بشّار زرقان ملحنا ومغنيا “الجدارية”: جذبتني فكرة الموت في الحياة
من النص السياسي إلى الصوفية..
بيروت – رنا نجار: قلة هم الموسيقيون والمغنون العرب الذين يبحثون عن لغة اتصال بين السمع والبصر، ويُفتّشون في اللغة نفسها عن صوت الايقاع لتحويلها الى موسيقى. وقلة هم الذين ينجحون في رحلة البحث عن الطرب الأصيل والموروث العربي والتجديد فيه من دون تشويهه، ومن دون الوقوع في فخ المخاطر. فهي رحلة غالباً ما تفضي إلى نوع من المتحفية المجرّدة من حيوية الفن ومعناه الداخلي. لكن الفنان السوري بشار زرقان (1962) المتعدّد المواهب، كان حذراً جداً ونجح في ذلك. إذ له باع طويل في التمثيل والموسيقى والغناء ودراسة “مسرح الصوت”.
يعرف صاحب الألحان الانسيابية الحرّة الذي يولي التفاصيل والتنميقات عناية خاصة، ماذا يريد تحديداً من قصائد لرموز الصوفية مثل الحلاج ورابعة العدوية وعمر ابن الفارض، ورموز الشعر الحديث مثل بدر شاكر السياب وطاهر رياض ومحمود درويش. يعرف ماذا يختار وماذا يُلحّن ويُغني منها، وما معنى اختيار مثل هذه الأسماء، ومثل هذه الكلمات العميقة. ألحانه البديعة المفعمة بالعشق وروح الصوفية الحديثة، طالعة من عمق الإحساس بالموسيقى والشعر معاً. وهي في آن شديدة الإتقان، ومشغولة بوعي ومعرفة، ومتأثرة بالتراث. وصوت زرقان البهيّ والساحر الشرقي بامتياز، يحمل في ثناياه أعمق الآهات وأجمل التعرّجات. ويُحيي زرقان التراث العربي العريق، محافظاً على أصالته ومطوّراً إياه، ليقدمه بقالب حديث معاصر قادر على محافظة الأذواق الراهنة والعصرية.
موقع “الرأي نيوز” التقى بشار في بيروت محلّ إقامته، بعد توقيعه أسطوانته الجديدة “مغناة جدارية”، في دارة زرقان في دمشق الأسبوع الماضي، بدعم من غاليري أيام السورية. وهي أسطوانة تضمّ فقط معظم مقاطع قصيدة “الجدارية” الطويلة لمحمود درويش، في أغنية واحدة.
لحّن زرقان الجدراية على مرحلتين، الأولى قبل العام 2001 حيث قُدمت بحضور درويش نفسه في افتتاح مهرجان جرش في الأردن، وأبدى إعجابه بها مباشرة على الهواء في ليلة الافتتاح. وإبان صعود الشاعر الى فلكه الأخير أكمل زرقان تلحين بعضاً من مقاطع الجدارية المختارة سابقاً، وقدّمت على مسرح قصر الثقافة في البحرين أخيراً.
حملنا في “الجدارية” الموت النابض بالحياة
نكتشف في “الجدارية” التي قال له درويش أنها طويلة وصعبة عندما طلب الإذن منه لتلحينها، صوت زرقان الصافي والنقي والنابض بالحياة حتى عندما يتحدث عن الموت والحياة الآخرة. صوت لا يحتاج في أحيان الى الموسيقى نظراً الى قوته ولطافته، ويذكر بنفحة تشبه أصوات الزمن الجميل خصوصاً صوت المصري محمد رشدي. وما يزيد أداء زرقان عذوبةً، اتقانه لمخارج الحروف المضبوطة لديه تماماً، إضافة الى أن نفسه يهب من الأعماق وليس فقط من الحنجرة.
هكذا يُضفي زرقان على هذه القصيدة الفلسفية الوجودية، لمساته الموسيقية الدقيقة والمتقنة المرافقة بالصوت الدافئ، وبالأداء المشبع بالاتقان والارتجال والانسياب والاحساس المرهف. تارة يعلو بنا الى السماء حيث يحمل الشاعر جناح حمامة بيضاء، ثم يعود بنا الى صوت الطفولة، ثم الى مساءلة الملاك، ثم ينزل بنا الى الدنيا. ثم ينقلنا الى نبرة التحدي مع “سأصير يوماً ما أريد”، وهكذا يصعد وينزل ويقف بنا أحياناً على خط واحد متوازٍ بين الموت والحياة، لدرجة يشعر فيها المستمع أنه محمول على غيمة بيضاء تتأرجح هناك في عالم الغيب.
