صفحات أخرى

ملحق النهار الثقافي: ثقافة الحياة الآن، الواقع أم صورُهُ الافتراضية؟

هل من ثقافة جديدة، اليوم، مختلفة عن الثقافة وفق مفهومها التاريخي المتداول والمتفق عليه؟
المتغيرات العميقة التي لا تزال تواصل تثبيت أركانها في حياتنا المعاصرة منذ الحوار الأول عام 1969 بين كومبيوترين موجودين في مكانين مختلفين، قلبت المفاهيم “الكلاسيكية” السائدة منذ قرون وأجيال، مثلما قلبت وسائط تعبيرها، وأدواتها، رأساً على عقب. وها هي اليوم، في رأي معتنقيها، تخلق قادتها وفلاسفتها ومنظّريها ومهندسيها وفنّانيها وأدباءها وإعلامييها وسياسييها، الواقعيين والافتراضيين. مثلما تخلق مفاتيحها وقيمها وأمزجتها وقوانينها وتقاليدها، وتصنع لنفسها أبطالاً وجماهير ومريدين.
لقد اهتزّت المراجع الفكرية التي كانت تقوم عليها مفاهيمنا التاريخية، ولم تعد “مصادرنا” هي الأفكار الفلسفية والعلمية التي أرسى مرتكزاتها فلاسفة القرون الثلاثة الأخيرة، وعلماؤها ومفكّروها، ولا حتى منهم، ربما، هؤلاء الذين لا يزالون يواصلون الجدل والمناقشة حتى اللحظة الراهنة.
هذا ما يعلنه روّاد العيش الجديد، معتبرين أن ما يطاول الفلسفة والفكر، يطاول في الحين نفسه، العلوم في أنواعها الشتّى، والمعايير، واللغة، ووسائل الاتصال والتواصل بين البشر، والبزنس، والحب، والجنس، والجامعات، والفنون البصرية، والرقمية، والسينما، والعمارة، والآداب، والألعاب، ووسائل الإعلام، والديموقراطية، والحرية، والسياسة. وهلمّ.
بل هذا ما تنبئنا به وقائع العيش نفسه. وهذا ما يمارسه “الفرسان”، أبناء الأجيال الجديدة، في مستويات وتجليات مختلفة.
إذا كان بعضنا يغامر في القول إن هناك حياةً جديدة، مغايرة، مختلفة، مضادة، موازية، متوازية، انقلابية أو بديلة، تعاش في عالم الانترنت المغاير، أفلا نستطيع القول إن هناك، في ضوء المصائر والأحوال المتغيرة، ثقافة جديدة، واقعية – افتراضية، تمدّ قنواتها في جسم الحياة الجديدة، وفي عقلها؟ تالياً: إذا كان “حقيقياً” كلّ هذا الذي يجري ويُعاش، فكيف يتجلّى في الثقافة نفسها؟
هذا هو السؤال الذي يطرحه هذا العدد السنوي الخاص من “الملحق”.
تناقش السؤالَ، وتلقي الضوءَ على إشكالياته، مجموعةٌ من الزملاء والكتّاب والمثقفين المختصين مباشرةً بتبدلات العيش الراهن ومفاهيمه الفكرية.
ثقافة الحياة الآن، هل هي الواقع نفسه أم صورُهُ الافتراضية؟

الأطفال لا يحبّون الجنّة، يفضّلون الجحيم
لو افترضنا أننا نعيش بدل الحياة الواحدة حيوات، وأننا بعد الموت ننبعث مرات ومرات من دون أن نبلغ العدم أو ربما الحياة الأبدية. لو افترضنا أننا نستطيع أن نحكم العالم بكبسة زر وأن نتملّك أراضي وبنايات وأن نشغل وظائف تجعلنا من أغنى أغنياء العالم، ولو افترضنا أننا نحن الخصم والحكم، في يدنا أن نختار قدرنا وأن نغيّره بحسب مشيئتنا…
فرضيات. جميعها فرضيات كان العقل البشري قبل اختراع ألعاب الفيديو، يجسّدها على شاكلة تخيلات وهمية إلى أن تجسّدت مرئياً على الشاشات بأبعادٍ ثنائية وثلاثية. بات الأمر يتخطّى الخيال الإنساني اللامرئي ليتجسّد في عوالم افتراضية متعددة تطاول جوانب الحياة كلها.
بدأت هذه العوالم الإفتراضية المرئية بالظهور في عام 1947 عندما اخترع البروفسور الأميركي توماس غولد سميث الإبن، أول لعبة فيديو سمّاها “أداة أنبوب الأشعة المهبطية المسلية”. كان الزمن وقتذاك زمن الألعاب المصنوعة يدوياً التي يشهد علم النفس بأهميتها في تحفيز الخيال عند الأطفال ما يجعلهم خلاّقين، على اعتبار أنهم يخترعون لعبهم وينفّذونها بمهاراتهم الشخصية. في ذلك الوقت كان الأطفال هم الذين يخترعون عالمهم الإفتراضي ويخترعون أصدقاءهم الوهميين ويحددون ملامحهم، كلٌّ بحسب مخيّلته.
الآلة تتحكم بالطفل لا العكس
بعد سنوات عدة، وفي عام 1972، أُطلقت أول لعبة فيديو لغرض تجاري تحت اسم “كومبيوتر سبايس”، فكان أول جهاز ألعاب فيديو يتصل بالتلفزيون لعرض الصور. بعدذاك تكاثرت الألعاب الإلكترونية بسرعة، فأفقدت الألعاب البدائية مكانتها، ورويداً رويداً حلّ العالم الإفتراضي الإلكتروني الذي يتفاعل فيه الطفل مع أبطال لعبة الفيديو مكان العالم الإفتراضي الخيالي اللامرئي الذي يخترعه الطفل، إلى أن أصبح عسيراً فصل الواقع الإفتراضي عن الواقع الحقيقي في حياة الأطفال اليومية، فصارت الشركات الكبرى المصنّعة للألعاب الإلكترونية هي التي تضع قيم العالم الإفتراضي بعدما كان الطفل هو صانع عالمه. غابت خصوصية الخيال عند الأطفال فتشاركوا بعالم افتراضي واحد ترسمه الدولة المنتجة للعبة الإلكترونية الأكثر جذباً للجمهور. غابت خصوصية الخيال لأنه بات مطابقاً إلى حد كبير للواقع. كانت الألعاب الإلكترونية عالماً في ذاته، لا يشبه الواقع ولا يشبه الخيال حتى. لنا أن نتذكر لعبة “النينتاندو” مثلاً. لعبة بسيطة، الشخصيات فيها غير واقعية وغير خيالية أيضاً. شخصيات بسيطة بأقل من خيال يمكن ابتكارها. فلويجي وماريو، بطلا اللعبة الشهيرة، كانا شخصيتين أقل من عاديتين. وظائفهما بسيطة جداً. يتحركان ويقفزان. وهذا كان كفيلاً تمكينهما من تفادي الحواجز. الجيل الجديد من الألعاب يقترح معادلة أكثر تعقيداً: الخيال هو أن نرتقي إلى الواقعية ما استطعنا. فألعاب سلالة “النينتاندو” أوصلت إلى الـ”بلاي ستايشن”، التي وضعت الحياة في مجالات مختلفة في آلات تحكّم موصولة إلى اللعبة في يد الأطفال. كنا نسمّيها “مسكة”، أي أننا من خلالها نمسك بالشخصيات ونحرّكها على سجيتنا. وكان ذلك مبعث فرح طبعاً، لأن إحكام القبضة على الشخصيات يُشعر الطفل بسلطة استثنائية. في ألعاب اليوم، باتت السلطة في يد اللعبة، أي انتقلت “المسكة” إلى يد اللعبة، لتتحكم هي بالطفل. وبهذا، فقد الطفلُ السلطة.
“الكارثة” هذه، أي فقدان الطفل السلطة، جعلته عموماً، يفقد السيطرة. لهذا، انترنتياً، نجد الكثير من الأطفال فاقدي السيطرة، يهيمون في الألعاب الكثيرة التي تتحكم بهم، وتجعلهم عرضة لأمراض نفسية وجسمانية.
تصاعدت الأصوات المحذِّرة من خطر هذه الألعاب الإفتراضية الإلكترونية على الأطفال، نفسياً وصحياً. فقال خبراء الصحة إن تعوّد الأطفال على هذه الألعاب قد يعرّضهم إلى أخطار إصابات في الرقبة والظهر والأطراف، وإن الوميض المتقطع بسبب المستويات العالية والمتباينة من الإضاءة فيها قد يتسبب في حدوث نوبات صرع، ووصل الأمر ببعضهم إلى المطالبة بضرورة كتابة تحذيرات عليها، من مثل التحذيرات المكتوبة على علب السجائر.
أما علماء النفس فقالوا إنها تشجع على الانحرافات السلوكية الخطيرة التي قد يكتسبها الطفل، كالعنف والعدوانية والتفتح المبكر على الجنس والميل إلى الإنزواء والإنطوائية، وأحياناً العزلة التامة. كما أنها تخفف من الذكاء وتقلل من الخلق وخصوصاً أن الأطفال يدمنون هذا العالم الإفتراضي ويمضون معظم وقتهم فيه، فيستيقظون في الليل للتحقق من شخصياتهم الإفتراضية والإطمئنان اليها، وأحياناً يهربون من المدرسة ويقصدون أماكن تمكّنهم من الإتصال بعالمهم الإفتراضي. دفع هذا الإدمان الدكتور كليفورد هيل، المشرف العلمي في اللجنة البرلمانية البريطانية لتقصي مشكلة الألعاب الإلكترونية في بريطانيا إلى القول: “لقد اغتُصبت براءة أطفالنا أمام أعيننا وبمساعدتنا بل وبأموالنا أيضاً. وحتى لو صودرت جميع هذه الأشرطة فإن الأمر سيكون متأخراً للغاية في منع نموّ جيل يمارس أشد أنواع العنف تطرفاً في التاريخ المعاصر”.
غياب البراءة
مع غياب البراءة، بات كل شيء مباحاً ومتوقعاً من الأطفال. فغريزة “الجريمة” التي تسكن كل طفل، تجد تصريفها في الألعاب التي تجري غالباً في شوارع وأحياء ومدن افتراضية، تعمّها الفوضى والسرقات والقتل والإغتصاب. يمكن الطفل أن يفعل كل ما يريد في بعض الألعاب الإفتراضية. يمكن أن يضرب ويقتل ويمزّق ويحرق ويفجّر. يمكن أن يحتل ويسرق ويغتصب. له أن يفعل ما يريد. أن يطلق النار، أن يكون شريراً أو خيِّراً، لصاً أو شرطياً، جلاّداً أو ضحية. بكبسة زرّ يختار ما يريد. في الشوارع الإفتراضية يهيم، يبحث عن ضحاياه، يبحث عن نفسه، عن امه وأبيه. يحدث أحياناً أن يقتلهما عمداً في لعبة ما. يُنزلهما من السيارة، ويطلق عليهما النار. ثم يحييهما من جديد. ويعيد قتلهما في محلّ للمجوهرات، ثم يحييهما ويقتلهما في المقهى، وهكذا دوليك. هو مفهوم العقاب المتعاقب والمتكرر الذي يقول به الله في الجحيم. تتيح الألعاب ابتكار الجحيم التي نريد، أما الجنّة فليس لها روّاد كثر. غالباً تبدو في الألعاب كمعرض للرسم، رتيب ومضجر. الأطفال لا يحبّون الجنّة، في الغالب الأعمّ، يفضّلون الجحيم!
مع ذلك، فقد لاقى العالم الإفتراضي الإلكتروني رواجاً جعله أمراً واقعاً لا مفرّ منه، فلانت أصوات علماء النفس الذين عادوا ورأوا في هذه العوالم بعض الإيجابيات قائلين إنها أداة مفيدة لمساعدة الاطفال في التمرن على ما يتعلّمونه في الحياة الفعلية. على اعتبار أن العالم الإفتراضي تفاعلي يتعلم الأطفال من خلاله الكثير من جوانب الحياة الفردية والإجتماعية من دون خشية التعرض الى عواقب أفعالهم أو الخوف من الوقوع في الخطأ او العقاب، كما هي الحال في العالم الواقعي. وقد استغلّت دول كبرى هذه النظرية فوظّفت اختراعاتها لتدريب الصغار على مستقبل ترسمه لهم.
حروبٌ افتراضية الأطفالُ أحصنةُ طروادتها
هكذا بدأت حروب العالم الواقعي لتدريب الأطفال من خلال العالم الإفتراضي، فأطلقت الولايات المتحدة الأميركية لعبة غزت السوق العربية عن احتلال الجنود الأميركيين لعواصم عربية من بينها بيروت وبغداد، ردّ عليها “حزب الله” بإطلاق لعبة “القوة الخاصة” تحت شعار الممانعة، مروّجاً لها بأنها نصر على العدو الذي يحاول بث معتقداته من خلال ألعاب أميركية مضرّة نفذت إلى عقول الشباب والأطفال. المفارقة أن هذه اللعبة لا تختلف في مضمونها عن الألعاب الأميركية من حيث العنف الموجود فيها، فهي تعتمد على القتل وإسالة الدماء، لكن تحت راية المقاومة.
“مسلّحاً” بالنجاح الذي لاقته لعبته الأولى، طرح “حزب الله” في عام 2006 لعبة جديدة تروي حكاية “الوعد الصادق” مطلقاً عليها اسم “القوة الخاصة -2”. يقوم سيناريو اللعبة على عملية أسر الجنديين في 11 تموز 2006، وفيها يتمكن اللاعبون من إطلاق الصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية. واعتبر الحزب أن “من حق الطفل اللبناني أن يعرف ما حصل في الجنوب ليقوم بمحاكاة للفعل الجهادي ولفعل تحرير الارض” (في مقابلة مع مسؤول الانشطة الاعلامية في “حزب الله” الشيخ علي ضاهر لجريدة “الأخبار”). وافاد “حزب الله” في لعبته هذه من تقنية الأبعاد الثلاثية التي يقول عنها رائد الواقع الافتراضي الباحث جارون لانيار إنها “الأخطر لأنها الأفعل”، فالإدراك والمعرفة الانسانية مصممان للعمل على الأبعاد الثلاثية، ما يسهّل عمل العالم الإفتراضي الثلاثي البعد للتحكّم في العقول.
