‘من أسكت الصافرة’: معلقة الحنين الدمشقي.. وتذكارات الحلم العربي!
محمد منصور
لا تزال ذكريات الخط الحديدي الحجازي عالقة في ذاكرة الكثير من الدمشقيين، رغم أن هذا الخط قد تقطعت أوصاله منذ أكثر من أربعة وتسعين عاماً، بعدما ان تعرض للتخريب عام 1916، أثناء قيام الثورة العربية الكبرى… زمن الحرب العالمية الأولى… وقد كان للجاسوس البريطاني لورنس العرب اليد الطولى في تخريب الخط بالتحالف مع من عملوا تحت إمرته من أتباع الثورة العربية الكبرى التي أطلق رصاصتها الشريف حسين، وقد كان لورنس هو من قدم للبدو أو للجيش العربي آليات التدمير وزرع الألغام داخل المناطق التي تمر بها السكة وخصوصاً في الجسور والأنفاق التي كانت تعبرها، بحيث يصعب إصلاحها!
ذكريات دمشقية لا تموت!
أما لماذا بقي هذا الخط حياً في نفوس الدمشقيين خصوصاً، والسوريين عموماً، رغم أن هذا الخط كان يمر في الأردن وفلسطين والسعودية، فلأسباب عدة، لعل أبرزها أن الدولة العثمانية عندما فكرت في مد هذا الخط في عهد السلطان عبد الحميد، وبدأ العمل به عام 1900، كانت قد قررت أن مركز الخط الأساسي هو دمشق، وأن هدف هذا الخط بشكل أساسي هو نقل الحجاج من دمشق إلى المدينة المنورة… حيث كانت دمشق آخر مركز حضري كبير على طريق الحج، وكان حجاج تركيا وأوروبا والبلقان، يأتون إلى دمشق ليتجمعوا فيها، قبل أن ينطلق موكب الحج في رحلته الطويلة في عمق بادية الأردن وصحراء نجد والحجاز… وقد كان أمير الحج فيه هو والي دمشق نفسه… وكان نجاح قوافل الحجيج في الذهاب من دمشق باتجاه الأراضي المقدسة والعودة إليها، يعتبر نجاحاً سياسياً وأمنياً ودينياً واجتماعياً كبيراً… أما فشله وتعرضه للكوارث ولنهب قطاع الطرق وإزهاق أرواح الحجيج، فكان يمكن أن يطيح بكرسي والي دمشق نفسه!
وعلى العموم فالدمشقيون يعتبرون اليوم أن مبنى (محطة الحجاز) الذي يقع في قلب مدينتهم، هو آية معمارية مازالت متوهجة بتصميمها البديع وألقها التاريخي، وذكرياتها الجميلة… إلى درجة تجعل حضور هذا الخط حتى في ذاكرة من لم يعاصروا تسيير رحلته الأولى عام 1908، ثم تسيير رحلاته التالية على مدى السنوات الثماني التي عمل فيها، حضوراً راسخاً ومتوهجاً بالاشتياق… ليس إلى ما يقدمه الخط خارج الأراضي السورية حيث انقطع وصله زمناً طويلاً، بل لما يقدمه داخل سورية حيث استمر يعمل فقط داخل دمشق حيث بقيت محطة الحجاز ومبناها التاريخي، هي عنوان أي رحلة قطار إلى مصايف دمشق الجميلة، في زمن عامر بالبهجة والألفة والبساطة التي ولت إلى غير رجعة… وإن لم تكن لتلك الرحلات علاقة بالخط الأساسي، وحيث يعتبر معمل السكة الحديد في منطقة القدم عند مدخل دمشق الجنوبي، جزءاً من ذاكرة مرحلة، ومشوار عمر، ورحلة سكة تحمل في دروبها وصفيرها، الكثير من الاشتياق الإنساني ولهفة السفر والعودة، ولوعة الذهاب والإياب على حافة الانتظار أمام الدروب الممتدة بلا انقطاع!
