حمامات دمشق.. العودة إلى تقاليد الاستحمام القديمة
السياحة أنقذتها من الاندثار
دمشق: هشام عدرة
اشتهرت مدينة دمشق منذ مئات السنين بوجود الحمامات العامة، أو ما يطلق عليه حمامات السوق، حيث كانت تصلها المياه من نهر بردى وفروعه وقنواته، وكان الدمشقيون يعشقون الاستحمام فيها حتى إنهم ابتكروا مثلا شعبيا يقول (نعيم الدنيا الحمام)، وكانوا يذهبون إليها بشكل دوري.. وتخصص قسم منها كحمام للنساء فقط، في حين خصص القسم الأكبر منها فترات ما بعد الظهيرة وحتى المساء لاستقبال النساء وهو التوقيت الذي ما زالت تعتمده بعض هذه الحمامات حاليا، كما أن الدمشقيين ابتكروا العادات والتقاليد لجعل الحمام ليس مكانا فقط للاستحمام بل ليكون ملتقى لأهل الحي والأصدقاء خاصة في النصف الأول من القرن العشرين المنصرم، حيث انتشرت عادات الضيافة وتناول الغداء في الحمام وهو بشكل خاص أكلة المجدرة التي يحضرها الدمشقيون من البرغل والزيت والعدس، فكانت نساء الحارة التي يوجد فيها الحمام يحضرنها بشكل جماعي ويذهبن مع بناتهن إلى الحمام وكأنه تقليد دمشقي ونزهة للترويح عن النفس، كما ابتكروا طقوس الحمام للعريس والعروس قبل زفافهما، حيث كانت العروس تستحم قبل زفها إلى عريسها مع تقاليد الحنة في الحمام، في حين كان أصحاب العريس يأخذونه إلى حمام السوق ليستحم يوم زفافه ويخرجونه من الحمام بعراضة شامية وأهازيج حماسية ويوصلونه إلى مكان الرجال في حفل الزفاف. ولذلك ازدهرت الحمامات كثيرا في الماضي، حيث عرفت منذ عهد الرومان وفي العصور اللاحقة، وبلغت أوجها في القرن التاسع عشر حيث وصل عددها إلى 200 حمام، ليتقلص فيما بعد إلى 65 حماما تهدم الكثير منها وبقي يعمل منها حاليا 12 فقط، وهذه كان مصيرها أيضا الزوال والانقراض والتحول إلى مطعم أو مقهى لولا إقبال السياح عليها بكثرة في السنوات العشرين الماضية بعد أن هجرها الدمشقيون إلا في المناسبات الاجتماعية والأعياد، ومع حنين البعض لعادات وطقوس الماضي الجميل حيث لم يبق منزل في دمشق إلا وفيه حمام.
دليل السائح إلى أجمل الحمامات الدمشقية: يلاحظ المتابعون أن الحمامات المتبقية في دمشق والتي أنقذتها حركة السياح الأجانب والعرب إلى دمشق يوجد معظمها في أسواق وحارات دمشق القديمة داخل السور وفي الأماكن التي يرتادها السياح بكثرة كمنطقة الأسواق القديمة وباب توما والقيمرية والعمارة وغيرها، ويؤكد هؤلاء المتابعون أن هذه الحمامات بما تحويه من فلكلور وتراث وطرق تقليدية في الاستحمام تجعل السائح المستحم فيها ينطلق من قسم إلى قسم بالتسلسل حسب درجات الحرارة من البراني البارد نسبيا إلى الوسطاني المتوسط الحرارة إلى الجواني المرتفع الحرارة، ليعود ويخرج بعدها بعكس حركة دخوله للمحافظة على حرارة جسمه وليتناول كأس الشاي أو فنجان القهوة في باحة الحمام. وقد حرص بعض أصحاب هذه الحمامات على إدخال الساونا والمساج إليها خدمة للسياح الذين يرغبون بها، كما أن هؤلاء تستهويهم طقوس عمال الحمام في الداخل من حيث التكييس والتلييف، والتي يقوم بها عمال من ذوي الخبرة، حيث يقدمون خدمات صحية للزبون وكأنه في عيادة تدليك ومعالجة فيزيائية. كذلك يقبل عليها السياح لعراقة أبنية هذه الحمامات وتصميمها المعماري القديم وزخارفها الجميلة وألوانها المميزة خاصة في القسم الخارجي والباحة، حيث استقبال الزبائن وتوديعهم فيها، وتتميز جميع حمامات دمشق بوجود بحيرات تزيينية في وسطها ومصطبات عالية لجلوس الزبائن عليها، كما يعلوها سقف مرتفع مع قبب يدخل الضوء منها من خلال فتحات كثيرة عليها زجاج خاص من تصنيع قزازي دمشق ويطلق عليها (القمرات)، وهذه كلها مفردات جميلة تشد السائح وتجذبه ليستحم في حمام سوق دمشق، وليشعر وكأنه يستحم في حضن التاريخ والتراث.
والوصول للحمامات الدمشقية التقليدية ليس صعبا خاصة للمتجولين في القسم القديم من المدينة، ومن أشهر وأجمل هذه الحمامات هناك (حمام نور الدين الشهيد) في سوق البزورية أشهر أسواق دمشق القديمة، حيث يتوسط الحمام السوق المذكورة، ويعتبر من أقدم حمامات دمشق، حيث بني في العهد الزنكي، وفي بدايات القرن العشرين أهمل حتى عام 1975 لتنطلق أعمال ترميمه، وليفتح أبوابه فيما بعد أمام السياح والمستحمين. ويتميز بناء الحمام بثرائه المعماري وغناه بالزخارف، وباب الحمام يقع في الجهة الغربية وينفتح على ممر مغطى بقبوة نصف اسطوانية يؤدي إلى القسم البراني المربع الشكل وتتوسطه بركة ماء تغذى من خزانات الحمام، ويضم أربعة أعمدة حاملة للقبة تشكل أربع مصاطب تظلله ثلاث قباب.