يعود تاريخ دخول تقنية الأبعاد الثلاثية إلى الألعاب الإلكترونية من طريق الإنترنت الى عام 1999 مع الأميركي فيليب روزدال الذي أسس شركة “ليندن لاب” بهدف تقديم خدمة جديدة لزوار الإنترنت. مع هذه التقنية تخطى جمهور العالم الإفتراضي الأطفال فجذب الناس من جميع الأعمار، الأمر الذي استغلّته الشركات الكبرى فجعلت من هذا العالم الإفتراضي ميدان اختبار ثلاثي البعد لأغراض التسوق، كما فعلت شركات “سوني بي إم جي ميوزيك إنترتايمنت”، و”صن مايكروسيستمس” و”نيسان” و”أديداس/ ريبوك” و”تويوتا” وفنادق “ستاروود”، وقامت الشبكات الإخبارية بدخول هذا العالم أيضاً، من مثل شبكتي “سي ان ان” و”رويترز.” وافادت الشركات من هذه الميزة الجديدة التى جذبت العديد من المستخدمين، فأطلقت عوالم افتراضية جديدة، كشركة “غوغل” التي أطلقت عالمها الافتراضي تحت اسم “لايفلي” “Lively”.
حياة ثانية
في عام 2003 أُطلق موقع “الحياة الثانية” “second Life” تحت شعار “العالم عالمك والخيال خيالك”. يملك زوار هذا الموقع الحقوق الفكرية لما يخلقونه، وبمجرد الدخول إلى “الحياة الثانية” ستجد الكثيرين من زوّاره يحاولون التعرف اليك، ويمكنك تكوين صداقات او الدخول في علاقات حب أو غيرها. وافاد بعض الباحثين من هذه البيئة فخلقوا شخصيات تعكسهم بأسمائهم الحقيقية، وتجوّلوا في هذا العالم الإفتراضي وقدّموا محاضرات وروّجوا كتبهم. وهذا ما فعله لاري ليسيغ الذي اتفق مع ما يقارب مئة شخصية افتراضية للتجمع في مكان افتراضي وتحدّث معهم عن كتابه الجديد “Free Culture” ووزّع نسخاً إلكترونية منه ووقّعها افتراضياً.
لو افترضنا أننا نستطيع أن نحيا حياة عادية. أن نسكن في منزل عادي، في قرية نائية، بعيدة من التكنولوجيا والعالم. لو افترضنا أننا نستطيع التواصل مع كائنات حقيقية من لحم ودم، ونلعب في الحقول. لو افترضنا أن علاقاتنا العاطفية يمكن أن تكون أكثر واقعية وأن القبلات ليست مجرد رسم لشفتين حمراوين، وأن الحب ليس مجرد رسم لقلب أحمر. لو افترضنا أن العالم الإفتراضي غير موجود، كيف كان عالمنا ليكون؟
لو… ¶
حنين الأحمر

برمــجـــة لـلــحــيــــاة ولـلأبــديـــة
تدور الروايات والافلام التي تستشرف مستقبل البشر على كوكب الارض حول موضوعين أساسين، الاول يتعلق بفناء الجنس البشري على يد آلات اخترعها ثم سيطرت على الكوكب الازرق، والثاني يدور حول اختراع البشر لعالم افتراضي يحتوي على كل تفاصيل حياتهم السابقة بعد انتهاء الحياة على كوكب الارض نتيجة لتغييرات كارثية في المناخ او لحروب طاحنة استخدمت فيها شتى أنواع الاسلحة الفتاكة.

من هذه السيناريوات لنا أن نتصور أن البشر تمكنوا من صناعة آلات لديها مشاعر انسانية وتمتلك عواطف، على أن تساعدهم في إنجاز الاعمال الصعبة وفي التفكير لتطوير حياتهم على كوكب الارض. كانت الآلات ذات الهيئة البشرية تعمل بالطاقة الشمسية، ثم مع تطور مجتمع الآلات وتطور ذكائها ومعرفتها أسرار الحياة البشرية، قررت الانقلاب على البشر واستعبادهم والسيطرة على كوكب الارض، فلم يجد البشر مفرا من تدمير الغلاف الجوي بواسطة أعاصير من غيوم رمادية تخفي الشمس كي لا تتمكن الالات من شحن طاقتها.
كانت تلك الخطوة الاولى في تدمير الحياة على الارض بواسطة البشر، او ربما هي الخطوة الثانية اذا افترضنا ان الخطوة الاولى كانت في اختراع هذه الالات. لكن إخفاء الشمس لم يمنع الآلات الذكية من إكمال حياتها على كوكب الارض، والطاقة التي تحتاجها باتت تحصل عليها من أجساد بشر تصنعهم بواسطة الاستنساخ. فالجسم البشري يوفّر يوميا طاقة كهربائية يمكنها من إضاءة لمبة في غرفة. هكذا سيطرت الآلات على البشر بأجسادهم. لكن البشر كانوا في سبيلهم الى الفناء بعدما خسروا الشمس مصدر الطاقة الاول الذي يمكنهم من البقاء على قيد الحياة. لكن مجموعة منهم تمكنت من النزول الى نقطة قريبة من نواة الارض حيث تتدفق الحرارة وبنوا مدينة فيها، ومنها انطلقوا الى مقاومة الآلات. ولم تحقق هذه المقاومة أي هدف في مواجهة آلات تمكنت من صناعة أجساد بشرية في ماكينات هي أشبه بأرحام النساء.
لكي تتمكن هذه الآلات التي تملك أشكالا بشرية من إكمال الحياة على سطح الارض الذي أصبح رمادا لا حياة فيه، اخترعت برنامج كومبيوتر يشبه حياة الارض القديمة بكل تفاصيلها. وبات البشر الذين يولدون في هذا البرنامج يعتقدون ان هذه هي الحياة الحقيقية، وكانت كذلك بالنسبة اليهم. فهم يتنفسون ويأكلون ويهرمون ويموتون في داخل البرنامج. كل ما نقوم به نحن البشر في هذه السنوات من القرن الحادي والعشرين كان يقوم به بشر البرنامج الكومبيوتري الذي برمجته الآلات. هؤلاء البشر في الداخل، يمتلكون عقائدهم الدينية ويرتدون ملابس بحسب الموضة ويقرأون الكتب الجديدة والقديمة ويزورون المتاحف ويشعلون حروبهم الخاصة، وينتظرون الحياة الآخرة. لكن الفرق الوحيد ان جماعة من البشر كانوا يعرفون ان الحياة في هذا البرنامج ليست حقيقية ويعرفون من يديرها. وكان سكان البرنامج، كلما تمكن بشري حقيقي من الدخول اليه ليبلّغهم بما يعيشون فيه ويبشّرهم بالعالم الآخر، يتهمونه بالجنون. وكانوا محقّين، فهو يخبرهم بأنهم غير حقيقيين وبأنه عليهم كي يصيروا حقيقيين أن يحاربوا فكرة عيشهم في ذاك البرنامج وينتفضوا على سلطة الآلات التي لا يعرفون بوجودها لأنها محض برمجة الكترونية. الرجال الآليون الذين كانوا يديرون البرنامج، كانوا يعرفون بوجود هؤلاء الدعاة فيحاربونهم ويقتلونهم. وهؤلاء لم يكفّوا عن النضال منتظرين مخلّصا أنبأتهم العرّافة بوجوده، وهو سيولد داخل البرنامج لكنه سيكتشف سريعا كذبته، وسيساعده عدد من البشر المحاربين في اكتشاف نفسه وقدراته المكنونة كي يخلّصهم مما هم فيه.
استشراف المستقبل؟ لِمَ لا!
حين ألقى رجال الآلات القبض على قائد المناضلين، حاولوا تحويله آلة عبر مسح كل ما يعرفه من دماغه واعادة أدلجته بما يجعله يقبل بالعيش داخل البرنامج. لكن لشدة عزيمته وتمسكه بمبادئه لم تتمكن الآلات من الدخول الى مفاتيح دماغه، فقال له أحد الرجال المبرمجين: “لماذا تريد ان تبقى بشريا، فأنتم البشر كالفيروسات، تتقاتلون لتجدوا مستقرا، ثم تستنزفون كل قدرات المكان، فتعودون الى التقاتل من أجل مكان آخر، حتى يفني بعضكم بعضا، بينما نؤمّن لكم في برنامجنا حياة سهلة وبسيطة نبرمجها بحسب الحاجة الى الاستقرار فيها”. لكن القائد لا يستسلم، والرجل “المنتظر” يتمكن بعد حرب طويلة مع برنامج الكومبيوتر من أن يدمره ويعيد سيطرة البشر الحقيقيين على الارض.
هذه باختصار القصة التي تطرح قضية العالم الافتراضي الذي ستنتجه التقنية المتطورة. الصورة الاولية، أن هذه التقنية المتطورة مستقبليا هي إبنة التطور التقني الحالي وثورة الاتصالات التي نعيش مراحلها الاولى في هذا العصر. بالطبع، لم يكن في إمكان كتّاب قصة الفيلم الشهير “ماتريكس” استشراف هذا المستقبل لولا اعتقادهم انه سيكون إبن هذا الحاضر، وأن ثورة الاتصالات التي نعيش في خضمّها اليوم ستكمل دورة تطورها حتى تصنع عالما بذاتها.
تريد القصص والافلام والنظريات التي تستشرف المستقبل أن يحمل البشر مسألة العالم الافتراضي على محمل الجد، على أساس ان العيش الافتراضي هو خيار وليس قدراً. فمن قال اننا في حياتنا التي نعتبرها حقيقية، لا نعيش في عالم افتراضي هو انعكاس لصورة عالم حقيقي آخر؟ يمكن كل فرد أن يعتقد أنه يعيش حياته الإفتراضية الخاصة في انتظار حياة حقيقية أخرى. أليس الوعد بالحياة الابدية بعد الموت تحويلاً لحياتنا هنا على الارض حياةً مفترضة، علينا ان نقوم فيها بمجموعة من المعاملات تخوّلنا الصعود الى الجنة او تهبط بنا الى أسفل الجحيم؟! هذه هي الفكرة الاولى التي يأتي منها “المخلّص”. فهو أولا وأخيرا محوّل الحياة الافتراضية حياةً حقيقية بسبب قدراته العظيمة التي يمتلكها. هذا شبيه ببرنامج الكومبيوتر، الذي يستطيع أن يعيد خلق العالم في داخل الشاشة على هوى الذي يعمل فيه.
عالم الشاشة ليس أكثر افتراضية من العالم الذي نسمّيه “حقيقياً”، أي الواقع خارج الشاشة. وهو عالم ليس مسطحاً على ما قد يوحي، بل هو عالم بعوالم كثيرة ومتداخلة ومتشابكة، يؤمّن في داخله كل وسائط التواصل بين البشر وبينهم وبين الافكار، وهذا التواصل يدخل في صلب الحياة الحقيقية. لذا قد يكون العالم المخلوق داخل شاشة الكومبيوتر بالنسبة الى خالقه أكثر حقيقية من عالم الخارج، هذا اذا استثنينا اضطرار من يحيا في عالم الانترنت (في مواجهة الكومبيوتر) الى الأكل والتحرك اللذين يؤمّنهما عالمنا الحقيقي هذا، ما يجبره على ترك عالمه ذاك الى العالم الحقيقي ليتزود الطعام وليحرك عضلاته، قبل ان يعود اليه.
من الانترنت الى العالم الافتراضي… درْ!
فكرة العالم الافتراضي ليست بعيدة كل البعد عن الواقع، ولو أنه لا يمكن الجزم بها طالما أننا في بداية مرحلة التطور “التواصلي” الذي “يحوّل العالم قرية”. لكن هناك بعض الشواهد التي يمكن أن تدلل على صحة مزاج “توقعي”، من مثل مزاج صنّاع فيلم “ماتريكس” وغيره من الافلام المستقبلية. ففي هذه الآونة بات الكومبيوتر آلة الكتابة الاولى في العالم، والمصدر الاول للمعلومات، وهذا ما يدفع الى الاعتقاد أن دور المطبعة والكتاب والصحيفة الى تلاشٍ. وليس خافياً على احد أن الصحف العالمية ودور النشر تشتكي في هذه الآونة من تأثير الانترنت على إنتاجها.
بات الكومبيوتر الموصول الى شبكة الانترنت اليوم من الوسائل الاولى والاساسية لعرض البضائع وبيعها، مهمِّشا الاسواق الواقعية. وهو مكان لإتمام الاعمال، فهناك عدد لا يحصى من الاعمال الجديدة التي لا تحتاج الى القوة البدنية، يمكن البشري أن يؤديها هي نفسها من قرية في جنوب لبنان او من قرية نائية في الهند. إنه استخدام جديد للأصابع على لوحة مفاتيح الكومبيوتر وللافكار المنهمرة من الرأس. ولا يظنن أحد أن حاجة البشرية حاليا الى العودة للعمل في الارض لإعادة الاعتبار الى الانتاج الزراعي الطبيعي، هي من قبيل المصادفة. على العكس تماما، فإن انتشار التعليم المترافق مع ثورة المعلوماتية هو الذي يؤدي بشكل مباشر الى ترك العمل بالقوة البدنية او بالارض، والعمل بالقوة الفكرية. أما البشر الذين يهربون الى الغابات او الى قرى نائية، على ما يجري في بلاد كثيرة تصنَّف بالمتقدمة، فإنما يهربون من عالم افتراضي يخافون أن يسحبهم الى افتراضيته، الى عالم يعتقدونه حقيقيا. انها عودة الى ما قبل ثورة الاتصالات المعاصرة. وهناك منظّرون كثر للافكار المناهضة لـ”العولمة الثقافية”، اي لتأثيرات العولمة على الثقافات المحلية والاجتماع والعلاقات الانسانية. وهناك مناهضون عالميون لنتائج ثورة الاتصالات والمعلوماتية على حياة البشر لم يتكرسوا كمراجع بعد، لأن التأثيرات الجديدة لثورة المعلوماتية لم تتكرس بدورها وهي في تطور دائم ومستمر. لم يصب هؤلاء شهرة حتى الآن كالتي أصابها مفكّرو مدرسة فرانكفورت الذين ناهضوا تأثيرات الثورة الصناعية على حياة البشر خلال الخمسينات والستينات من القرن المنصرم وكان في مقدمهم هربرت ماركوز (“الانسان ذو البعد الواحد”) وأريك فروم (“الانسان بين الجوهر والمظهر”). وهذان النوعان من التنظير الجديد والقديم يدوران حول المقولة (الفكرة) نفسها، أي تشيئ الثورة الصناعية وثورة الانترنت للانسان وتحويله آلة.