اجتماعات وشعارات ولجان مشتركة!
وقد بثت قناة ‘الجزيرة’ أخيراً فيلماُ وثائقياً عن الخط الحديدي الحجازي بعنوان: (من أسكت الصافرة) أعده الكاتب الفلسطيني علي الكردي، وكتب له السيناريو وأخرجه المخرج العراقي المعروف قيس الزبيدي مع محمد ماهر جاموس. وقد سعى الفيلم للتعريف بتاريخ الخط، ومحاولة توثيق معالم زمنه الجميل، والدور الذي لعبه إلى جانب الوقوف عند حدث تخريبه، وعند محاولات إحيائه المتعثرة التي يبرز فيها زيف شعارات الأنظمة العربية في أي مشروع يمكن أن يشكل رابطاً حقيقياً بين الدول والشعوب، في زمن كل دولة سعيدة بواقعها الإقليمي، ومخلصة لطموحاتها القطرية!
ويذكر الباحث مهند المبيضين في الفيلم، أن أول اجتماع للدول التي تمر بها السكك الحديدية الحجازية تم بين عام 1946 وعام 1947 بدعوة من الجامعة العربية ثم عقد اجتماع آخر في صوفر بلبنان في عام 1956 ، لكن بقي الأمر أيضا معلقا، حتى تدخلت شركة أمريكية قدمت عرضا لاستخدام إعادة تأهيل السكة عام 1961، وفي عام 1965 عقدت أيضا ندوة أو مؤتمر لوزراء الاتصالات أو المواصلات العربية في المنطقة التي تمر فيها سكة الحديد الحجازي، لكن كل هذه الاجتماعات بقيت حبراً على ورق.. وفي السياق نفسه يذكر الإعلامي فايز قنديل، أنه عندما بدأ عمله كمعلق سياسي في إذاعة ‘صوت العرب’ في حقبة الجمهورية العربية المتحدة كان أول خبر صاغه هو خبر عن اجتماعات إعادة تسيير الخط الحديدي الحجازي والذي كانت تقوم بها -أي بهذه الاجتماعات- لجنة مؤلفة من سورية والأردن والمناطق والبلدان التي يمر به الخط الحديدي الحجازي، وعندما تقاعدت قبل بضعة أعوام كان آخر خبر قرأته أو تدخلت في صياغته هو اجتماع لجنة إعادة تسيير الخط الحديدي الحجازي أي أن أربعين عاما ونيف قد مضت والخط الحديدي الحجازي لا يزال على حاله.
ورغم ما أثاره الفيلم حول بعض المشكلات الفنية للخط الحديدي الحجازي التي اصطدمت بها اللجان المشتركة التي كانت تجتمع، بسبب عرض السكة الضيق ( 110 امتار) وتصاميم القطارات التي اختلفت وتجاوزها الزمن، إلا أنه لا يمكن أن ننكر دور الإرادة السياسية في تعطيل مشروع إعادة التأهيل… وعندما تغيب الإرادة السياسية في أي مشروع عربي، فلا بد أن يتحول إلى مجرد شعارات واجتماعات يستهلكها الزمن والإعلام لا أكثر!
قطار الحج المقدس وخيرات الشام الطازجة!
