الأدب الفرنسي في جامعة السوربون) وهي: يوجد نوعان من الكتب: كتب تخرج منها متغيّراً للأبد، وكتب أخرى عكس ذلك، والكتاب الذي يتركك كما انت ليس في الحقيقة كتاباً جديراً بالقراءة».
وباعتبار ان القراءة الحقيقية ليست متعة بقدر ما هي رياضة متعبة في زمن يسير على وتيرة متسارعة، نجد الإقبال يتكاثر على قراءة الكتب البسيطة كالكتب الاجتماعية والروايات والقصص والأساطير والمجلات الفنية والجنسية.. وهو أمر يأتي على حساب نوعيات اخرى من الكتب العلمية والفكرية المتخصصة والمكتوبة بلغة مجرّدة.. فالأولى تحقق المتعة والتسلية بأقل مجهود ممكن، أما الثانية فتتطلب مخزونا ثقافيا زاخرا وتراكما معرفيا للقارئ والإنسان بطبيعته ميّال الى الكسل ويحب ان يحقق اكثر متعة بأقل جهد ممكن.
نضال الإبراهيم (محام) يعتبر»أن المتعة لا تُطلب من المعرفة، بل هي شيء متعلق بشهوات الإنسان المتعددة، أما المعرفة فهي أمر متعلق بالعقل الفعلي، وهو ليس ممتعاً بالتأكيد». أما عن نوعية قراءاته غير القانونية فـ«قرأت الفلسفة اليونانية والميثولوجيا السورية» يضحك ويقول «وانت تعرفين ماذا أقصد بالسورية»، في اشارة الى انتمائه العقائدي للحزب السوري القومي الإجتماعي. ويتابع «قرأت الإنتاج الفلسفي والديني في كل الثقافات السورية من السومريين الى الآراميين وأغلب أعمال المفكر فراس السواح وجرجي كنعان غيرهما»!.
واذا كانت القراءة فنّا معقّدا كما وصفتها وولف أو إذا صدقنا مقولة غوتة بأن «مشقة قراءة كتاب جيدّ تعادل مشقّة كتابته»، الا انها قد لا تكون أصعب من الرياضيات. حسن صبرا (طالب رياضيات) كان جالساً في الجامعة برفقة خير جليس، وهو كتاب «طريق النحل» لرامي عليق، يحب القراءة جداً ويقرأ «كلما سنحت له الفرصة». «أحب كتابات فرويد وغسان كنفاني وغيرهما». يسير حسن على خطى القراءة الوعرة ولم تمنعه الرياضيات من الاطلاع على المعارف الأخرى، أما ميوله العلمانية كما قال فلم تحل بينه وبين قراءات دينية فقهية، فهو قرأ كتاب «فلسفتنا» لمحمد باقر الصدر ويعتبره كتاباً مميزاً وجميلاً.
زواجي هو السبب!
«كنت قارئة بامتياز ولم ينفذ اي كتاب من بين يديّ، لكن كان ذلك قبل الزواج» هكذا تقول ميرنا الحاج (مدرسة لغة انكليزية)، وتضيف «باتت القراءة في هذا العصر ترفاً وبرجوازية لا يمتلكهما اغلب الناس. فالعمل دوامه طويل ولدي طفلان وبالتالي تمنعني ضغوطات عملي وواجباتي ازاء اسرتي من القراءة.. وقتي ضيّق ولا املك الطاقة اللازمة للمطالعة والتركيز مساءً».
يمتلك رقعة صغيرة من رصيف شارع الحمرا المزدحم في بيروت، رفض ان يقول اسمه ربما «لأسباب امنية»، لكنه أكدّ انه لا يمتلك الوقت الكافي لقراءة شيء مما يبيع.. علماً بانه كان جالساً على الكرسي قرب كتبه المكدسة في كشكه محاطاً بضباب كثيف خلفه دخان سيجارته ويتسكع بعينيه، مراقباً المارة وملوّحاً لمن يعرفه منهم!