عبر الكومبيوتر الموصول الى شبكة الانترنت تنشأ جماعات منتظمة، إن من الاصدقاء او من العاملين في المجال نفسه، او من أصحاب إيديولوجيات متقاربة. هؤلاء جميعا يمكنهم تنظيم لقاءاتهم واجتماعاتهم وأفكارهم وخططهم وعملياتهم عبر شبكة الانترنت من دون الحاجة الى اللقاء في مكان واقعي. هذا ينطبق على عرض الكائن “الانترنتي” لخصوصياته من أفلام وصور، وإمكان مشاهدتها لدى آخرين، وعلى تفشي معلومة او شائعة تفشيا لا يمكن وقفه بأيّ طريقة من الطرق. للقيام بهذا كله لا بد من استخدام الكومبيوتر وشبكة الانترنت لساعات طويلة من النهار، ولم يعد مهما المكان الذي يتم استخدامهما فيه طالما ان الانترنت باتت متوافرة في كل مكان، ومقاهيها منتشرة في كل المناطق السكنية حتى الفقيرة منها. لذا يمكن المداوم على الشبكة أن يمضي قسما كبيرا من نهاره أمام الكومبيوتر، وفي اللحظة التي يتوقف عن ذلك، يكون في حالة استراحة قبل العودة الى مواجهة الشاشة.
الحال هذه شبيهة بحالة الهاتف الخليوي. عندما تفرغ بطارية الهاتف او يتعطل لسبب ما ولو لوقت قصير، فإن صاحبه يشعر بأنه في حالة انقطاع عن العالم، وكأن الهاتف المحمول هو الذي يبقيه في حالة تواصل مع الحياة الواقعية. لا يمضي شاب يحمل الهاتف الخليوي وقتا طويلا من دون هاتفه، وإلا شعر أن هناك شيئاً ما يجري وقد أُقصي عن المشاركة فيه. الشعور نفسه ينسحب على علاقات التواصل في شبكة الانترنت. على المداوم أن يتفقد بريده الالكتروني وصفحة الـ”فايسبوك” خاصته وصفحات أصدقائه “الفايسبوكيين” في فترات قصيرة ومتلاحقة. انقطاع الانترنت لمدة قصيرة، سيشعر هذا المداوم بأنه منقطع عن عالمه داخل الكومبيوتر، وكأنه مطرود عنوةً من العالم الافتراضي الذي تشابك وجوده فيه مع شبكة الموجودين جميعا، وبات حضوره فيه عضويا. هذه المشاعر تجاه وسائل الاتصال ليست إدمانا البتة. إنها ارتباط بمجتمع آخر له حركته المنسقة والدائمة وتفاعلاته ذات التأثيرات المباشرة على الحياة الواقعية. كلّ انقطاع عن التواصل مع هذا المجتمع، هو بمثابة نفي، سواء أكان قسريا ام إراديا. لا فرق. هذا ينطبق على متابعي الشبكة من أجل إتمام الاعمال او التعارف او جمع المعلومات او المشاركة والتنافس في الالعاب الكثيرة والمتنوعة. هؤلاء جميعا ما عاد في إمكانهم نقل حاجتهم الى شبكة الانترنت من عالم الشبكة الافتراضي الى العالم الواقعي. لقد فات الاوان على ذلك.
الآن في هذا الوقت من عمر البشرية، هناك فترة انتقال من عالم الحياة الحقيقية الى عالم الكومبيوتر الذي يصير بدوره حقيقياً، رويدا رويدا، ومرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالحياة الحقيقية. هي فترة انتقالية لأنها لم تثبت على قرار بعد. او لنقل إنها لم تدخل في طياتها جميع البشر بعد، وهناك من لا يعرف شيئا عن هذا العالم. انه أمر أكبر من قدرات البعض الاستيعابية لعالم التقنية عموما ولعالم الانترنت خصوصا، وربما فات الاوان للدخول في أطر هذا العالم واستيعابه ذهنيا بالنسبة اليهم، وهؤلاء هم من غير المتعلمين أو من كبار السن الذين يفترضون أن ما يجري هناك داخل الشبكة العنكبوتية لا يعنيهم. الشباب هم قادة الانقلاب على مؤشرات الحياة الواقعية، أي الحياة التي نختصرها بـ”من المهد الى اللحد”. بعد سنوات، عندما يرحل أبناء الجيل القديم الى حياتهم الاخرى التي تقبع خلف الموت، سيكون الجيل البشري الذي يعيش على الارض، أي جيل الشباب الحالي والجيل الذي سيولد خلال السنوات المقبلة، قد أصبح جيلا “كومبيوتريا” بالكامل، وفي هذه الحال سيتكرس العالمان، عالم الكومبيوتر، وعالم الحياة، وسيتداخلان تداخلا مطلقا بدأت بوادره بالظهور منذ الآن ¶
فيديل سبيتي

أنطولوجيا الوجود الإنساني تستعصي على الرقمي: تشابك الافتراضي مربكاً فلسفة الكائن
قبل أربعين سنة، وُلِد الفضاء الرقمي الافتراضي المشبع بالذكاء، بالتزامن مع خروج الذكاء الإنساني إلى الإنتشار كونياً عبر خطوة صغيرة على القمر، محاكياً ما فعله قبل ملايين السنين على الأرض، فكأنه وجد في الكون محلاً “شبيهاً”. استطاع فريق علمي قاده ليونارد كلاينروك أن يربط بين كومبيوترين في جامعتين أميركيتين. أدى ذلك إلى ولادة عالم جديد، في أكثر من معنى. استعاد كلاينروك المناسبة أخيراً بكلام محمّل دلالات. قال: “عند ولادة الفضاء الافتراضي، لم نقل “إنها خطوة كبيرة للإنسانية” كما فعل رائد الفضاء نيل ارمسترونغ حين خطا على القمر”.
ليست مقارنة كلاينروك سوى نموذج من البنية الخيالية المصاحبة للإنترنت: إنها فضاء. في اللغة الفرنسية مثلاً، يوصف متصفحو المواقع الالكترونية بأنهم “انترنوت”، Internautes  أي أنهم رواد فضاء الانترنت. الكلمات تكاد تنطق لتفصح عن ظلالها. من اتصال عقلين اصطناعيين يقومان على فكرة محاكاة الذكاء الانساني والتشبيه عليه (بمعنى أنهما يحملان شيئاً ما عن حقيقة ذلك الذكاء، من دون أن يكوناه فعلياً)، وُلد فضاء افتراضي مملوء بتلك العقول “المحاكية”. سرعان ما ظهر قلق أصيل، لمحه المفكر الفرنسي جان بودريار في كتابه الذائع “النسخ الشبيهة والمحاكاة” بحكمة توراتية منسوبة إلى الملك سليمان: “إن النسخة الشبيهة لا تخفي الحقيقي البتة، بل إن الحقيقي هو الذي يخفي واقع عدم وجود شيء حقيقي. إن النسخة الشبيهة هي حقيقية”. جعل بودريار من تلك العبارة، مدخلاً لشرح مفهومه عن “الواقع الفائق” Hyper Reality، الذي يصف العيش الحاضر المتمازج بين الإفتراضي والحقيقي. امتلأ الفضاء الافتراضي سريعاً بالذكاء البشري فعلياً، وصار مساحة للتلاعب والتفاعل بين الذكاء التشبيهي للفضاء الافتراضي وعقول البشر. ثمة مثال شديد السخونة عن عيش الواقع الفائق حاضراً، المملوء بالتفاعل وتبادل الأدوار بين الحياة في فضاء الانترنت والإنسان نفسه، هو مواقع المحاكاة الافتراضية (أو التشبيه الافتراضي) مثل موقع “حياة ثانية” (Second Life). يشبه الأمر افتتاح تاريخ جديد لعلاقة غير مسبوقة بين الإنسان و”فضاء ذكائه” في زمن ما بعد الحداثة. أيّ علاقة لذلك الإفتتاح المذهل مع مفهوم الفضاء نفسه عند البشر؟
لنعد مرّة أخرى إلى التقنية. في عام 1969، أدّت “وكالة مشاريع البحوث المتقدمة في الدفاع العسكري” (تعرف باسم “داربا” DARPA، اختصاراً لعبارة Defense Advanced Research Projects Agency)، دور القابلة في ولادة ذلك الفضاء الإفتراضي، لأنها قادت فريق كلاينروك وموّلته، ثم استعملته في ولادة أول فضاء افتراضي في التاريخ، عبر شبكة “أربانت” التي ربطت بين الصواريخ الاستراتيجية الحاملة للرؤوس النووية ذات الدمار الشامل. ثمة قوة وعنف هائلان كانا مضمرين في ولادة الفضاء الافتراضي الرقمي، مثل خفاء صراع القوى الهائل في ألق الاحتفال بالسير الاسطوري على القمر. استطراداً، يقفز إلى الذهن فوراً وصف العنف بأنه قابلة التاريخ، وقد وصل إلى ماركس من هيغل، لكن الماركسيين لم يفهموا العنف إلا بأشكاله الأكثر رداءة. وأيضاً، ساهمت “داربا” في إعطاء البشر مكاناً “شبيهاً” في الفضاء. إذ أنشأت تلك الوكالة نفسها في عام 1957 للردّ على التحدي الذي رمى قفازه الإتحاد السوفياتي في وجه أميركا، عندما أطلق القمر الاصطناعي الأول “سبوتنيك”، فكانت نقطة انطلاق لمشاريع في الفضاء.
التقنية الإفتراضية
وعودة المكبوت اللاعقلاني
هل تبدو العلاقة التقنية بين الفضاءين الافتراضي والكوني قوية إلى حدّ كاف؟ رأى الفيلسوف مارتن هايدغر في كتابه “الكائن والزمان”، أن ماهية التقنية ليست شيئاً تقنياً على الإطلاق، ولا تُدرك علاقتنا بماهية التقنية، طالما اقتصرنا على تمثّلها والإنبهار بها وممارستها، وعلى محاولة التلاؤم معها أو الهروب منها. شدّد هايدغر على أن تصوّر التقنية كشيء حيادي، يمثل استسلاماً بائساً للعقل أمامها، لأن هذا التصوّر الذي يحظى بمكانة محبّبة في المجتمعات ما بعد الصناعية، يجعلنا غير مبصرين تماماً تجاه ماهية التقنية.
إذاً، فبالتحرّر من “الفضاءين”، يمكن العثور على خيط البداية في الإجابة عن ماهية الحدثين وعلاقاتهما المتشابكة، وتالياً، العثور على البنية الخيالية التي تربطهما بعالم ما بعد الحداثة الذي يبدو كأنه وُلد منهما.
من المستطاع الزعم أن مفهوم الافتراضي رقمياً، وفق المعنى الذي أبرزته الانترنت إلى الوجود، وكما يظهر في المحاكاة الإفتراضية Virtual Simulation، وبما يقدّمه من توسيع انفجاري لمفهوم “الممكن”، يشكّل الخيط الذي يصل بين الروبوت والجينوم والنانوتكنولوجيا Nanotechnology والمفهوم المعاصر عن الفضاء. كذلك يقف الإفتراضي في قلب ما يظهر في “الواقع الفائق” من تظاهرات مثل الرواج الانفجاري للشبكات الاجتماعية على الانترنت، وتجذّر ظاهرة العيش الإفتراضي ومواقعه إلى درجة تناوله في دراسات إجتماعية باعتباره “عيشاً إنسانياً”، والعودة “الملتبسة” لأشكال كانت مكبوتة من اللاعقلانية، ابتداء بالتباس تدريب إرهابيي تنظيم “القاعدة” على برنامج الطيران الإفتراضي “فلايت سميولايتر”، وصعود التنجيم، وعلم الأنساب “جينولوجيا”، وارتفاع نبرة الإنتماء إلى العرق واللون والعشيرة وتفكك الفردية العقلانية لمصلحة فردية ملتبسة تمتصها قوى لاعقلانية منفلتة وغيرها.