يرفض زرقان أن يكون اختار القصيدة هذه أو أي قصيدة من أشعار درويش للبحث عن التميّز والشهرة على حساب شاعر فلسطين. “اخترتها لأنها طويلة وأنا أعشق القصيدة الطويلة. وهي منحتني زخماً موسيقياً رهيباً، ونغماً مختلفاً في كل مرحلة من معايشتي لها”، يقول. ويلفت الى أن في “الجدارية” جذبته فكرة الموت في الحياة. “أردت أن أقرأ موته في حياته من خلال شعره وتحويله الى موسيقى وغناء”.
القصيدة تجرّني الى اللحن
ارتبط اسمه في الثمانينات بالأغنية السياسية التي كانت رائجة آنذاك، مع أنه لم يكن أكمل دراسته المدرسية بعد، وليس له بالموسيقى أكاديمياً. كان يعزف العود ويتمتع بصوت جيد. وعمل لسنوات مع أحمد فؤاد نجم، ومثّل ولحّن وكتب أغنيات لمسرحيات مثل “لكع بن لكع” لإميل حبيبي. “كنت أبحث عن الكلمة التي كانت حاضرة في الخطاب السياسي المرتبط بتلك المرحلة وأهمها القضية الفلسطينية. وعندما وجدت أن أفق النص السياسي مسدود وضيّق، ولا يُلبي حاجاتي ولا حاجات المرحلة، انتقلت الى تجارب أخرى”، يقول زرقان. ويضيف: “النص الذي يساوي اللغة والكلمة ذات الايقاع الموسيقي، هو محور مشروعي الفني. فالقصيدة هي التي تجرّني الى اللحن. والموسيقى هي الحبل الذي يجرّ القصيدة، وهي التي تُظهر جماليات تفاصيل اللغة”.
سافر الى باريس باحثاً عن هذه التجارب المختلفة في “استوديو بيغماليون” حيث درس “مسرح الصوت” أو “Theatre Vocal” باحثاً عن صدى الصوت في الحركة. هناك “فهمت معنى مدى أهمية أن يكون الصوت حاضراً غيابياً في غيابه. واكتشفت ماهية الصوت، وعمق الكلمة، لأبحث ما وراء هذه الكلمة. لذا لا تجدون في موسيقتي مذهب ثم كوبليه. بل هي موسيقى مبنية على مناخ الكلمة”.
أنسَن النص الصوفي وحرّره
لطالما ارتبط اسم زرقان بالقصائد الصوفية وصُنّفت موسيقاه على أنها صوفية محض. لكن أين يُصنّف هو موسيقاه وما علاقته بالشعر الصوفي الذي يطغى على أعماله؟ يوضح زرقان أن “موسيقتي ليست صوفية. النقاد والناس هم مَن أطلق عليها ذلك. أغنياتي وألحاني شرقية معاصرة مفتوحة، من الحلاج الى محمود درويش”. ويشير الى أن تعلّقه بالشعر الصوفي يعود الى طفولته التي قضاها في حي باب السلام في دمشق القديمة حيث “كانت تشدّني أصوات الدفوف وطقوس الحضرة ورائحة البخور. وكان لدي رغبة في معرفة سرّ هذا الصوت والشكل وما ورائياته. وهو السؤال الذي جعلني أبحث حتى الآن عن ماهية الغناء في الحياة والمسرح”. كل ذلك أثّر بنفس زرقان وذائقته الفنية، بالتوازي مع ثقافته الموسيقية العربية بدءً من الشيخ عبدو الحمولي الى محمد عبد الوهاب وموسيقيي القرن العشرين، محاولاً الغرف من الموروث الشعبي في بلاد الشام والعراق ومصر، من دون أن يقع في فخّ التقليد أو النسخ. “أردت أن أتحرّر من هذا القيد وأن أُؤنسِن النص الصوفي وأدرجه على خريطة الاستماع بجانب الشعر الحديث”، يقول. ويفيد بأن “فلسفة العشق تستحقّ أن تكون بين الناس وليس بين العاشق (الانسان) والمعشوق (الله) فقط. من هنا كانت الموسيقى بحثاً عن لغة متمرّدة لتنقل العشق الصوفي الى آذان الناس والى العشاق العاديين”.