يكسو جدران وأرضية الحمام الرخام المزين بأشكال هندسية جميلة. وقد حرص مستثمرو الحمام حاليا على توظيف التراث فيه وبكل تفاصيله، ومن ذلك وجود (القباقيب) الشهيرة في مدخل الحمام لينتعلها من يرغب بالاستحمام فيه كما كان في السابق، وكذلك افتتحت بجانب الحمام غرفة صغيرة حولها المستثمرون إلى صالون حلاقة رجالي وعلى الطريقة التراثية، حيث يمكن للزائر للحمام أن يصفف شعره ويقصه قبل أن يأخذ حماما تقليديا أو بعد الاستحمام.
ومن حمامات دمشق الشهيرة هناك (حمام الملك الظاهر) الواقع بجانب المكتبة الظاهرية ويمكن للسائح أن يصل إليه من سوق الحميدية سيرا على الأقدام لمدة ثلاث دقائق فقط، وقبل أن يصل للجامع الأموي ينعطف يسارا باتجاه منطقة الكلاسة، ومن ثم يأخذ الطريق الواصل لحارة السبع الطوالع، حيث يصادفه مبنى الحمام على يمينه، كما يمكنه أن يصل إلى الحمام من شارع الملك فيصل حيث يتجه إلى باب الفراديس ومن ثم مقام الست رقية وبعده إلى حارة السبع الطوالع وفي نهايتها يقع على يساره حمام الملك الظاهر الذي يعود بناؤه لمئات السنين ويتميز أيضا بزخارفه الجميلة وعمارته التراثية.
وهناك حمام الورد الواقع في وسط سوق ساروجة خارج سور المدينة القديمة، وتشهد السوق حركة سياحية نشطة وكذلك الحمام الذي لم يتبق غيره يعمل في السوق، حيث هناك حمام الجوزة في حارة جوزة الحدبا بساروجة والمقابل لمقاهي ساروجة الشهيرة، وهو مبنى مغلق وآيل للسقوط ويحتاج لأعمال ترميم سريعة.. وهناك أيضا حمام الخانجي قرب سوق الهال القديمة في الجهة المقابلة لشارع وجسر الثورة.. وهناك حمام العفيف الذي كتبت على لوحة في مدخله عبارة: «من يطلب العافية من رب لطيف فليقصد حمام العفيف».. ومن حمامات دمشق أيضا حمام السروجي في حي الشاغور، وحمام الشيخ حسن في منطقة السويقة في الطريق المتجه من باب الجابية التاريخي إلى باب مصلى جنوبا وقد كتب على مدخله.
وهناك حمام عز الدين في منطقة باب سريجة التاريخية التي ترتبط بمنطقة باب الجابية.. ومن الحمامات أيضا حمام القرماني قرب ساحة المرجة الشهيرة وجسر الثورة، وكانت تحيط به سوق العتيق، ولكن بعد إزالة السوق وتحويل منطقتها إلى مسطح أخضر ظهر هذا الحمام بشكل واضح وببنائه الواسع الجميل، وأعيد ترميمه في السنوات الثلاث الماضية ليفتتح أبوابه أمام السياح والزوار، وما يميز هذا الحمام الذي ظل يعمل حتى أواخر تسعينات القرن الماضي، أن معظم زبائنه من السياح العرب والخليجيين بشكل خاص، حيث يوجد في منطقة غنية بالفنادق ذات الثلاث والأربع نجوم والشعبية، والتي يؤمها السياح العرب بكثرة. وفي حي العمارة القديم داخل السور هناك (حمام أمونة) الذي ما زال يعمل على طريقة الوقود الخشبي.
ومن حمامات منطقة باب توما الشهيرة هناك حمام البكري الذي يمكن الوصول إليه من طريقين.. فبالنسبة للسائح القادم من ساحة باب توما الأثرية ما عليه إلا أن يأخذ الطريق المتجه لحارة القشلة، وفي بدايته ينعطف يسارا ولمسافة 100 متر يواجهه مباشرة حمام البكري مقابل فندق بيت المملوكة.. ويمكن للسائح القادم من منطقة سوق الحميدية أن يصله عن طريق النوفرة ومن ثم حي القيمرية ليصل إليه بعد نحو ربع ساعة سيرا على الأقدام في الحارات الدمشقية القديمة.
وفي منطقة باب توما أيضا وفي بداية الشارع المتجه إلى باب السلام أحد أبواب دمشق الأثرية السبعة، يوجد حمام (الشيخ رسلان) في حارة الجوزة، وعمره يتجاوز 800 سنة.. ويتميز الحمام بالمحافظة على تراث الاستحمام مع إدخال خدمة الساونا والبخار إليه ليتلاءم مع العصر، وتبلغ مساحته نحو 700 متر مربع.
ولا بد من الإشارة أخيرا إلى أن معظم حمامات دمشق تستثمرها عائلات دمشقية اشتهرت من مئات السنين بتخصصها في هذا المجال، كما أن هناك عمالا في الحمام يتخصص كل واحد منهم بعمل معين، فهناك الناطور الذي يقدم الزبون ما يلزمه من مناشف وصابون وليفة، وهناك المكيس وهو عنصر مهم في الحمام وله فوائد صحية وعلاجية.
الشرق الأوسط