لنأخذ التنجيم مثلاً. “الرجال من المريخ والنساء من الزهرة”. عنوان لأحد أكثر الكتب رواجاً حاضراً (نفتح قوساً: ليس بعيداً منه الرواج المذهل لروايات هاري بوتر المليئة بالعلوم القديمة والتنجيم والسحر الاسود وغيرها، وأفلام “سيد الخواتم” وغيرها). ماذا لو قارنّا فضاء اليونان وأساطيره وتنجيمه وفلاسفته، وفضاء الانترنت الإفتراضي؟ رأت أساطير اليونان السماء مكتظة بالآلهة التي تتحكم بالكون والإنسان، والنجوم نيراناً لمعسكراتها الهائلة البعيدة. وظنّ الفلاسفة الأجرام السموية عقولاً سامية (وجواهر للوجود)، تتصل بالعقل المطلق. لم يبعد أرسطو عن القول بذلك. بنى بطليموس نموذجه عن الكون بناء لذلك التصوّر الذي تضمّن حضور الإلهي في حياة الإنسان بكثافة، وإخضاع الإنسان لحتمية قدرية ترسمها النجوم الثابتة والمتحركة المرتسمة على الأبراج ودوائرها، وقصر الشر في الأرض على الإنسان. تبنّت الكنيسة، وخصوصاً الكاثوليكية، أرسطو وبطليموس، إذ اتفقا مع مفهوم “الخطيئة الأصيلة” من جهة، ومع تدخّل الكنيسة في تحديد الشر والخير في أفعال الإنسان، باعتبارها تحمل مفاتيح فهم الإرادة الإلهية. عندما أدار غاليله التلسكوب إلى القمر والنجوم، لم ير عقولاً ولا أجساماً روحانية، بل رأى كواكب وبُقعاً شمسية، كما نظّر كوبرنيكوس. وضع غاليله مؤلّفه “حوار بين النظامين الرئيسيين في العالم”، ثم سخر من البابا. ليس مجرد أن الأرض لم تعد مركز الكون، بل لم يعد الاتصال قائماً بين الإنسان والعقل المطلق (كناية عن الله). صار الانسان اقرب إلى ان يكون حراً ومسؤولاً عن أعماله، وخرجت الإرادة الإلهية من الأفعال الأرضية والوضعية. كانت تلك فاتحة مشروع العقلانية الكبير الذي أصابه الوهن لاحقاً. جاء ديكارت ليكمل القطيعة مع التصوّر اليوناني ومتفرعاته، إلى حدّ كبير، وعاد إلى تعريف أرسطو للفلسفة، مشدّداً على أنها بحث، فجعلها تستند الى المنهج، وخصوصاً الرياضيات. أثار الكوجيتو نقاشات كبرى، وضمنها السؤال عن العقل. بقي شيء من الإلتباس في تصوّر ديكارت عنه. الأهم ان ذلك لم يكن سيراً ظافراً صاعداً، ولم تنفخ العقلانية عاصفة اقتلعت ما قبلها وأسست لما تلاها. ليس ذلك إلا وهماً. بقيت لاعقلانية القرون الوسطى قائمة. من المهم استعادة ذلك، لأن العقلانية نقلت علاقة الإنسان مع الفضاء والطبيعة إلى الاكتشاف، وخصوصاً مع نظريات نيوتن التي كرست الأجرام السموية كموضع للكشف، ولأن القوانين التي تنطبق عليها، تسري على الأجسام كافة، والعكس بالعكس. تراكم ذلك كله ليصنع انقلاباً على الفضاء الذي يعجّ بالأجسام السموية السامية (المثل الجوهرية الأفلاطون) وبالعقول المتتالية لأفلوطين وأرسطو. بات الاكتشاف، بصيغ متنوّعة، هو علاقة تراسل بين عقل الإنسان والعالم. وعلى رغم الإبتسار، ترافق صعود الكومبيوتر وتبلور العالم الافتراضي، مع تغيير قوي (يضج بالتناقضات أيضاً) ومع الكثير من أسس عقلانية الحداثة وظهور ما بعد الحداثة، من دون المغامرة بالقول بالقطيعة معها. هل ذلك مكسب لمغامرة العقل الإنساني في الكون، أم أن شيئاً ما خرج عن النصوص من دون أن يتوصل إلى تفكير مناسب مع العالم الجديد الذي صنعته التقنية، في الفضاء والبيولوجيا والعالم الإفتراضي والنانوتكنولوجيا معاً؟ لاحظ هايدغر أن المجتمعات الحديثة ترتاح إلى تصور يجعل التقنية من فعل الإنسان حصراً (البعد الانتروبولوجي) وأنها تحقّق غايات إنسانية. ولم يرتح هايدغر إلى هذا التصور، الحداثي بامتياز، لأنه يقصر الحوار مع التقنية على مدى صلاحيتها واستعمالها الجيد، وذلك قول يتردد كثيراً من القنبلة الذرية الى الترفيه المتطوّر ووسائل الاتصالات السريعة والإستنساخ وغيره. ونظر إلى التقنية باعتبارها انكشافاً، بمعنى السير بالشيء من الاختفاء والغياب إلى الظهور. ولاحظ هايدغر ان للإنكشاف أمام التقنية حدّاً آخر هو الحقيقة. ورأى أن ما ينقذ الإنسان يكمن في الخروج من التفكير في التقنية باعتبارها أداة، وفي التحاور مع ماهيتها، للوصول إلى تأمل مختلف عنها أيضاً. وخلص الى أن لا يقين في الطريقة التي يستطيع فيها الكائن الإنساني الوصول إلى وضع اليد على ماهية التقنية (وتالياً الحقيقة)، داعياً إلى الاستمرار في طرح الاسئلة لأن “التساؤل هو تقوى الفكر”. في “الكائن والزمان”، اقتبس هايدغر فكرة “عدم التيقّن” من الفيزياء الكمومية، وخصوصاً إرفين شرودنغر (صاحب مثال القطة الشهير)، وهي أبعد من النسبية التي تجذّرت مع ألبرت أينشتاين. اهتز العقل الرياضياتي المتكامل المرجعية، الصارم المنهج لديكارت، تحت وقع تعدد المرجعيات ونسبية حقيقتها، وكذلك ارتجّ تحت وطأة أن لا يقين للوعي الإنساني، التي دعمتها الرياضيات غير التقليدية ونظرية الفوضى، فصارت مرجعيتها متعددة الى حدّ التشظي، وقصيرة المدى، ومتحوّلة أيضاً. تظهر هذه الأشياء في الإفتراضي، وهو صنيعتها تقنياً (بالمعنى الهايدغري لـ”التقني”)، خصوصاً في “نموذج الكومبيوتر” Computer Model. يُظهر النموذج سطوة وحدانية المرجعية الرياضية، وامتداداً سطوة المرجعية والحتمية المحمولة في المنهج الدقيق للنموذج. عندما صنع إدوارد لورنز نموذج الكومبيوتر الأول عن المناخ، وقع في الخطأ لأنه أخطأ في إدخال إحدى المعلومات. صحّح الذكاء البشري المعلومة، فتصحح نموذج الكومبيوتر. بقدر ما يسير نموذج الكومبيوتر بصرامة لا تقبل أي خروج على دقتها المرهفة، يفيد بأن كل ذكاء يستطيع أن يصنع نموذجه، وأنه يصعب القول مسبقاً بتفوق نموذج على آخر. المرجعيات صارمة الى حدّ أقصى، ولكنها منهكة ومتعددة ومتفككة الى حدّ التذرر. وكذلك تراوغها الحقيقة بقدر إدّعائها. يبدو وضع الافتراضي ونموذجه، كأنه مزيج من هايدغر وبودريار، بطريقة لم تستنفد أفقها بعد، بل حتى لم تشرع في التفتّح والظهور.
ثمة ما هو أهم. إن النموذج الافتراضي هو غير التراسل بين عقل الإنسان والطبيعية والكون. حلّ النموذج الافتراضي مكان التجربة. بالأحرى، صار النموذج الرقمي محلاً آخر إفتراضياً (و”حقيقياً” بمقدار) للتراسل بين العقل والطبيعة، الممثلة في رقميات الكومبيوتر. مرة أخرى، ثمة إنهاك واضح، لأن النموذج معتمد على الرياضيات التي تعبّر عن علاقات الأشياء، ولكنها لا تستطيع ان تكون أشياءه فعلياً، إضافة الى التحدي المضاعف الذي يرفع حدّ الارتياب واللايقين، ويأتي من الرياضيات غير التقليدية ونظرية الفوضى والفيزياء الكمومية. استولى الإفتراضي الرقمي ونماذجه المتعددة المتذررة على كثير من العقل، وأنهك العقلانية، وأفلت كثيراً من اللاعقلانية، لكنه أوحى أيضاً أن أنطولوجيا الوجود الإنساني في الكون والزمان وأسئلتها العميقة، لم تنته روايتها. ليس بعد! ¶
أحمد مغربي

قاتل الكتب الورقية المتسلسل
الكتاب الالكتروني هو تحقيق لحلم بورخيس، بحسب إيريك اورسينا. هو إمكان حمل مكتبة كاملة في كتاب واحد صغير الحجم. كلّ تقدّم يحرزه انتشار الكتاب الالكتروني لن يكون إلا على حساب الكتاب الورقي، أي على حساب ذلك الشكل التقليدي الذي لا يسرّنا التفكير في أنه سيصبح من ذكريات الماضي في يوم من الأيام. يضم الكتاب الالكتروني، الى الكتب التي يختار كتّابها إصدارها بلا نسخ ورقية، عالماً من المدوّنات تكتنف دنيا الأدب والفكر والأبحاث والتحقيقات الصحافية المليئة بالمعلومات.
تضم المدوّنات الالكترونية المنتشرة على شبكة الانترنت كتابات ادبية وثقافية غزيرة، بعضها لأسماء مجهولة، وبعضها لكتّاب كبار اختاروا طريق المدوّنات لترويج أعمالهم. لطالما ردّد البعض القول بأن أفضل ما نعرفه من الأفكار ليس أفضل الأفكار بل فقط أفضل ما نعرفه، لأن البعض يقرر ألاّ يطرح أفكاره للتداول. مع عالم المدوّنات هناك فرصة لاكتشاف دائرة اوسع من التفكير البشري.
تزيد شبكة الانترنت من قدرة الثقافة المضادة، لأنها تلقي الضوء على أعمال وأشخاص كانوا مجهولين. من هنا تحارب الثقافة الرسمية هذا الصعود القوي لانتشار المدوّنات الالكترونية، لكنها لن تستطيع فعل شيء لأن الذي اعتاد على التحرر من كلّ الضوابط لن يقبل بالعودة الى الكتابة ضمن حدود، أيّاً يكن من يضعها.
يتوجّه الكتّاب الى أسلوب النشر عبر المدوّنات الالكترونية، لأنها تسمح لهم بنشر مواضيع لا تدخل في دائرة اهتمامات المجلات والصحف، كنشر يوميات هؤلاء الكتّاب، او لأن تحديد هذه المجلات والصحف لعدد الكلمات التي يمكن نشرها يدفع الكتّاب الى نشر كامل ما يكتبونه على مدوّناتهم الخاصة لتمكين قرائهم من الإطلاع على تمام ما يكتبون.
لكن سهولة وضع ما يُكتب على الانترنت، لا تجذب مستخدمي هذه الشبكة كثيراً الى قراءة محتوى المدوّنات، لأن كل إنسان يستطيع القيام بوضع ما يكتبه عليها، وتالياً تغيب المعايير التي تمكّن مستخدم الشبكة من التمييز بين الجيّد والسيئ. لا يزال القراء يثقون أكثر بالكتابات المطبوعة في كتب، ولا يزال إسم الكاتب وإسم دار النشر يمارسان تأثيرهما في انتقاء موضوعات القراءة.
إلا ان في كتابات بعض الهواة وعياً وتقنية كتابية لا نجدهما لدى من يعتبرون أنفسهم محترفين. هكذا فإن عالم المدوّنات كعالم الكتب، نجد فيه الغث والسمين. لكن الفارق يكمن في أن المدوّنات الالكترونية المهمّة يصعب اكتشافها، لأنه حتى الآن لم يتم ابتكار المعايير التي توجّه اختياراتنا، فيبقى الأمر في مهبّ المصادفة الى حدّ بعيد.
إمكانات مضافة للقارئ
يشتهر الكتاب الالكتروني، الذي تشكل المدوّنات احد اوجهه، باسمه الانكليزي المختصر، أي الـ”إي بوك” e-book، وقد فرض تركيبة إسمه المختصر على الكتاب الورقي الذي بات يعرف بالـ”بي بوك” p-book، وهو اسم يحيلنا على واقعة أن المكتوب محمّل على الورق papier. الخلاف بين الشكلين يأخذ في الإعتبار حامل المكتوب او دعامته. فهو “إي بوك” إذا كانت دعامته غير مادية، وهو “بي بوك” إذا كان مستمراً في الإرتكاز على الدعامة المادية الورقية في تداوله للمعلومات.
يعطي العمل الرقمي حلاً لاحتياجات القراء أكثر ارضاءً مما يقدّمه الورق. يمتلك هذا النوع من العمل مواصفات لم يكن قارئ الكتب في شكلها التقليدي يحلم بها حتى. فالقارئ بات يمكنه التدخل في النص ودمج تعليقاته الخاصة في المتون. لم تعد الفهرسة منفصلة عن إمكانات البحث، وهذا ما يوفّره الاسلوب الرقمي الذي يضيف الى عالم التعامل مع النص عنصر نقل القارئ الى حيث ترد أيّ كلمة تخطر على باله. وبات القارئ يمتلك القدرة على إبراز ما يراه هو مهمّاً في النص، وبالطريقة التي يختارها، فيتحوّل النص فعلياً عملاً مزدوجاً تلتقي فيه مقاصد الكاتب بالإضافات الخارجة عن فهم القارئ له، وينعكس هذا التفاعل على شكل النص نفسه وعلى ترتيبه.
الكتاب الإلكتروني هو منتظم مفتوح. فإلى تقديمه للقارئ القدرة على التدخل في النص، يمكّنه من إرسال محتويات هذا النص نحو محتويات أخرى او مصادر أخرى، ما يمنح الكتاب الرقمي الأفضلية بالنسبة الى مجموعات القراء الفاعلة (طلبة، باحثون، مجموعات قراءة…).
تبقى في الأساس الفرصة القيّمة التي يوفرها هذا الشكل من الكتب، وهي إمكان الوصول اليها والتمكين من التصرّف بالعمل أيّاً تكن الساعة او المكان الجغرافي.
يرى أنطوان غاليمار مدير دار النشر الفرنسية التي تحمل الاسم نفسه ان عام 2008 كان عام الوعي بالأفق الرقمي الذي لا يمكن الرجوع عنه في سوق الكتاب. وليس نادراً اليوم عقد لقاءات ومنابر حول الكتاب تسعى الى تثبيت خط الهروب للتحوّل الكامل عن المادية. لكن المنظور يهرب ايضاً من الذين يريدون رسم هذا الخط بحركة واضحة.
يتصل الكتاب الإلكتروني بمفهوم الديموقراطية. لم تعد دور النشر قادرة على استبعاد كتابات البعض عن التداول العام. فتداول الأفكار لم يعد محصوراً بما تقدّمه هذه الدور من وسائل تقليدية للتواصل مع إنتاجات الآخرين الفكرية. يستطيع كل كاتب أن يضع كتابه على شبكة الإنترنت ليتيح لمجموع سكّان الكوكب إمكان الوصول اليه.
مقاومة أم تكيّف؟
من ناحية أخرى، كتب بيار ألكسندر كزافييه في مجلة “الأزمنة الحديثة” ان إلقاء نظرة مستقبلية على السنين العشر المقبلة تقول لنا ان النموذج الالكتروني سيفرض نفسه على السوق، وسينضم اسلوب البيع على شبكة الانترنت الى الاماكن الاخرى، لا بل سيزيل بعضها. وستعاني المكتبات من انبثاق النموذج غير المادي لتوزيع الكتاب.
أما القارئ الإلكتروني، فسيفرض نفسه لا كجهاز توسّطي بل كمفهوم: مفهوم الكتاب الالكتروني، ليكون في النهاية متماهياً مع الكتاب بشكل كامل.
من هنا يرى كزافييه انه يجب على شبكات التوزيع الفيزيقية وعدّة النشر، ان تتكيف مع توزيعة جديدة ستحوّل المهن والمؤسسات والوسائل. كذلك، على الناشرين ان يواجهوا الصعود القوي للكتّاب الذين يستخدمون وسائط اجتماعية على الانترنت للتعريف بكتاباتهم وترويج انصرافهم عن الورق.
من هنا يرى ان على مهنة صناعة الكتب ان تقبل اتساع المنافسة التي يقوم بها داخلون جدد، من خلال منشقّين عن دور النشر الكبيرة وكتّاب يعلنون استقلالهم الكامل وشبكات توزيع متخصصة على شبكة الانترنت. أما التحدي الأكبر الذي يفرض نفسه على هذه المهنة، فهو انها يجب ان تواجه تعميم المجانية على الانترنت.
ويخلص الى انه ليس هناك سوى طريقتين للتعامل مع هذه التغيرات. إما ان نحاول المقاومة، وإما ان نحاول فهم التحوّل الحاصل ومتابعته من خلال التكيّف بطريقة واضحة مع الشروط الجديدة.
كتاب ما بعد حداثي
دخل الكتاب الالكتروني في صلب المناقشات ما بعد الحداثية. وقد علّقت مؤسسة “غارتنر” على التطور الحاصل مستنتجةً ان هذا الشكل من الكتب “يقدّم قراءة مطابقة لقراءة الورق، يشبه الورق ولكنه يستهلك طاقة أقل ويسمح لنا بأن نكون أكثر احتراماً للمعايير البيئية في المكتب: الورق الالكتروني يحظى بمناصرين أكثر فأكثر. وهذا ليس سوى البداية”.
