يحدثونك عن الحياد: انحياز صحفي بالفطرة!
عمار سليمان علي
تتبارى الصحف والمجلات ووسائل الإعلام بمختلف أنواعها وأشكالها ونماذجها ومرجعياتها وولاءاتها في رفع شعارات براقة مثل المهنية والحرفية والمصداقية، وحرية الرأي، والرأي والرأي الآخر، والحياد الصحفي، وتجتهد تلك الوسائل بكل ما أوتيت من قوّة، بل قل تستميت، لكي تنفي عن نفسها بالدرجة الأولى صفة الانحياز. ولكنّ الكثير من الناس عموماً ومن الخبراء والمهتمّين خصوصاً ينظرون إلى تلك الشعارات كمجرّد شعارات نظرية غير قابلة للتطبيق والتنفيذ على أرض الواقع لأسباب عديدة لا مجال للتوسّع فيها هنا، ولكنّ أهمّها يبقى على كلّ حال تحكّم المال (مال المالكين والمموّلين والمعلنين و.. و..). وربما تفسر تلك الأسباب ظاهرة الانحياز الصحفي والإعلامي المرتبط بالمصلحة والموجود بدرجات متفاوتة في صحف ووسائل إعلامية تهتم بالقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل وحتى بالقضايا الرياضية والثقافية، حيث يكون الانحياز لمصلحة طرف أو ضدّ مصلحة طرف أو لتشويه سمعة طرف أو للتعتيم على أخبار طرف أو … أو … الخ.
فالانحياز بسبب المصالح أمر مفهوم تماماً وإن كان غير مبرّر أخلاقياً وإنسانياً ومهنياً، لكنّ الأمر الذي لا يمكن فهمه على الإطلاق هو أن يكون ثمّة انحياز في مجلات علمية وطبية يفترض بها أن تكون أكاديمية ومنهجية ودقيقة وبالغة الرصانة والاتزان. والأمر الأكثر غرابة هو وجود نوع من الانحياز المبنيّ على أسس فطرية. وأحد الأمثلة الساطعة على هذا الانحياز الصحفيّ بالفطرة ـ في المجالين العلمي والطبيّ ـ هو الميل إلى نشر كل جديد حتّى ولو كان سيئاً. فإذا كنا كبشر مفطورين على حبّ الجديد والتعلّق بالجِدّة التي تنجح دائماً أو غالباً في أن تخطف اهتمامنا وربّما في أن تخلب عقولنا، فهل هذا يعني أن العلاجات الجديدة والأجهزة والأدوات الجديدة والنظريات والأفكار الجديدة ذات حقّ مقدّس في أن تحتلّ دوماً صدر الصحف والمجلات العلمية والطبية، بغضّ النظر عن قيمتها النوعية؟ ألا يجدر بالنوعية هنا في هذا المقام أن تتفوّق على الجِدّة؟ خصوصاً وأنّ الأطباء والمرضى يعتمدون تلك الصحف والمجلات للحصول على معلومات وأبحاث ذات قيمة، أو يفترضون أنها ذات قيمة!. وممّا يزيد الطين بلّة والمريض علّة أنّ تلك الصحف والمجلات، أو بالتحديد من يقومون بمراجعة الموادّ والمقالات المعدة للنشر فيها يبدون ميلاً قوياً للدراسات والأبحاث ذات النتائج الإيجابية.