لم يكن خط الحديد الحجازي، مجرد رحلة ذكريات تعيدنا للأمس الجميل، بل لعب رغم عمره القصير أدواراً كبرى… ومما لا يذكره الفيلم في هذا السياق أن الدعاية للخط بدأت دينية، إذ كان منوطاً به خدمة حجاج بيت الله الحرام، ولهذا تبرع له الأعيان وعامة الناس، مثلما تبرع له شاه إيران وخديوي مصر عباس حلمي…إذ بلغت تكلفته ثلاثة ملايين ونصف مليون ليرة ذهبية عثمانية… وبالفعل اختصر الخط رحلة الحج من دمشق إلى المدينة المنورة من أربعين يوماً حين كانت على الجمال إلى خمسة أيام فقط.. والمعلومة المهمة التي يذكرها الفيلم في سياق دوره الديني على لسان عزيز القاسم أحد العاملين القدامى بالخط، أنه في أعوام (1954- 1955- 1956) استخدم الخط لنقل الحجاج من دمشق إلى معان وكانوا يذهبون من معان للعقبة بالسيارات ثم يركبون البواخر في العقبة إلى جدة، ويضيف: (يعني بين ما تروح الباخرة وترجع نكون رجعنا على الشام وأخذنا النقلة الثانية.. وكانت رحلة الحج عبارة عن أربع مجموعات كل مجموعة أربع قطارات كل قطار استيعابه 1200 راكب) كذلك لعب الخط دوراً تجارياً هاماً، ويذكر عبد الله الخزرجي أحد أبناء المدينة المنورة بكثير من البهجة: أن الفواكه والخضراوات كانت تصل من الشام إلى المدينة المنورة طازجة: (التفاح والبرقوق والمشمش والعنب ولا تنس هناك ببعض الأحيان المكدوس ، والزيوت والأشياء الثانية، يعني يمر القطار على أنطاكية فيأخذ منها من تجارها صناديق ويأخذ من حلب صناديق ويأخذ من الشام كذلك فواكهها ومن الأردن الباذنجان الأحمر والبرتقال واليوسف أفندي وغيره ويجيبها إلى المدينة المنورة وكانوا ينتفعون أهل المدينة من الخضرة طازجة)… أما الأردن فقد استفاد من الخط في نقل الفوسفات عبر الأراضي السورية إلى ميناء بيروت… وقد أسهم نقل الفوسفات الأردني في تنشيط الخط أكثر من عشرين عاماً بين (1955- 1975) وتوقفت هذه الحركة مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975.
وبالعودة إلى ذكريات الدمشقيين الذين طالما رأوا في الخط الحديدي الحجازي، جزءا من تراث مدينتهم ومن حيويتها وعراقتها… ولا أدل على ذلك أن المعمل الأساسي لصيانة الخط كان في منطقة القدم على مشارف دمشق.. وفي الثلاثينيات كان يضم المعمل قرابة 1500 عامل وفني، تمرسوا جميعاً في صيانة القطارات وتشغيلها، لأنه عندما أنشئ المعمل عام 1902 بإشراف خبراء أتراك، كانت اليد العاملة سورية.. واستمرت هذه اليد العاملة اليوم، ترعى السكة الحديد التي أنشئت لاحقاً داخل المدينة، ترمم الذكريات والتاريخ، وتبني القاطرات من أجل وضعها في متحف، أو تشغيلها في مسافات محدودة كتلك التي تنطلق من الربوة عند مدخل دمشق الغربي إلى قرية عين الفيجة على بعد عشرين كيلو متراً من دمشق… بعد أن اقتلعت خطوط السكة في أجزاء كثيرة من المدينة.. وبعد أن سكتت صافرة القطار التي كانت تسحرنا كأطفال حين تتناهى إلى مسامعنا كنداء من صديق قديم فيما يعبر القطار في بعض الشوارع نحو مصايف دمشق وصولا إلى الزبداني وسرغايا!
إن فيلم (من أسكت الصافرة) عمل وثائقي مشغول بروح جميلة وأخاذة.. حافل بالمعلومات والأفكار… باللقطات الجمالية والحلول الإخراجية المبهجة والحزينة معاً… كحزن تلك الصافرة التي تنطلق من القطار اللعبة… الذي يعابث السكة الصغيرة ويدخل في عمق اللوحة التشكيلية ليقدم لنا صورة عن أحلام الطفولة المرتبطة بالزمن وأدواته وإكسسواراته وأجوائه، كما أراد الفيلم أن يختزلها في هذا المشهد الموحي الجميل!
ناقد فني من سورية
القدس العربي