أما مدير موقع “سوس إي بوكز” على شبكة الانترنت غبريال غاسكون، فيرى ان الكتاب الالكتروني يحظى بميزات متعددة تجعله يتفوّق على الكتاب الورقي. فهو في رأيه يمتاز بـ”تلقائية… كلية الحضور… نفاذية… لا يبلى… سهل على النسخ… مكتبة محمولة… بحث سهل في النص… استشهادات اكثر سهولة… تعليم الصفحات ووضع هوامش… روابط متحركة وميتا قراءة… مرئي ومسموع… تركيب صوتي… تدريب مباشر… الوان وتوضيحات… سهل على التغيير… نستطيع قراءته في العتمة… صديق للبيئة… يسهّل التعليم… نستطيع تكييف شكله… بعض الكتب لم تطبع إلا كإي بوكز…”.
يطرح البعض التساؤلات حول مستقبل الكتاب ومستقبل القراءة في ظل التحوّل نحو الرقمية. ولكن يجب ألاّ ننسى: “إي بوك” او كتاب ورقي، مستقبل الكتاب سيكون هو مستقبل القراءة. ومستقبل القراءة نفسه يواجه تحديات جدّية، ففي دراستين، الاولى نفِّذت في الولايات المتحدة الاميركية، والثانية في فرنسا، ظهر أن القراءة في تراجع، أقلّه في أشكالها التقليدية. أما في العالم العربي، فواقع القراءة مأسوي، في ظل تداول معظم إنتاجات الكتاب العرب عبر الكتب الورقية. ولكن هذا لا يعني أن تداولها في أشكال رقمية سيحسّن هذا الواقع.
السفر مع المكتبة
المدير العام لـ”سوني فرانس” فيليب سيتروين، الذي تُعنى شركته بتجارة أجهزة قارئة للكتب الألكترونية وتسويقها، يقول ان الـ”إي بوكز” تروق للناس الذين يسافرون وللقراء الكبار. لكن المشكلة الوحيدة التي يواجهها القراء في رأيه هي أنهم يتحدثون عن “الكبت الذي يتسبب به النقص في العناوين المتاحة”.
يتحدث البعض عن “بداوة دوائر المعلومات” ويقصدون بذلك الحقبة الجديدة التي تمتاز بالحركية. فـ”البداوة” هذه هي مفهوم اساسي لبداية القرن الحادي والعشرين، يقترح على الجميع الوصول الفوري الى المعلومة، على كل مساحة الكوكب، من دون عقبات فيزيائية او ميكانيكية او جغرافية.
يشكل الترحال الدائم مصدر جاذبية الكتاب الإلكتروني، فهو الوسيلة التي تمكّن الإنسان من الترحال برفقة النصوص التي يحبّها. يقول ايريك اورسينا: “الإي بوك هو وسيلة غير مألوفة لأولئك الذين، كما انا، يحبون في الوقت عينه الكتاب والسفر. لديكم كل الكتب في كتاب واحد. هذا هو حلم بورخيس الذي اصبح واقعاً: مكتبة بابل في متناول اليد، أكنتم في عرض الكاب هورن أم في العمق النهائي لكاماشاتكا” ¶
حسن عبّاس

الديمقراطية في عصر الانترنت: أيّ سياسة تخاطب غموض اللقاءات الإلكترونية؟!
لطالما كانت الديموقراطية مثاراً لأهواء عارمة ومتناقضة، بين الدعوة إلى حكم الشعب لنفسه مباشرة ومن دون وساطة، وبين اعتبارها مجرد أداة تنظيمية واجرائية تقتصر على تحديد من ينبغي ان يتولى مسؤولية الحكم من بين الطامحين إليها. لئن كانت النظرة المشار إليها أولاً باتت بعيدة عن المتناول، مذ شبّت الدول عن طوق المدن اليونانية، فإن قصر الديموقراطية على الآلية الإجرائية يثير أسئلة، بقدر ما يثير من خيبات، ولا سيما حين يتيح المجال الافتراضي الانترنتي للفرد إمكان بناء هوية افتراضية وصوت افتراضي، ربما يستحيلان في الواقع. تحاول المقالة هذه رصداً لقواعد الديموقراطية وتطورها، ثم نقاشاً لآثار المجال الافتراضي والأخطار والتحديات التي يطرحها على هذه القواعد الديموقراطية في صيغتها ما بعد الحديثة.
من المعروف ان الديموقراطية تعني، اشتقاقاً، حكم الشعب. ولئن كان في المفهوم تحدٍّ لأنظمة الحكم الالهية والملكية، إلا ان الانتقال من حكم الشعب إلى حكم الغالبية ظل يطرح اشكاليات متعددة.
الاعتراض الحار على ديموقراطية اجرائية
زخم العداء المتراكم ضد الانظمة الاستبدادية قاد المجتمعات، حيثما بدا ان في الإمكان توسيع مجال الحركة السياسية، إلى الربط بين الحرية والديموقراطية والمشاركة السياسية، فكان لهيب الحرية دوماً يمد المطالبات بالديموقراطية والمشاركة بحراراته. بل إن الكثيرين لطالما استنكروا ونهضوا، كما في فرنسا القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين مثلاً، ضد النظام لاعتبار انه لا يمنح كل الفئات حق المشاركة السياسية المباشرة والفاعلة، وإحدى وسائلها التي كانت مثار نقاش طويل الاعتراض في الشارع، وكان شعار الشارع دوماً مرفوعاً ضد نظام الغرف والمجالس التمثيلية والبرلمانية.
للديموقراطية أيضاً تاريخ، في كل بلد، وعليه مترتبات تتفاوت ثقلاً بين الدول، وقد تقتصر على الشكليات كما في لبناننا. وفي التاريخ الأوروبي سبق للديموقراطية ان كانت أيضاً مرادفاً للفوضى والحروب الأهلية. لنأخذ مجدداً المثال الفرنسي الذي لطالما شكّل حلماً للبنانيين: اثر المرحلة النابوليونية، اختفت لفظة الديموقراطية تقريباً من معاجم أصحاب السياسات، وشكلت نوعاً من الفزّاعة يستخدمها بعض الكتبة والصحف للتحذير من مغبات المطالبات بتوسيع هامش الحريات والمشاركة الشعبية. بدلاً منها، حلّ شعار الجمهورية، ولا يزال، في المخيلة الفرنسية شعاراً لاهباً يتغذى من الطموحات والأحلام قدر استفادته من مخاوف الوقوع في براثن الاستبداد. غرض المثال المطروح التشديد على ان الديموقراطية مفهوم ملتبس، زاده التباساً الخلط بين الديموقراطية كنظام حكم والديموقراطية كإشارة إلى مجتمع يتضمن خصائص محددة لجهة احترام الحريات الأساسية. سبب الالتباس ربما غموض مفهوم الشعب، وحماسة كل مقصى للمشاركة وتقديمه المواطنية السياسية حتى على مقتضيات المواطنية الاقتصادية والاجتماعية. فمن ناحية أولى، إن تشكيل الشعب يلوح معطى طبيعياً أو ديموغرافياً في حين أنه، في الواقع، تشكيل تاريخي سياسي يتخلق في موازاة قيام دولة ذات حدود واضحة ويخلقها في آن واحد. فليس الشعب معطى بيولوجياً، بل تشكيل حقوقي واقتصادي متشابك ومقونن. كما أن الديموقراطية، من ناحية أخرى، لا يسعها، في مجتمع معقد وكبير، السماح لكل مواطن بامتلاك حق الاعتراض والتأثير الفوري على سير الأمور، وإن كان تسييرها يتم باسمه. أي أن أشطاراً من الشعب مقصاة بحكم الأمر الواقع عن التأثير الفوري والمباشر على حياة الدولة التي تستمد نظرياً سيادتها من هذا الشعب. هكذا كان حق الانتخاب دوماً حقاً مشروطاً، بالثروة أو القدرة على القراءة أو الجنس، أو في أهون الأحوال بالسن، كما كان دوماً حقاً يفرض شروطه على صاحبه، ومن شروطه القبول بأن تأثيره يقتصر على الحق في اختيار المسؤول وفي تجديد هذا الاختيار دورياً كل حين معين من السنين. وكان حصر المواطنين (هذا دون الإشارة إلى المقيمين من غير أصحاب الجنسية) وبرمهم الآني بسياسة أو بقانون ما، سبباً دوماً لتجديد التوتر حول مفهوم الحكم وللمطالبة بالادارات الذاتية والسلطات المصغرة، ومبرراً لتجديد الاتهامات لفئة حاكمة تتناسل من ذاتها وتتنكر للشعب او تخدعه مما يبيح الثورة العنفية ضدها، حتى وإن أدى ذلك في واقع الأمر إلى التضحية بإنجازات الاستقرار والتنمية التدريجية.
تعويض الفرد في الديموقراطيات الحديثة
نشأت الديموقراطيات الحديثة تحديداً على مداراة هذه الشروط القبلية ومحاولة تدوير زواياها. فكانت، بحسب بيار روزنفالون، آليات مثل حق الشعوب في فرض استفتاء شعبي على مسائل محددة (كما في سويسرا)، والصحافة كسلطة رابعة، واللامركزيات الادارية، والسلطات الادارية المستقلة عن جهاز الدولة (كالمجالس الاقتصادية والهيئات الصحية والاعلامية وسوى ذلك)، والمجالس الدستورية المشرفة على دستورية القوانين، فضلاً عن الدور الرقابي المتعاظم لجمعيات المجتمع المدني، محلية أكانت أم دولية. معظم هذه الهيئات في الواقع غير منتخب، إلا ان اقامتها واقرار السلطات المنتخبة بصلاحياتها يتيحان للمواطنين الاطمئنان إلى تعدد مواقع السلطات بحيث يأمن غائلة الاستبداد، بعدما بات الفصل التقليدي بين السلطات غير كافٍ حيث ابتلعت السلطة التنفيذية معظم القدرة على التأثير في غالبية البلدان الديموقراطية. كما ان اقامة سلطات محلية أوسع صلاحية والاقرار بحق فرض الاستفتاء، شكّلا متنفساً للرغبة الشعبية بامتلاك مشاركة فورية، وإن كانت بعض البلدان تحصر اثر الاستفتاء في الزام السلطة التشريعية سن قانون، من دون ان تلزمها صيغة قانونية محددة، مما يتيح دوماً هامشاً للتعديل والمواءمة القانونيين، وهذا ما لا يتيحه القانون السويسري مثلاً وما يؤدي إلى فرض قواعد متناقضة مع التزامات دولية أو دستورية اخرى، على ما تشهد قضية المآذن التي لم تنته فصولها بعد.
مؤدى القول إن الديموقراطية الحديثة قلّصت دور المواطن الفرد، وهو حامل شذرة من السيادة الوطنية، إلى اقتراع دوري رتيب، يشهد عليه تدني نسب التصويت في الدول المتقدمة عموماً. غير انها قابلت هذا التقليص، المثير للحصر والنقمة، بتوسيع دور هيئات ومنظمات يستطيع الفرد الانضمام اليها والتكتل فيها أو يستطيع ان يمحضها ثقته لاعتبار تكوينها من ذوي اختصاص مهني واضح واقتصارها على مثل هذه الاعتبارات.
ديموقراطيات ما بعد الحداثة
هل يعني السؤال عن ديموقراطية ما بعد الحداثة، وفاة الديموقراطيات الحديثة؟ رأى المفكر المصري عبد الوهاب المسيري ان الفكر الغربي يطلق عبارة “ما بعد” بديلاً من عبارة “موت” التي يخشاها ويرفضها. الملاحظة في الواقع خاطئة، ذلك ان الفكر الغربي هو الاكثر بحثاً لأفكار الموت، كموت المؤلف والفلسفة ونهاية التاريخ، بل إن “النهضة” في تسميتها الغربية إنما هي بعث واعادة ولادة. لذا الأوفق القول إن الحديث عن ديموقراطية ما بعد الحداثة إنما يعني المعالجة الديموقراطية لمعضلة الحكم وخلق المجال السياسي، التي تضم العناصر الموروثة عن تجارب قرنين ونيف (أوروبياً) جنباً إلى جنب مع عناصر جديدة تتولد عن الحراك الاجتماعي والتطور التقني والتطلعات السياسية الجديدة.
هذه العناصر الجديدة لا تزال غير مكتملة الملامح والتشكيل، إلا ان في الإمكان رصد بعض ارهاصاتها وسماتها، مما هو مرتبط بعمق باختراع الحيز الافتراضي أو الانترنتي:
– تزايد دور استطلاعات الرأي بما ييسره وجود الانترنت من تسريع للقيام بها، حتى بدا بعض السياسيين تابعين للرأي العام في بلادهم بدل كونهم قادة له بما يملكون من معطيات ليست متوافرة للجميع. هذا يعيد الديموقراطية إلى مربّع الخوف من ترجرج الرأي العام وفوضاه الانفعالية، فضلاً عن أثر الجهل ونقص الوعي في بعض المسائل.
– تراجع دور وسائل الإعلام التقليدية وتحول كل مهتم بالانترنت وسيلةً اعلامية مفترضة. يعني ذلك، مجدداً، تقليص دور السلطة الرابعة، والتقاليد المهنية والأخلاقية التي ينبغي ان تضبط عملها، لصالح دور لصنّاع رأي عام جدد على الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي.
– تزايد دور مؤسسات وهيئات فوق – وطنية أو دولية أو خاصة، في اقرار التشريعات والنظم في جميع المجالات (هيئات الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، المحاكم القارية في اوروبا والأميركتين، منظمتا الصحة والتجارة العالميتان، شهادات الايزو، …الخ). هذه جميعها لا تستمد شرعيتها من المستوى الوطني، وينبغي لها ان تلجأ إلى حملات توعية وإعلام لشرح قراراتها وانجازاتها وعملها لشعوب قلقة تشعر بأن زمام القرارات يفلت من يدها لصالح فئات متخصصة مجهولة الانتماء السياسي والطبقي.
تجدر الإشارة إلى ان مجتمعاتنا، التي لم تترسخ فيها حتى مبادئ المراحل الأولى من الديموقراطية، ولا تزال تتأرجح بين احلام الثورة ووعودها واحلام الاستقرار والدفاع عن الحريات، تبدو كما لو أنها، حين فاتتها فرصة الحداثة، فاتتها ايضاً فرصة اقامة توازن أدقّ واعقد بين السلطات على المستوى الوطني. إلا انها، على رغم محاولات العزلة، محكومة بالتأثر والخضوع لمرحلة الديموقراطية ما بعد الحداثية بما تتضمنه من عولمة وآثار يتركها اختراع المجال الافتراضي الانترنتي على خدّ الأنظمة. الأمثلة على بوادر ذلك كثيرة، من طهران إلى القاهرة وغيرهما.