وللتدليل على صحّة ما نقول بخصوص الانحياز للجِدّة وللنتائج الإيجابية، نستشهد بدراسة حديثة جداً حول الموضوع قام بها طبيب أمريكيّ يدعى سيث ليوبولد Seth Leopold وهو رئيس قسم جراحة العظام في جامعة مركز واشنطن الطبّي في سياتل، وقد عرض نتائج دراسته التي وصفت بالقنبلة داخل أروقة مؤتمر حول المراجعة المزدوجة في الصحف والمجلات، عقد في مدينة ڤانكوفر الكندية في أيلول / سبتمبر 2009، وأظهرت تلك النتائج بشكل واضح أنّ الأفراد الذين يكلفون بإجراء المراجعة المزدوجة لصالح الصحف والمجلات يبدون ميلاً وتفضيلاً قويّين للدراسات والأبحاث الجديدة ذات النتائج الإيجابية. وكان واضحاً القدر الكبير من الهمس والهمز والهمهمة والغمغمة الذي سبّبته قنبلة ليوبولد في كلّ مكان في قاعة المؤتمر الذي عقد أصلاً بهدف تقديم أفضل ما يمكن من أجل توضيح ما يحدث في المراجعة المزدوجة وكشف مضامين أي انحياز يمكن أن يتسلل إليها. ويبدو أن ليوبولد كان مستعداً لردة الفعل هذه على معلوماته الجديدة، لأن نمط الانحياز الضمني الذي اكتشفه يهدد بقوة بإضعاف مصداقية “الطب المرتكز على الشواهد والبينات”.
وتختصر دراسة ليوبولد والفريق الذي ساعده في أنهم طلبوا من أكثر من مائتي مراجع مزدوج مدرَّبين أن يقيّموا مخطوطات مفبركة أعدت خصيصاً لهذا الغرض، وأن يقرّروا إذا كانت تستحقّ النشر أو لا، فكانت النتيجة أنّ أكثرهم فضلوا بقوّة الأبحاث ذات النتائج الإيجابية، كما أنهم قيّموا فقرة الطرائق في تلك الأبحاث على أنها الأفضل، مع العلم أنها كانت نسخة طبق الأصل من فقرة الطرائق في الأبحاث ذات النتائج الملتبسة أو غير القاطعة. وفوق ذلك كله قام ليوبولد وفريقه بتعمّد وضع خمسة أخطاء من النوع الدقيق الذي يستلزم قراءة حذرة ومراجعاً مدرّباً للعثور عليها، حيث أدرجوها في نفس المواضع من الأبحاث ذات النتائج الإيجابية وذات النتائج الملتبسة، ولكنّ المراجعين أغفلوها بشكل عامّ في الأبحاث الإيجابية بشكل أكبر مما فعلوا في الأبحاث الملتبسة.
وقد قال ليوبولد في المؤتمر المذكور أثناء عرضه لدراسته:”النتائج مثيرة للقلق، لأنه إذا كانت التجارب الإيجابية مفضّلة للنشر، فإنّ الأطباء سوف يكوّنون انطباعاً منحازاً جداً حول قيمة المعالجة. وسوف تبدو المعالجات الجديدة كأنها أكثر فعالية مما يستخدمونه حالياً. أعتقد أن الصحف والمجلات ومراجعيها يعرفون ذلك. وهذا هو سبب كون الصحف والمجلات النوعية تلتزم أو تتعهد بنشر الدراسات السلبية و/أو الملتبسة. ومن المعروف أن العديد من الأطباء ومحللي الأبحاث الدوائية الحيوية قد شككوا لوقت طويل في أن الصحف والمجلات تفضل أن تنشر الأبحاث ذات التجارب الإيجابية. ولكن السؤال الدائم كان : كيف يمكن أن نختبر ذلك؟.”
من هنا يروي ليوبولد كيف قرّر وفريقه مقارنة تقييمات مراجعين لمخطوطات مفبركة ومتطابقة فعلياً في جميع التفاصيل، في محاولة منهم لسبر ما إذا كانت التجارب غير الإيجابية قد حظيت في الواقع باعتراف ما. ولكي يعززوا مستوى اللعب ـ إذا جاز التعبير ـ اختاروا تجربة تتساوى فيها احتمالات النتائج الإيجابية والسلبية كما تتساوى تأثيراتهما على العناية بالمرضى.
قام الفريق إذن على الورق بتجربة وهمية لاستقصاء دور أنظمة الصادّات الحيوية المختلفة في منع الإنتانات بعد عمليات استبدال مفصل أو جراحة فقرية. أعطيت ـ افتراضياً ـ قبل الجراحة جرعة من الصادّات الحيوية لجميع المرضى. تلقى نصفهم كذلك بعد الجراحة معالجة تم اختيارها بشكل عشوائي بالصادات الحيوية لمدة 24 ساعة. وقد تعمد الفريق أن يختار هذه التجربة الوهمية التي لا بدّ أن تثير نتائجها الكثير من الاهتمام، لأن القضية بالأساس هي موضع جدل مزمن بين الأطباء.