أما سائق التاكسي فجاوب مستغرباً من طرح السؤال، كما لو انّ من مثله محكومون بالجهل «طبعاً لا اقرأ لأنه ما في وقت»، ولا حتى الصحيفة اليومية؟ «بصراحة نظري تعبان ما بقدر اقرأ جريدة بس بسمع اخبار عن الراديو..»!
امّا بائع الخضار فهو قارئ مواظب للجريدة اليومية فأبو عاطف قاسم «يقرأ التسعيرات اليومية للخضار والفواكه والجريدة الصباحية كطقس يومي درج عليه منذ زمن بعيد على حد قوله».
الكتاب تاريخ من النكبات
في احدى مقابلاتها تقول الكاتبة الصينية يونغ شانغ صاحبة كتاب «بجعات برية» إنّ «ماو» كان يقرأ كل شيء، كان سريره يتميّز بكبر حجمه ومليئاً الى نصفه بالكتب. كان يقرأ كثيراً غير انه لم يكن يسمح لمليار صيني بالقراءة، وفي نهاية عهده كانت كتب كثيرة تطبع له خصيصاً». وأضافت «اما الكتاب الاحمر الذي كان يضم اقوال ماو فكان مقدساً وعلى الصينيين المحافظة عليه كحدقة عين والكتب الأخرى فكان مصيرها المحرقة». ربما هو تأكيد لمقولة الكاتب الأميركي انتوني روبنز «القادة هم من يقرأون» وبالتالي قراءة الشعوب تشكل خطراً على القادة!.
هولاكو انتقم من بغداد بالقاء مكتبتها في دجلة، وهو تأكيد على الرعب الذي يزرعه الكتاب لدى المتسلطين والمحتلين. ولا تنفصل مصائر الكتب عن مصائر الكتّاب فدجلة الذي سال حبراً، ذُرّ رماد الحجاج فيه أيضاً لكون الفكر جعله في عداد الزنادقة والمارقين عن الدين. ولم يكن السهروردي بحظ أوفر منه، فكل فكر جديد يعتبر منبوذاً وصاحبه، داخل منظومات كانت سائدة وحاكمة في عصر من العصور. اما الجاحظ فبقي يغازل الكتب ويمتدحها الى أن اغتالته مكتبته فمات بعد ان سقطت عليه كتب أمضى حياته مادحاً فوائدها الجليلة والعظيمة. والحاضر فيه امثلة كثيرة حيث يحشر أهم الكتّاب والمفكرين في ما يسمى بالمعتقلات السياسية كمصير محتّم لمن يعرف كيف يقرأ! .
«عندي كتب كثيرة في المنزل لكن ما ان امسك بكتاب يتملكني السأم وأبدأ بالتثاؤب، علماً بانني أحبّ أن اقرأ فالقراءة ممتــعة ومســليّة.. لكن.. لا وقت..» (حسام مرعــي، طالــب فيزياء).
الكتاب موجود في جميع المنازل، فعلى الاقل يوجد في كل بيت كتاب مقدّس وحتى هذا الكتاب بالكاد يُقرأ «بالكاد اقرأ صفحة من القرآن عقب كل صلاة..» سماح يوسف (إدارية). وتزخر اوراق السير الذاتية بالقراءة كهواية الى جانب السباحة والموسيقى وركوب الخيل والسفر.. لكن للأسف خير جليس في هذا الزمان قد أصبح التلفزيون واللاب توب ورفي“ق الدردشة او الشات!!
وهكذا يمكن الجزم بان القراءة ليست متعة إطلاقاً بل هي كما قال عنها كومبانيون «محاطة بالقلق قبلها وبعدها وحولها واثناءها»! ربما يعرف الجميع ذلك حدساً، لكن لا يملكون التعبير الملائم فيلصقون التهمة بالوقت الضيّق.. واذا كانت اول عبارة في التوراة تقول «في البدء كانت الكلمة» فأول أمر ورد في القرآن «اقرأ».. ربما هذا ايضاً دليل على قدسية القراءة وصعوبتها خصوصاً ان أول ردّ على اول طلب في القرآن كان «ما أنا بقارئ..»!