أثر الحماسات في المجال الافتراضي
يطرح المجال الانترنتي تحديات عديدة على مفاهيم الديموقراطية. فإذا كان من بديهياته القدرة على انشاء هويات افتراضية أو بديلة، كما في لعبة second life الشهيرة، فما يظل من مفهوم الانتماء، وعلى أي أسس يتشكل حينها الشعب؟
كما ان المجال الانترنتي، على رغم محاولات القمع، ملتبس قانوناً وغير منضبط في إطار الحدود “الترابية” للسيادة، التي كان المرحوم صالح بشير يشدد على ضرورة العودة إليها لفهم تحركات الدول وقراراتها. وهذا عامل آخر يعقد مفهوم الانتماء وتشكيل الشعب المؤطر في حدود دولته وسيادتها.
كما ان نهوض الانترنت وسيطاً أساسياً لسير المعلومات داخل المجتمع، يقيم أمية جديدة تُقصي فئات كبيرة من الناس عن المشاركة في الحيز السياسي. بل إن ذلك يتيح الفرصة للوبي انترنتي ضيق العدد لكنه فاعل وناشط ومتأقلم مع هذا الوسيط الجديد كي يدّعي بتمثيله للشعب، في الاحصاءات واستطلاعات الرأي وعبر المراجعات التي يقوم بها اختصاصيو الحملات ومساعدو السياسيين لردود الفعل على الانترنت والمدوّنات. أي أن فئة “ناطقة” جديدة ستدّعي، بدورها، حق الكلام باسم الجميع، وستضغط لتوجيه السياسات العامة بامتياز سهولة اتصالها بالشبكة وتقنياتها، لا غير.
لكن أحد أبرز الأخطار قد يكون أن الانترنت تسمح للفرد ببناء هوية افتراضية متحررة من ثقل الجسد وضرورات الاجتماع، أي ان هذه الهوية تكون غالباً منعقد أهوائه الأكثر حماسة والأعلى صوتاً، متخففةً من واجبات التسوية ومراعاة الآخرين المقيمين في حيز ترابي محدود. فلئن كان الاعتراف متوجباً بأهمية الحماسة في دفع الناس إلى العمل السياسي والاجتماعي في المجال الافتراضي، إلا أنها تشكل أيضاً خطراً على الديموقراطية نفسها، كما أظهرت الحماسات الكثيرة، في العالم العربي أو قبل ذلك في ألمانيا النازية وايطاليا الفاشية والشيوعيات الكثيرة، من ثورات الصين الثقافية إلى غولاغات روسيا. خلافاً لما يحسب كونديرا، لم يكن حائط السجون مزيّناً بالأشعار الغنائية، بل كان مبنياً بعرق الحماسات اللاهبة لغد أفضل لا نطيق له انتظاراً. بل إن المؤرخين يحتارون غالباً في تفسير سبب صمود الجمهورية الفرنسية، على علاّتها، في الثلاثينات من القرن المنصرم، امام صمود الحركات المتطرفة في القارة الأوروبية. ولئن كان أحد الأسباب الظرفية قيام الفرنسيين بالجمع بين معاداة النازية والفاشية ومعاداة الشيوعية في آن واحد، خلافاً لألمانيا حيث غذّى العداء للشيوعية صفوف النازيين، فإن الأسباب العميقة ربما تعزى إلى عمل دؤوب طوال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، انتهى إلى تتويج نظري له مع استقبال الثقافة الفرنسية لنظريات كلسن وبوبر في الحقوق والديموقراطية. مناط هذا العمل الطويل النفس، تحرير الديموقراطية من كونها دليل سيادة الشعب وتعبيراً مباشراً عن رغباته، وهي قلقة ومتأرجحة وغير مضمونة النتائج، إلى كونها أداة اجرائية باردة يتحدد هدفها بتوسيع هامش الحريات وضمانها عبر تقنين حركة المطالب الاجتماعية. في مطلع القرن العشرين، انهمك منظّرو السياسيات والدستوريات الفرنسيون في “تبريد” العواطف، أو قل العواصف، التي تثيرها كلمات الحرية والديموقراطية، اذا ما تم اختزال المسافة والجهد الذي يتطلبه تحقيقها إلى مجرد المطالبة الآنية، والعنفية تالياً. هذا تحديداً ما يسمح بإقامة المسافة بين الرغبة وتحقيقها، ما يسمّيه البعض بـ”عمل الأمل”، أي الحياة.
الانترنت، كما الرسوم المتحركة أو الافلام الاباحية، هو عالم تنعدم فيه المسافة ويغيب فيه تراكم الرغبة وبناؤها. كما ان توم يجد دوماً في متناوله كل المطارق والأدوات التي يرغب في اصطياد جيري بواسطتها، وكما ان بطلات الافلام في عالم البورنو لا يردن يد لامس. لذا فإن بناء هوية الفرد من خلال الانترنت قد يثير أخطر كوامنه، أي رفض التسوية والانتظار والبناء لصالح الإشباع الآني لنوازعه، وليس الجنسية منها فقط بل أيضاً السياسية والمالية والعقائدية.
هذه العوامل معطوفة بعضها على بعض، ستمنح اشخاصاً، في معظمهم صغار السن، متنصلين من ضرورات التسوية الاجتماعية ومن قيود اقامتهم الجسدية، اصواتاً وازنة في الحيز السياسي، وتدفع بالآراء الشائعة إلى حدود متزايدة التطرف والعنف، باسم المشاركة الفاعلة والسيادة الشعبية وحكم الغالبية التي تنطق باسمها الفئة الناشطة. وما يفاقم أخطار هذا المنحى في بلادنا، رقة حاشية السلطة المركزية، وغياب السلطات والهيئات المتعددة والمستقلة، بحيث يبدو كل صراع لدينا صراعاً على قمة الحكم لا على آلياته وسياساته، وتختزل الأنصبة الاجتماعية والاقتصادية والقانونية إلى السياسي بمعناه الضيق.
يطرح المجال الافتراضي، إذا ما قطنه البشر وبنوا داخله هوياتهم، تحديات خطيرة على أسس الديموقراطية “الباردة” والهادئة، والبطيئة السير، بخاصة في بلد كلبنان مفعم بالرغبات والحماسات على أنواعها وبهوى استقبال آخر الجديد، من دون ترسيخ اسس صلبة لما سبق. للرد على هذه التحديات، قد تكون أولى الخطوات التفكر ملياً في دروس عيش الناس، في ظل الحروب الأهلية، حين كان القتل حماسة وانتصاراً، والمخدر والكحول عشقاً، والاغتصاب والتدمير الذاتي نشوة. لم تكن تلك فقط خدعة اللغة، بل كان أيضاً مكر المشاعر الدفاقة الممجدة بما يفوق قدرة الناس على التعايش محدودين بعضهم ببعض، بما يحفظهم سالمين من أذى أنفسهم قبل أذى الآخرين. اثر ذلك، تنبغي معاودة تعريف الأمل وشروط عمله ¶
فادي العبدالله

الذكاء الجمعي والانفتاح الشبكي للوثائق الرقمية
مع تطوّر التقنيات الرقمية دخل الكثير من المصطلحات والمفاهيم الحديثة إلى العلوم كافّة، ومن ضمن هذه المفاهيم الذكاء المشترك أو الذكاء الجمعي الذي نعرّفه “ببساطة” من دون الدخول في متاهات التعاريف التقليدية للذكاء بشكل عام. فهو، بحسب ما نراه، الذكاء الآتي من مشاركة عدد من الأشخاص في حل مسألة ما عبر التواصل والتبادل المباشر او الافتراضي.
لنفكر في الإفتراضي انطلاقاً من عينين مغمضتين غار منهما الضوء. ففي عماه، رأى الكاتب والشاعر خورخي لويس بورخيس الكتب يتواصل بعضها مع بعض، وكلماتها تتنقل من نص الى آخر، في عتمة الليل. ويبدو ان رؤى بورخيس ذهبت الى أبعد مما يدركه البصر. والحال ان نصوص الكتب وكلماتها تدخل بعضها الى البعض الآخر، وبحرية أوسع مما حلم به بورخيس، بفضل التقنيات الرقمية وشبكاتها. ويحمل ذلك معنى مختلفاً عما حملته كلمات بورخيس. وإذا فكرنا أن كل نص هو إنتاج لتجربة الذكاء البشري مع الوجود، فإن الوصلات الالكترونية تحمل أكثر من مجرد مد جسر بين نص وآخر، إذ تصبح علاقة إفتراضية (قد تدوم أبعد من عمر الورق) بين ذكاء وآخر. يخبرنا الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر أن الكائن له أبعاد تتصل بالوجود البشري كله، متعيّنا بزمانه ومجتمعه. في هذا المعنى، كيف يمكن التفكير في صورة مئات آلالاف من الشباب الذين يمارسون الألعاب الالكترونية عبر القارات؟ اي تفاعل وتداخل ومشاركة بين ذكائهم كأفراد، وما يتضمنه تفكيرهم الفردي من علاقات مع تاريخ الانسانية وزمانها الراهن وتطورها أيضاً؟
لا بدّ من القول أولاً إن النظم الطبيعية تقوم على أساس تعاوني لا تنافسي أو فردي، وإن الذكاء الجماعي (الجماعي) هو أصل التطور الإنساني. على سبيل المثال، من أهمّ الأشكال المعروفة للذكاء الجماعي – الجمعي هو مملكة النمل التي تنفّذ مجموعة من العمليات بشكل منظّم، وكلّ نملة لها دور محدّد للمساهمة في القيام بعملية ما. حتى انه في استطاعتنا القول: تعلّموا من النمل، فاتحادها المعرفي يؤدي للوصول إلى حلول ذكيّة دائماً.
ان معالجة موضوع الذكاء الجمعي يتم من خلال ارتباط هذا المفهوم بتطور التقنيات الرقمية، وخصوصاً النشر الإلكتروني، إضافةً إلى مراقبة مواقع الـ”ويب” التفاعلية ووسائل الإتصال الشبكية (الإنترنت)، وذلك بهدف تبيان آلية الوصول إلى إنتاج المعرفة وتحسين الأداء المعرفي والإنتاج الفكري من خلال الموسوعات الإلكترونية أو ترابط الوثائق في ما بينها أو من خلال المصادر المفتوحة. وكما نعرف، لا يمكن الشعوب أن تعيش بأمان إلاّ من خلال التشارك في نظم او أنظمة موحدة ورمزية كالإشارات، واللغات، والعادات، الخ.
إن مبدأ شبكة المعلومات وجد منذ 40 عاماً، حين تم في 29 تشرين الأول 1969 اول تواصل بين حاسوبين، اذ أرسل مهندسو جامعة كاليفورنيا في مدينة لوس أنجلس ومركز ستانفورد للبحوث أول معلومات بينهما، في ما عُرف باسم “أربانت”. وكان ذلك مبنياً على التبادل والتشارك لحل مشكلة نقل المعلومات بين أجهزة الكومبيوتر. فهذا المفهوم الجمعي البارز حالياً ليس بجديد فعليّاً من حيث ارتباطه بالتطور التقني، بل هو قديم.
كما ان الذكاء الجمعي كعملية، وُجد عند الإنسان في اللحظة التي بدأت فيها عملية التواصل الإنساني من خلال اللغة مهما يكن شكلها أو رموزها. فذكاؤنا وإنتاجنا المعرفي مبنيان على إنتاج سابق، ألا وهو توارث المعلومات من جيل إلى جيل. فما يغني المعرفة ليس البشرية في ذاتها، بل الذاكرة الجماعية بشكل عام.
ولدت الشبكة العالمية “الإنترنت” من خلال تواصل الحواسيب وترابطها في ما بينها للتشارك في الموارد الرقمية على أنواعها. وكما يقول بيار ليفي، فإن هذا الترابط سيكون مؤشراً الى التطور وارتفاع الذكاء الجمعي.
الكلام عن الذكاء الجمعي مرتبط حاليا بالتطوّر السريع لأدوات تبادل المعلومات. فالتغيّرات الحاصلة ليست بارزة من ناحية الزمن، إنها حاضرة وواضحة للأفراد وتختلف ليس في عقود زمنية كما كان سائداً قبل التطوّر التواصلي، بل في حقبات زمنية بسيطة جداُ من عمر الشعوب. إذا أخذنا التغيّرات التي حصلت في زمن اختراع الطباعة، فقد حصلت تغيّرات كثيرة ومهمة لكن تأثيرها والأخذ بها لم يكونا مباشرة بل رويداً رويداً. أما في عالم الحواسيب والتواصل والهواتف النقّالة والساتلايت، فالتطور يحصل بفترة وجيزة جداً. هكذا فإن جيل الشباب مثلاً حصل في خلال 18 عاماً تقريباً على كلّ هذه التغيرات، ولم يكن انتقاله من نظام تواصلي إلى آخر خلال فترة زمنية طويلة بل شبه آنيّة.
اول ما يُبرز عملية الذكاء الجمعي هي الشبكات الاجتماعية. ذلك أن تطوّر الذكاء الجماعي استخدمته كل المؤسسات والطبقات الإجتماعية من خلال الوثائق الرقمية. البارز مثلاً، أن ثمة برامج معلوماتية “ذكية” تعمل على المراقبة الالية لمواقع الشبكات الإجتماعية واهتماماتها لتوجيه الدعايات المؤاتية لها كالعمر، والأصدقاء، الخ.
من هنا بدأنا نلمس تطوّر مفهوم الذكاء الجمعي المولّد ذاتياً وآلياً
auto generated لاستنتاج معلومات جديدة من خلال تفاعل المعلومات والمفاهيم في ما بينها، بطريقة بدأت تختلف عن الوضع الحالي للـ”ويب” المبني على الطلب من خلال الكلمات المفاتيح وتقويم الصفحات بحسب خوارزمية  pagerank وتقويم الوثائق الرقمية من خلال العلاقات الفائقة النصية، التي هي علاقات فائقة وثائقية، ترتبط افتراضياً في ما بينها لتشكّل هذا العالم السيبرناتي. أي أن الوثيقة تحمل في طيّاتها معلومات تتفاعل في ما بينها للوصول إلى معلومات جديدة من خلال استخدام المعرفة المبنية على قاعدة الإستنتاجية الطبيعية (naturally deduction) لتشارلز سندرس بيرس.
إذاً، القيمة هي في المعرفة، وفي إنتاج المعرفة من معرفة سابقة أو معلومة سابقة. وهذا ما بُنيت على أساسه عملية التواصل عند كلود شانون في أولى مراحل اختراع الحاسوب. فالمعلومات، والمعرفة، وتنظيم المعلومات، وتحليل المحتوى، هذه كلها تساهم في إنتاج معرفي جديد.