أنجز الفريق كتابة نسختين من المخطوط لوصف التجربة. أظهرت المعلومات المفبركة في إحداهما وجود فائدة من واحدة من المعالجات، أما في الثانية فلم تتفوق أية معالجة على الأخريات بشكل واضح. وما خلا هاتين النتيجتين كانت المقالتان متطابقتين.
بعد ذلك أرسل فريق ليوبولد المخطوطين إلى أطباء موجودين على قائمة المراجعين المتطوعين لمطبوعتين أمريكيتين رئيسيتين مختصتين بجراحة العظام وما يتعلق بها (الأولى تسمى The Journal of Bone and Joint Surgery والثانية Clinical Orthopaedics and Related Research)، مع الإشارة هنا إلى أن ليبولد ـ من بين المراكز العديدة التي يتولاها ـ هو أحد المحررين المشاركين في المطبوعة الأولى. كما تجدر الإشارة إلى أنه تم إشعار المراجعين بأنّ اختباراً ما ربّما يجرى عليهم في وقت ما من السنة، ومنحوا كامل الحقّ في عدم المشاركة فيه، ولكن عندما انتهى اختبار المخطوطات، لم يتم إعلام المراجعين بأنها مفبركة. وبالنتيجة فإن 98 بالمائة من بين خمسة وخمسين مراجعاً في المجلة الأولى قرؤوا المخطوطة ذات الحصيلة الإيجابية، أوصوا المجلة بالنشر. بينما 71 بالمائة فقط من المراجعين الذين حصلوا على المقالة الأخرى غير المختلفة قيّموها بأنها جاهزة للنشر. وعلى ذات الشاكلة في المجلة الثانية أوصى 97 بالمائة بنشر النسخة الإيجابية، بينما أوصى 90 بالمائة بنشر المقالة غير المختلفة.
ويرى ليوبولد أن ما يقلق بشكل خاصّ هو أنه حتى إذا لم يكن المراجع قد فكر بأنّ المقالة غير المختلفة ليست مفيدة بما يكفي لكي تنشر، فهذا سوف لن يغير شيئاً في الكيفية التي صنف بها المراجعون فقرة الطرائق في المقالات. أو لماذا كان مراجعو هذه النسخة من المخطوط أكثر قدرة بمرتين على الأقل على التقاط واحد أو أكثر من أخطائها المخبأة.
على أن المسائل لا تقف على ما يبدو عند حدود الانحياز الفطري للجِدّة وللنتائج الإيجابية، بل تتجاوزه إلى انحياز من نوع آخر تحدث عنه في ذات المؤتمر السابق الدانمركي بوڤل رييس Povl Riis رئيس التحرير السابق للمجلة الطبية الدانمركية، حيث ذكر أنه اكتشف انحيازاً فطرياً من نوع آخر في دراسة شارك فيها منذ حوالي عشرين عاماً. وفي تلك الدراسة أعد الفريق نسختين من مقالة ـ واحدة باللغة الانكليزية، والأخرى باللغة الأصلية للمراجع (دانمركية أو سويدية أو نرويجية). وحصل المراجعون على واحدة من النسختين المتشابهتين في كل شيء ماعدا اللغة. وفي النتيجة حصلت النسخة الانكليزية على موافقة عدد أكبر من المراجعين وتفوقت على النسخة المكتوبة باللغة الأصلية. أما الأخطاء الإحصائية والأخطاء الأخرى الثانوية التي نثرها رييس في ثنايا المقالتين، فقد أغفلت أو تم التغاضي عنها في النسخة الانكليزية بشكل أكبر بكثير مما حدث مع النسخة الشبيهة المكتوبة باللغة الأصلية.
وبعد كل ذلك الانحياز الفطري واللغوي وسواه… يحدثونك عن الحياد!.