لكن كيف يخرج زرقان من التراث الى المعاصر من دون التشويه؟ “لم أجدّد بالتراث الموسيقي ولم أعتمده مادة أساسية، بل أعمالي أتت نتيجة كل ما سبق وغرفنا منه كمستمعين وفنانين. فأنا كأي رسام أرسم لوحة مميزة قماشها تراثي عتيق، وخيوطها حديثة وملوّنة، لصياغة أو خياطة شكل جديد”، يفيد زرقان. ويعترف بأنه عندما يلوّن مقطوعاته التي يأخذ من اللغة فيها صوت الإيقاع ويحوله الى موسيقى، لا يُفكّر بالمتلقي. “هناك نص يجذبني وأحاول ايصال جمالية الموسيقى في اللغة”، يوضح زرقان. ويؤكد أنه ليس فناناً نخبوياً، وأن أعماله متوجهة الى كل من يريد سماعها.
تتألف موسيقى زرقان من التخت الشرقي وبعض الآلات الغربية مثل البيانو والتشيلو والكلارينت. لكن النغم (Melody) لديه “ليس من مذهب الكوبليه. بل هو سرد حقيقي لإيقاع نص شعري حديث أو قديم. ويتبلور ذلك في قصيدة “حلاج الوقت” للشاعر طاهر رياض، إذ أقدّم في هذه الأغنية مشروعي الغنائي”. ويقول زرقان أن مشروعه هذا “يرتبط بمحيط اجتماعي سياسي عاطفي فني. وأسعى أن أترك من خلاله بصمة ما، وأن أصرّح برأيي بأن الموسيقى التجارية والاستعراضية الطاغية ليست موسيقى”.
الفنان يحتاج الى دعم
قليلة هي إصدارات زرقان الموسيقية، ومتباعدة في الوقت. ففي العام 1986 أصدر “في البال” أول أسطوانة له مع أحمد فؤاد نجم وأخيه أيمن زرقان، ثم في 1999 أصدر “طير لا تطير” الذي أسّس لأسلوب خاص به خصوصاً مع اختياره قصائد للسياب ودرويش ورياض، والشريف الرضي وعمر بن الفارض ورابعة العدوية والحلاج. ثم أصدر “حالي أنت”، و”مغناة جدارية”. ولكن هذا الفنان الذي قدّم حفلات في أهم المسارح الأوروبية والعربية من فرنسا الى سويسرا وألمانيا وبلجيكا، الى لندن والمغرب وتونس والأردن، وصفّقت له آلاف الأيادي بحماسة وانبهار، لماذا يُهمّش في سورية وغير معروف في غالبية الدول العربية؟ يعتبر زرقان أن الفنان مهما كان قديراً وموهوباً، يحتاج الى فريق عمل يدفعه ويدعمه ويُسوّق أعماله ويُقدّمه بالطريقة الصحيحة اللائقة بفنّه. و”هذه الأعباء لا يمكن أن يتحمّلها شخص بل مؤسسات ثقافية خاصة أو حكومية تدعم الانتاج الفني الجيّد” يلفت، مشيراً الى أن في أوروبا نظام استراتيجي للفن عامة يعمل بطريقة صحيحة على تسويق الفنان وتقديمه الى جمهوره الخاص”. ويعود الى أن السبب الرئيس لعدم شهرته في بلادنا، أنه لا يُقدّم فيها حفلات، كما أنه لا يرضى بإحياء أي حفلة يُقدّم فيها “من الأبواب الخلفية”، ولا يُحترم كمبدع وإنسان. كما يعتب زرقان على المسؤولين عن الحراك الثقافي في العالم العربي، كونهم لا يبحثون عن التنوّع والجديد والقيّم بشكل كاف. وهنا “تُدعم مشاريع وأعمال ضمن الكادر الذي يفهمونه هؤلاء المسؤولين ويعرفون معطياته وحدوده”.
لكن زرقان الذي وصل الى هنا لن يتراجع، ومصرّ على الاستمرار إذ كتب مسرحية اجتماعية ناقدة وساخرة بعنوان “دكان الأغاني – أبو سعدو”، ويُحضّر لعرضها في 2010 منتظراً التمويل اللازم من مؤسسات عدة. وتتناول المسرحية المجتمع السوري وتتحدث عن الطاقات التي ينضح فيها البلد، وأحلام الشباب والناس التي لا تلقى دعماً لتتحقّق. ويتخلّل المسرحية أغان كتبها زرقان ولحّنها.
الراي