لم يعد هناك مستخدم سلبي. كلّ مستخدم هو منتج للمعرفة ومستهلك لها. اذاً، لم تعد العملية التواصلية أحادية التوجه كما هي الحال في الراديو والتلفاز والكتاب، بل نحن في حركة معرفية ليست فقط دينامية انما تفاعلية.
تتطلب ضرورة التفتيش عن حلول لمعالجة الوثائق الرقمية وتعقيداتها، اتحاداً وتفاعلاً بين مجالات عدّة. فتطوّر الذكاء الجماعي لا يمكن أن يتم إلا من خلال خلق معايير للتحليل ولتبادل الرموز اللغوية. هكذا فإنّ أول معضلة لعملية التبادل قد حلّت من خلال معايير لغات توصيف الوثائق وخصوصاً الـ html وحالياً الـ xml . وبما ان الهدف هو التفتيش الآلي للوصول الى المعلومات، فعلى الوثيقة ان تكون “ذكية” بذاتها، اي ان تتفاعل مع باقي الوثائق وفي لغات عدة، وهذا مبني على الترجمة الالية.
بيد أن الرموز اللغوية لا تزال في طور البحث على رغم أننا نشهد تطوراً في برامج الترجمة الآلية التي ستساعد ليس المستخدم (الإنسان) فقط بل البرامج (الروبوت) التي بدورها تقوم بتحليل محتوى معين لاستخدامه، بالتلازم مع وثيقة أخرى وفي لغة مختلفة، وخصوصاً الـ”ميتاداتا”، لما لها من أهمية للوصول إلى المعلومات الرقمية المطلوبة من دون الإبحار في خضمّ من الوثائق ليست دائماً مؤاتية لما نفتّش عنه. هنا تأتي التوجيهات لاستخدام ما يسمّى الأنطولوجيا. لكن يبقى الاستخدام الطبيعي للغة من دون الدخول في ترميزها رياضياً، أكثر نفعاً للمستخدم من دون الغوص في تحليلات معلوماتيّة. فتوجهنا هو نحو بناء برامج معلوماتية سهلة وقابلة للفهم وللاستخدام كما كلّ الأشخاص، بغضّ النظر عما إذا كانوا ضليعين في عالم المعلوماتية أم لا. المشكلة في الدلالة! فإذا وجدنا طرقاً لرفع الالتباس آليّاً فإنّ مجموعة كبيرة من المشكلات ستحلّ.
البرامج “المفتوحة المصدر”
في الآونة الأخيرة، اتخذت مؤسسة أميركية مشرفة على تنظيم سريان المعلومات على الانترنت، خطوة عملاقة، وجديرة بالتأمّل. فقد جرت العادة منذ انطلاق الإنترنت على إعطاء عناوين الكترونية لكل كومبيوتر متصل بالانترنت (بقول آخر، لكل ذكاء متصل بالشبكة الدولية للكومبيوتر)، باستخدام اللغة الإنكليزية، التي صارت لغة معيارية، في هذا المعنى، لسريان المعلومات على المعلومات، إذ أنها اللغة التي تتحدّد بها جغرافيا كل ذكاء متصل بالذكاء الجماعي الذي تضمّه الإنترنت. وزيادة في رسم صورة التحديد جغرافياً، يجدر التفكير في أن هذه الهيئة الأميركية، واسمها “أيكان”، تدير الحركة الأساسية لإنتقال المعلومات (وما تحويه من ذكاء وجودي) على الانترنت، بالاستناد الى مجموعة محددة من الكومبيوترات العملاقة (عملياً، تسمى “الأُطر الأساسية” (“ماين فرايم” Main Frame). ثمة تحدّد جغرافي مركزي في لغة الإنترنت، فكأنها تنطق بلسان واحد عن تحدّدها في المكان. ويزيد في قوة التحدّد والمركزة، غلبة اللغة الإنكليزية على المحتوى المتوافر في أشكاله كلها. بقول آخر، هناك مركز جغرافي تمثل الانكليزية لغته الوحيدة. لذا، من المستطاع القول، من دون كبير مجازفة، إن الأمر يشبه اسطورة بناء برج بابل في التوراة. فبموجب ذلك النص الديني، تآزر البشر في بناء برج تشامخ باستمرار، طالما أن البشر استطاعوا التفاهم بلغة موحدة جمعت ذكاءهم وصبّته في عمل موحد. وإذ غضب الرب من السعي المتفاخر للإنسان – الديكتاتور، عمد الى حلّ لا يزال إدراك غاياته عصياً: إعطاء لغة لكل مجموعة. وتقول التوراة إنه لما تبلبلت ألسنة البشر، وفقد ذكاؤهم الجمعي عصب تواصله الأساسي، إنهار ذلك البرج. أتسير الإنترنت نحو مصير مشابه؟ وأيّ سماء كانت تروم التطاول لملامستها؟
يسير التجديد في حركة تصاعدية دائمة في ما يخص أدوات التواصل والمعلومات، ويصبح من الصعب اللحاق دائماً بما يتم إنتاجه. تصبح الوثائق الرقمية ومعالجتها معقدة وصعبة أكثر فأكثر. هذه الصعوبة مرتبطة بتعددية وجهات النظر، وتعددية تمثيل المعرفة، وبالأهداف المرتبطة بالتحليل والتأويل.
إنّ أكثر ما يترجم مفهوم الذكاء الجماعي والذكاء التعاوني، هي البرامج “المفتوحة المصدر” (Open source) المبنية على أن كلّ من يملك معرفة ما تساعد في التطوير، يمكنه أن يساهم في تغذية البرنامج. هذه الآليّة كانت قد وضعتها حركة حرية وبرامج مفتوحة المصدر free and open source software هدفها وضع آلية جماعية للتطور تساعد في الإنتاج المعلوماتي (من أهم مراجع الذكاء الجماعي هو نظام التشغيل   Unix وبعده نظام Linux). هذه الآلية قريبة جداً من مبدأ بناء المعرفة العلمية أكثر منها الى مبدأ المعرفة التبادلية بهدف تجاري، على رغم أن المحركات البحثية عن المعلومات تستخدم الذكاء الجماعي باستغلال المعلومات الفردية للبيانات لكي توجه إعلاناتها.
يحدد فليكس ستاندلر مبادئ ما يسمّيه “الذكاء التعاوني” بما يأتي:  أوّلاً الوصول غير المحدود إلى المعلومات التي وضعتها المجموعة الإفتراضية، بعد ذلك تقويم المشاركة في العمل لهذه المجموعة، ثمّ نظام السلطة المبنيّ على الإشتهار أو السمعة، فالناشر يصبح معترفاً به.
وأخيراً، فإنّ كل مستويات الأنظمة مبنية على الجدّية في الإنتاج، وبحسب أهمية الإنتاج، ولا يوجد “منع” لأيّ كان من المشاركة شرط أن تكون المساهمة مثمرة.
فمع انفتاح الشبكة على الجميع بدأت تتطلّب هذه العملية آليات اجتماعية، تقنية وقانونية. فالإنترنت سمحت بأن يكون للكلّ إمكان الكتابة والقراءة، والمساهمة في البناء واستخدام ما بناه الآخرون. كلّ كاتب هو قارئ ومنتج، وبالعكس. هذا اجتماعياً، أما تقنياً فهذه المبادئ مبنيّة على خلق محطات عمل معلوماتية تساعد الجميع. أما من الناحية القانونيّة فمبدأ معيار الـ “copyright”  تحوّل “copyfree”  أي إعطاء الحرية الكاملة للتوزيع وللتغيير في البرنامج.
“الويكي”
من الواجهات التي اصبحت معروفة، بما تحويه من معلومات منافسة لما هو مطبوع حتى من مئات السنين، فإنّ موسوعة “ويكيبيديا” مثال آخر على الذكاء الجمعي، فهي مبنية على نظام معلوماتي يدعى “ويكي” يسمح تقنياً لكل شخص بأن يبدأ بالكتابة. هذا البرنامج يحافظ على كل تواريخ التغيرات والزيادات في تغذية الموسوعة مما يسمح أيضاً بمتابعة تغيرات المحتوى زمنياً وبإمكان محو كل ما هو مصدر للشك في المعلومات وما يستخدم للتعمية أو التضليل.
مما لا شكّ فيه أن انضمام المتخصصين المتزايد الى “ويكيبيديا” أدى إلى تصحيح جزء لا يستهان به من المعلومات ومراقبة المعلومات الحديثة والجديدة. فالأخطاء الموجودة في تدنٍّ دائم لأن “العيون” الساهرة كثيرة، ما يجعل شخصاً آخر يصحح معلومة خطأ. وهكذا دواليك. فالـ”ويكيبيديا” تقدّم المثال “الحي” على ديناميّة المعلومات الرقمية.
إذاً، العمل التعاوني فعّال والمعلومات موزّعة. إن عملاً كهذا لا يمكن أن يتم من فرد واحد حتّى للكتابة في مجال أو اختصاص محدّد ومن اختصاص باحث محدّد. أيّ باحث لا يمكنه أن يلمّ بكل ما يحيط بمجال ما. فالذكاء الجماعي يساعد في تنظيم هذه الآلية بشكل سليم وجيّد ومفيد.
صدقية الوثائق الجماعية
التأكد من المعلومات أو من المعرفة المنتجة والمنشورة يبقى مسألة مهمة بالنسبة الى النشر والإنتاج التعاوني. المسألة محلولة بالنسبة الى البرامج المفتوحة  “open source”من خلال تنفيذ البرنامج المعلوماتي. فإذا تمّت عملية التنفيذ، وعمل البرنامج بشكل صحيح ومتطور مع وظائف جديدة، فإنه يصبح مطوّراً ويُقبَل ويصبح معتَمداً في ذاته. من ناحية الموسوعات المطبوعة والوثائق، ترتبط المسألة بمجموعة مصحّحين ومدقّقين من كلّ النواحي، وإذا كان العمل جيّداً يُنشر. أمّا بالنسبة الى الوثائق الرقمية فالمسألة مختلفة لأنّ الإنتاج أو النشر يتمّان آليّاً في الوقت عينه وتصبح الوثيقة تحت تصرّف القارئ. ولكن يوجد تدقيق مفتوح، وهذا ما يمكن أن يؤدي إلى “تفاهم” جماعي حول ما تمّ نشره. وهو تفاهم مقبول من المساهمين، ويعني أن وجهة النظر مقبولة من الجماعة. ولكن إذا كان هناك خطأ لم يُجرَ كشفه، ووافقت عليه الجماعة، فإنه يصبح مشرّعاً، مما يؤدي إلى ضعف ما تحويه “ويكيبيديا” من معلومات. النقاش دائر حول هذه النقطة حالياً لإيجاد حلّ لهذه الإشكاليّة: فمنهم من يقترح أن نميّز بين من هم خبراء ومن هم “عامة” novice أو ناقصو خبرة في مجال ما، وأن يكون هناك مراقب للمعلومات. ولكن تبقى هذه المسألة صعبة نظراً الى ضخامة المشروع الموسوعي، على عكس البلوغ “blog” الذي يهدف إلى المساهمة حول مسألة محدّدة.
أخيراً لا بدّ من التنويه أنّ مبدأ المشاركة والتعاون والذكاء الجماعي دخل إلى عالم الصحافة والإعلام، حيث يتم الحديث حالياً عن الصحافة المفتوحة المصدر، الصحافة المواطنية، لكي نعرّف بآلية التعاون المماثل للنشر وللنقاش حول نصوص صحافية وإعلامية.
الذكاء الجمعي وآلية الاستخدام
ان الذكاء الجمعي للمستخدمين يتولد من حاجاتهم.  وقد أتى هذا التطور في عالم التقنيات من فكرة الاستخدام والممارسة والالمام، وليس من فكرة المستخدم، بما يعني ان استخدام التقنيات غير مبني على ما يحدّده المنتج من الوظائف المتاحة للالة، ولكن على ما يحدده المستخدم. فتطور الانترنت لم ينشأ في المختبرات كما تجري العادة في عملية الانتاج والتسويق التقني بل على أيدي المستخدمين، بذاتهم ولذاتهم. البنية الهرمية من ناحية خلق البرامج المعلوماتية والتواصلية ليست من الاعلى الى الاسفل وانما بالعكس، وذلك من خلال الالية التعاونية التي جمعت متطوعين فاعلين على شبكة المعلومات. فالتجديد تصاعدي، وهذا من اهم الخصائص الاساسية لتطور مجتمع المعلومات. هذه المبادئ نتجت من المدرسة الوظيفية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي لتجيب عن السؤال: ماذا تفعل الميديا بالناس ولكن بطريقة معكوسة: أي ماذا يفعل  الناس بالميديا؟ اذاً، هذه التغيرات الـ”براديغماتية” ادت الى البحث عن العلاقة بين المستخدم وادوات التواصل. فالفرد يصبح شخصا فاعلا من خلال اشهاره لاحتياجاته الاجتماعية واليومية. لم يعد المستخدم ملزماً أخذ ما يُصنَع، ذلك أن المستخدم يجبر المنتج على انتاج ما يحتاجه. من اهم الامثلة على ذلك خدمة “اس ام اس” SMS في الهواتف النقالة التي لم تكن مأخوذة في اعتبار المنتجين. يسمح التملك بتطوير المعرفة من خلال معارف الافراد الذين يستخدمون التقنيات يومياً وهم على تواصل دائم مع هذه الادوات، وهذا الاستخدام الدائم يؤدي الى الخلق والتطوير. على سبيل المثال، فإن العاملين في “غوغل” يفرّغون من وقتهم ساعات اسبوعياً ليحلوا محل المستخدمين.
مثال اخر: جاء تطور الـ”وي في” على يد مجموعة من الطلاب مغرمين بالموسيقى، وهذا ما ادى ايضاً الى تطوير في استخدام خدمات الارسال السريع في شبكات الانترنت.
تشير الابحاث الى أن من 10 الى 40 في المئة من المستخدمين يعيدون تطوير ادواتهم لكي تساعدهم في حل مسائلهم وتحسين اداء ما يستخدمون، كما انهم يتبادلون ما يطورونه. فالمستخدم يفتش عن ادوات تقوم بخدمات جديدة اما المنتج الصناعي فيقوم بتطوير ادوات تنفذ العمليات نفسها ولكن بطريقة اسهل وافضل.
التحديث بالاستخدام على عكس التحديث من المنتج، يوزَّع ويصبح شائعاً من خلال تبادل الفاعلين وتقاسم ما ينجز في غالبية الاحيان بدون مقابل مادي، على عكس الانتاج الصناعي الذي يتم لاسباب تجارية، كما انه معياري. فآلية التحديث تبدأ دائما بنواة لتصبح دائرة، ومن ثم تتشابك لتصبح عنكبوتية. اخيرا صح المثل القائل: الحاجة أمّ الاختراع ¶
غسان مراد

عن “أَوْبَمة” السياسة وأسطورة الديموقراطية الرقمية!
مواطنية رقمية جديدة
يتحدث بيار بورديو أثناء مناقشته فكرة “اريستوقراطية الثقافة” عن خطيئة “لا يمكن أن تكون جمالية في أي شكل من الأشكال”، تقتضي دحر ما يسمّى “الحد المقدّس” الذي يجعل “الثقافة الشرعية” عالماً منفصلاً بذاته. بحسب بورديو أيضاً، تصبح عملية الدحر هذه ضرورة كي يكتشف المرء علاقات تجمع بين خيارات تبدو غير قابلة للقياس ظاهرياً، كالمفاضلة بين الطعام والشراب، الرسم والرياضة، الأدب والشعر وغيرها.
وجدت هذه العملية معادلاً لها في مكان آخر غير متوقع: لحظة فوز الرئيس الأميركي باراك أوباما بالانتخابات الرئاسية، حين خبرت الجماهير “انفجاراً ناعماً” فدحرت حدوداً غير مرئية تعزل الافتراضي عن الواقعي. كان ذلك ضرورياً لاكتشاف علاقة تبدو أيضاً غير قابلة للقياس ظاهرياً بطريقة تقليدية. إذ جرى بسهولة قياس تفوق الرئيس الأميركي باراك أوباما على منافسه جون ماكين، وبدا مستعصياً الجزم في شأن المفاضلة بين الانترنت ووسائل الإعلام التقليدية، وخصوصاً التلفزيون، في أثرها على الناس.
في هذا المعنى، لو قُدّر لهذه العملية ان تتحول لوحة مرسومة، لظهر أوباما بوصفه الرجل- البطل الذي لا يخشى “تهشيم” مواقع مكرّسة كانت سائدة قبلاً، تتصل بالطرق السليمة لاستمالة الجماهير، وخصوصاً سطوة وسائل الاعلام التقليدية (والتلفزيون) وتلاعبها بالعقول. من دون كبير مجازفة، يمكن القول إن انبهار الجماهير بجمالية لحظة الانتصار الأوبامي، عكس قوة الوسيط الإفتراضي (الانترنت) وقدرته على التلاعب بالأفكار المسبقة والمخزون الثقافي والسياسي وحتى الاقتصادي، في حكم الناس على أوباما وصورته الجميلة أو حتى السامية، كما قدِّمت حتى بعيد انتخابه.
الأكيد ان وصول أوباما إلى البيت الأبيض طرح على بساط البحث مدى تغيّر وجه السياسة كما نعرفه، مع دخول الانترنت. ظهر أن أوباما أول رؤساء الانترنت وأجيالها. هذه بداية للوقوع في فخ جمالية لحظة انتخابه. أوباما رئيس غير تقليدي بكل المقاييس. إنه شاب، يسهل تماهيه مع الشباب، وهم الشريحة الأبرز لمستخدمي الشبكة. أوباما أسود البشرة، كأن قوة الانترنت قبضت على حقوق حارب الأميركيون والأفارقة لأجلها مدى عقود من الزمن. صعد أوباما من طبقة كادحة، في إشارة الى قدرة الوسيط الرقمية على دحر مفهوم النخبة التقليدي.
لنتمهل. إذ لا يشكل فوز أوباما بالرئاسة سوى رأس جبل الجليد في ظاهرة تأثير الانترنت في السياسة، على رغم أنها، أي الانترنت، حصدت الفضل كله في بروز تلك الظاهرة بجلاء. ثمة نقد مديد للإنتخابات الأميركية تقول إنها تعكس فكرة “الرابح يحصد كل شيء”. بعض هذا حدث مع أوباما، وهذا نقد أيضاً، إذ حصد التصنيفات الأولى في محركات البحث، وحصد عدداً غير محدود من “الطرق” والوصلات المؤدية إلى مواقعه الرسمية، وحصد مرتبة قياسية في أكثر الاسماء بحثاً على الانترنت، في حركة إلغائية لمن سبقه. سطوع أوباما، أعمى الأبصار عن حقيقة مفادها ان أولى بوادر نجاح الانترنت في تغيير الهندسة السياسية جاءت مع حملة المرشح الديموقراطي هوارد دين، في 2004. دين هو “المغامر الافتراضي الأول”، بعدما أثبت قدرته على تحريك مواطنين كانوا في سبات سياسي، ما حقّق له صعوداً لم يكتمل. بعد أربع سنوات، تضاعف عدد الذين يلجأون إلى الانترنت والهواتف النقالة للحصول على معلوماتهم السياسية في الولايات المتحدة. أتى أوباما مستفيداً من أخطاء حملة دين، فاجتمع حوله أرباب عالم الانترنت. ووصل إلى البيت الأبيض.
مواجهة شرسة
أثناء حملة أوباما وبعدها، قُدّمت الانترنت في وصفها وسيلة نقدية وأصيلة، في التضاد مع التلفزيون الذي بدا تقليدياً فيه، وحتى زائفاً. على رغم كل ما تحمله كلمة “نقدي” من ادعاء، تكرّرت الأوصاف المنبهرة بالانترنت في آلاف المقالات التي تناولت تأثير الشبكة العنكبوتية في حملة أوباما والسياسة. أدى الأمر الى إشكالية، إذ قُّدم امتلاك مفاتيح التعاطي مع الانترنت باعتباره قوة في ذاتها. لكن الشبكة الافتراضية مجرد وسيط، وتستلزم نظاماً متكاملاً لتحقيق مبتغاها في امتلاك القدرة التقنية نفسها. في إيطاليا مثلاً، لم يفض مع رئيس وزرائها سيلفيو برلوسكوني، إلى نتيجة إيجابية. وفشلت الانترنت في الدفاع عن برلوسكوني وطرد أشباح فضائحه الجنسية المتكررة. لم يمنع ذلك من تداول عبارة “السياسة اون لاين” باعتبارها السياسة نفسها. يذكّر الأمر بمقولة ميشال فوكو عن “نظام الحقيقة”، حين لا تعود عبارة “المعرفة هي القوة” تعبّر عن العلاقة بين هذين الطرفين. رأى فوكو ان القوة تكمن فعلياً في كيفية انتاج الحقيقة، التي هي عبر علاقة دائرية بمنظومات تنتجها وتصونها، ولا تعود المشكلة محصورة في ضرورة تغيير وعي الشعب بل في النظام السياسي، الاقتصادي والدستوري، المنتج لهذه الحقيقة.
تنطبق المقولة الفوكوية على حملة أوباما التي برعت في استخدام الانترنت ليس كمجرد وسيط، بل كطريقة لإنتاج الحقيقة عن الرئيس، والتواصل مع الأجيال الشابة. انتج نظام الحقيقة الافتراضية أوباما كرجل يحمل لواء التغيير. وراج الكليب القصير “نعم نستطيع” عبر “يو تيوب” بشكل فيروسي ليتفوّق على عشرات الساعات الاعلانية المتلفزة. نابت مواقع الشبكات الاجتماعية (فايسبوك وماي سبايس) عن الإعلام التقليدي في تعريف أربعين في المئة من مناصري أوباما بـ”حقيقته” كمرشح منقذ. وتحالف موقع “ماي باراك أوباما” (ترجمته: أوباما الخاص بي، أو أوباما كما أعرفه، وهذا يحمل دلالة الإيهام بإنتاج الحقيقة)، مع حشد من المواقع لدعم الحملة الأوبامية.
بعد أشهر من أرشفة البيانات حول ملايين الداعمين، ظهرت قاعدة معلومات رقمية، فتحوّل هؤلاء قوة. مكّنت قاعدة البيانات الافتراضية من تحويل التبرعات الصغيرة (62 في المئة منها عبر الانترنت) قوة و”شيئاً” يمتلكه مرشّح وحيد، فتكرّس استهلاك الإعلام كوجه للصراع السياسي ذي البعد الثقافي والذي تمارس فيه كل أنواع التنازع على السلطة. استطاع أوباما ان يؤمّن انعطافة نحوه، والتفافاً على حملته من خبراء الشبكة العالمية، واستخدام تقنيات متقدمة فيها. كان التجاوب هائلاً عبر تنظيم فائق السرعة أتاحته الشبكة للمناصرين، والذي عنى قرباً وحميمية لم يستطع التلفزيون ولا الصحف مجاراتهما.
باتت الرسالة الانتخابية تُسلّم من الرئيس إلى المواطن، بعد منحها صفات افتراضية مشخصنة، فكأنها صُنعت لأجل ذلك المواطن. هذه الحميمية التقنية هدفت الى التمويه على حقيقة ان تلك الرسائل ليست شخصية البتة، وأنها جاءت من واسطة عامة، وأنها تكررت ملايين المرات!
إلا ان ظاهرة أوباما في السياسة، أو “الأوبمة”، لم تكن نتيجة لبراعته في تسخير التكنولوجيا لصالحه فحسب. زاوج أوباما بين حمله راية الشباب والتجديد، ورمزية أفعاله وأقواله، وأضاف إليها افتراضية الإنترنت، ومزجها مع التركيز على شخصه بذاته (بالمقارنة، ركزت هيلاري كلينتون على انها امرأة مثلاً). أخذت تلك الأمور الحوار إلى أرض أعلى، أكثر فلسفية. للمفارقة فإن أهم الفلاسفة الأميركيين الذين تداول الرئيس اسماءهم، كان راينولد نيبوهر الذي يعرّف الديموقرطية بأنها “إيجاد حلول تقريبية لمشكلات لا حل لها”. اتّبع أوباما الفيلسوف نيبوهر بطريقة ما عندما قدّم مفهوماً متضارباً للأمور، وهو ما لم يكن لينجو بفعله عبر وسائط تقليدية. أي انه ابتكر لنفسه هوية من دون أن يحدّ نفسه بحواجز، مدعوما بالآف الاحتمالات الالتفافية: أريد ان أغيّر العالم لكن لا أعلم كيف حتى اللحظة، وهو في حقيقة الأمر حل تقريبي لمشكلة لا حل لها، على طريقة ديموقراطية فيلسوفه المفضل.
يمكن القول ان “أوبمة السياسة” ظاهرة لا تزال بعيدة من تناول معظم سياسيي بلداننا العربية، ولو ان الغيرة من نجاح “الأوبمة” أصابتهم، وخصوصاً اننا شاهدننا في أكثر من مكان كيف يتم تحويل شبكة الانترنت أداة بيروقراطية تشبه غيرها من وسائل الترويج التقليدية. يكفي تذكر استخدام جمال مبارك موقع “فايس بوك” للرد على رفض شريحة واسعة من المصريين للتوريث.
في هذا المعنى يبدو أن “أومبة” السياسة ليست محض تكنولوجية، ولو انها تستمتع بلعبة التكنولوجيا بدءاً من الجهاز الـ”بلاكبيري” الخاص، مروراً بالحرص على جعل موقع البيت الأبيض “متصلاً” بالأميركيين ودائم التحديث. هذا كلّه يعيدنا إلى عام 1960 تاريخ المناظرة التلفزيونية الشهيرة بين المرشحين جون كينيدي وريتشارد نيكسون، وما قيل وقتذاك انه لولا صورة التلفزيون لما وصل جون كينيدي إلى سدة الرئاسة. ثورة التلفزيون أوصلت رئيساً. ثورة الانترنت أوصلت رئيساً أيضاً.
أخذت الانترنت تحقق وعدها مع أوباما، يقدم نفسه بصفته حامل راية الديموقراطية الجديدة. تبدو سياسات الفضاء الافتراضي متحمسة لإلغاء ديموقراطي للتفلزة عبر إدانته بالأحادية. الأكيد ان الانترنت تقدّم آلاف المصادر، فتبدو أكثر ديموقراطية من الوسائط التي ترتكز على المصدر الوحيد للمعلومة. ولكن، ثمة مخادعة أيضاً. ماذا لو عدنا الى الأسئلة التي طرحها المفكر الأميركي ماثيو سكوت هندمان في كتابه “أسطورة الديموقراطية الرقمية”؟ هل الانترنت تجعل السياسة أقل حصرية حقاً؟ وهل تعطي الناس العاديين القوة على حساب النخب؟ هل زادت أنواع المشاركة السياسية بسبب الانترنت؟
الأكيد ان نجاح سياسة الانترنت يتصاعد بوضوح، لكن ذلك صنارة مغرية للقيام باستنتاجات خاطئة. لا يمكن نكران نجاح الانترنت في دمقرطة السياسة، لكن هناك أكثر من فشل لهذا الوسيط ينبئ بأزمات لا تقل عمقاً عن تلك التي تسببت بها وسائل الاعلام التقليدية.
عند النظر في مدى قدرة الانترنت على ردم الهوة الواضحة بين النخب وعامة الناس، يقفز مصطلح “الهوة الرقمية” إلى الواجهة. فعلى رغم توسع استخدام الانترنت بشكل هائل خلال التسعينات، فإن الفئات المحرومة من الملوّنين وغير المتعلمين وسكان المناطق الفقيرة، بقيت متأخرة في ذلك. ثمة فارق آخر يأتي من الفارق بين الاستعمال المتمكن للإنترنت ومجرد الدخول إليها. ثمة احصاءات حديثة تشير الى تباطؤ درامي في نمو جمهور الشبكة العنكبوتية، منذ 2001، ما يضرب فكرة ان صعود الإنترنت هو مدّ جارف يكتسح اللامساواة.
من جهة أخرى، تلغي الانترنت وجود طبقة متعددة الاهتمام أو وسطية في خياراتها، وتبدو كأنها تزيد الوعي بين الأشخاص المهتمين أصلاً بالسياسة، لكنها تحدث مفعولاً عكسياً تماماً بالنسبة الى غير الخبير بها أصلاً.
بعكس الانطباع الأولي، لا تتساوى كل الخيارات على الشبكة. فكلما تدبّر موقعٌ ما دروباً أكثر للوصول إليه (بالتشبيك مع المواقع الاجتماعية تحديداً) أصبح اكثر عرضة لزحمة المتصفحين، وارتفع موقعه في محرّكات البحث. لا تعوز البعض قوة القلب للحديث عن “تمييز عنصري على الفضاء الإفتراضي” (“سايبر أبارتيد” cyber apartheid). منذ أواخر القرن الماضي، ساد حديث عن تلكؤ الفلسفة وتباطئها في تنظير الموكب المتسارع للتقدم في العلم والتكنولوجيا. يزيد ظهور التلكؤ مع القوة التي تصب فيها التقنيات في الحياة اليومية وتغيّرها. لعل ظاهرة أوباما والانترنت ليست سوى قمة جبل الجليد في إلحاح الحاجة الى الفلسفة وتوليها مهامها الأكثر إساسية وعمقاً ¶
مايسة عواد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى