‘سيرة مهاجر سري في باريس’ لمصطفى شعبان: الكتابة عن الهجرة كتابة عن الوطن الأم.. أيضا!
محمد غرافي
يندرج هذا المقال في سلسلة من الأبحاث عن أدب الهجرة المكتوب بالعربية الذي نشتغل عليها منذ عدة سنوات سواء في الإطار الأكاديمي بجامعة تولوز بفرنسا ( قسم الأدب العربي) أو عبر مقالات وندوات عن الموضوع خارج المؤسسة التربوية. وإذا كان أدب الهجرة بشكل عام يتبوأ مكانة مهمة في تاريخ الأدب العربي الحديث بدءا من تيار المهجريين وصولا إلى مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين من خلال الجنس الروائي ( الطيب صالح، سهيل إدريس…)، فإن أدب الهجرة الجديد الذي ظهر في التسعينيات يتميز بخصوصيتين: أولاهما أنه يتناول موضوع الهجرة في شكلها السري. فأبطاله ليسوا مثقفين عرباً يدرسون في جامعة السوربون ويعشقون أوروبيات داخل أسوار الجامعة أو في مسارح الحي اللاتيني، بل شباباً هربوا من بشاعة الفقر والحاجة في بلدانهم الأصلية، ويقطنون في أحياء شعبية مثل باربيس باحثين قبل كل شيء عن لقمة خبز. وثانيتهما أن كُتّابه شباب خاضوا في أغلبهم تجربة الهجرة السرية في أوروبا واستثمروها في شهادات أدبية أطلقوا عليها في غالب الأحيان صفة ‘ السيرة’ ( ‘ سيرة مهاجر سري في باريس’ لمصطفى شعبان، 1998) أو ‘ اليوميات’ ( ‘ يوميات مهاجر سري’ لرشيد نيني، 1999)، إضافة إلى أن بعضهم ـ مثل مصطفى شعبان ـ دخلوا غمار الكتابة لأول مرة عبر موضوع الهجرة السرية.
لقد صدر للمبدع المغربي مصطفى شعبان سنة 2008 رواية ‘ مرايا’ بدعم من وزارة الثقافة المغربية ومجموعته القصصية ‘ وردة الشاعر’ (طريفة، المغرب) كحصيلة طبيعية واستمرارية لما كان قد بدأه في عمله السردي الأول، ‘ أمواج الروح’، الصادر سنة 1998 (طريفة، المغرب) من تطرُّق لإشكالية الهجرة. ما يهمّنا في هذا المقال هو تناوله لموضوع الهجرة السرية في رواية أو سيرة ‘ أمواج الروح’.
يضعنا نص مصطفى شعبان منذ البداية أمام إشكالية الجنس الأدبي. فالغلاف لا يشير مباشرة إلى نوع الجنس الذي كتب فيه حتى وان كان العنوان الفرعي يحيل إلى السيرة ( ‘سيرة مهاجر سري في باريس'(.
والحقيقة أن هذا التأرجح داخل النص بين السيرة والرواية يبدو أشدّ إغراء للدخول إلى عوالمه السردية. إنه يجعل من صميم العملية الإبداعية فعلا طبيعيا لا يصطنع الأحداث والوقائع وإنما يجاريها في تموقعاتها الزمانية والمكانية بشكل أقرب إلى التلقائية منه إلى البحث عن مكمن لها داخل هذا الجنس الأدبي أو ذاك. وسواء اعتبرنا النص رواية أو سيرة فإن الموضوع الذي طرقه المبدع مصطفى شعبان يكتسي أهمية بالغة من حيث مرجعيته الاجتماعية التي تحيل على موضوع الراهن المغربي: موضوع الهجرة السرية.
رحّال نموذج المهاجر السري:
النص عبارة عن اثـنتي عشرة لوحة أطلق الكاتب على كل واحدة منها: موجة. وللرقم ذاك دلالة واضحة، لأن النص يحاول رصد الحياة اليومية العسيرة للمهاجر السري في باريس طوال العام كله مع ما يكتنف كل موجة من أحداث ترتبط ارتباطا مباشرا بظروف العمل والإقامة والهروب من رجال الشرطة. غير أن النص لا ينغلق نهائيا عند الموجة الثانية عشرة، لأنه ينفتح مباشرة على عنوان موجة أولى يعقبه البياض، وكأن مصير المهاجر السري هو أن يعيش نفس الوضع ويدور في حلقة مفرغة معيدا رغما عنه نفس الحياة الرتيبة التي لا تنتهي، وكأن أمواج البحر أيضا تظل تلاحقه حتى وإن كان قد استطاع بقدرة قادر النجاةَ منها عابرا مياه المتوسط الباردة. هاهنا تكمن إحدى السمات الفنية الجميلة في نص ‘ أمواج الروح’، لأن ما يتبادر إلى الذهن من خلال العنوان الرئيسي وصورة الغلاف هو الجوّ المُهول لعذاب الرحلة على متن قارب خشبي. غير أن محتوى النص يحيط بحياة ما بعد الوصول إلى النقطة المشتهاة حد الموت بالنسبة للشباب المغربي المطعون داخل الوطن. إنه يعالج موضوع الهجرة السرية من حيث تنتهي عذابات السفر، أي من حيث تبدأ عذابات أخرى ورحلة أخرى كانت قبل الوصول إليها تبدو جنات عدن وعالما سحريا لذيذا. لذلك تظل الأمواج المرعبة حاضرة حتى ورحال يستقل المترو والباص في باريس ويحمل محفظة ويرتدي ربطة عنق ويشتغل أو يعشق ويشرب جعة أو شايا منعنعا: ”شمّ فيه رائحة الحريق وخوف البسينة فستعرفه يا رحال، أهوال الرحلة ما زالت بادية عليه ولم يبلها الوقت بعد. إنه ما ازال يقلقنا في النوم بكوابيس أهوالها كل مرة )…( نصحته أن يزور المرابطين الموجودين بلالة ‘ مونمارت ‘ ولكنه لم يسمع لنصيحتي…’ ص 48.
النص مشحون بعوالم نفسية رهيبة تشكل أرضية بالغة الخصوبة للتحليل النفسي، لأن ما من لوحة / موجة إلا وتغوص بالقارئ في أعماق ذات مكسورة مرغمة على الخضوع تارة وعلى الغضب تارة أخرى، مثقلة بطبقات سميكة من اللاشعور الجمعي الذي يرتطم فجأة على صخرة ثقافة أخرى مرغوب فيها تارة ومرفوضة تارة. الطفولة الشقية سرعان ما تطفو كحلوى مشتهاة على سطح الحياة اليومية لمهاجر سري يحس برأسه يشتعل شيبا وبالحياة تمضي بسرعة فائقة غير آبهة بمتمنيات الحراق ولا بوضعه الآني.
لقد ركز الراوي كثيرا على رصد الحالات النفسية لنموذج الحراق في انزعاجها وسكونها، في اغترابها وألفتها، وفي حالات النوم واليقظة، واستبطن أغوارها وفق تبدّل الأمكنة: في البار والورش أو داخل الحجرة، وجعل مما أسماه بحوار الصمت بوابة للإمساك بمكنونات الذات، حتى أن ما من صغيرة أو كبيرة إلا وتصير بؤرة بالغة الأهمية في حياة رحال يعير اهتماما لأدق تفاصيل حياته اليومية من وجهة نظر ليست هي نفسها بالنسبة لمهاجر في وضعية قانونية:
‘ رقصات نحلة تمزق الصمت الرابض في الحجرة، تنتقل من اليمين إلى الشمال ثم تصعد في السماء وتنزل على الأرض في شكل دائري، ترتع من حلاوة السكر)… ( ولا من يسألها: أهي في وضعية قانونية أم لا؟ أعندها الفيزا التي تعطيها حق الدخول إلى هذه الحجرة أم لا ؟ )… ( أنت لا شك أوروبية تمارسين حقك الطبيعي،وتستفيدين في تنقلاتك من اتفاقية شنغن…’ ص 19-20.
وبنفس هذا الرصد لما هو ذاتي، لا يغفل الراوي الصورة الخارجية للذات أي مظهرها الذي ينعكس على ما هو نفسي بشكل مباشر. وهكذا ندرك مثلا أن على الحراق، لكي ينجو من قبضة العفاريت – أي رجال الشرطة – أن يتقمص شخصية أخرى لا علاقة لها مظهريا بشخصيته الحقيقية، فتتعدد الأدوار وتصير حياة الحراق في باريس عبارة عن مسرحية لا نهائية متعددة اللوحات والفصول وتغدو الأشياء نفسها من صميم هذه المسرحية وتتقمص هي بدورها أدوارا غير أدوارها الحقيقية:
‘ أعود اليوم بعد أن طال بي الزمن لأحمل المحفظة من جديد لا لتعليم أو لتدريب، ولكن لأخفي فيها ذاتي المرفوضة، وأركب ذاتا أخرى حتى أبدو بالمظهر الأنيق وحتى لا اكون مصيدة للعفاريت ‘ ص 11.
ثم يضيف مقارنا محفظة الصبا )المحفظة الحقيقية) بمحفظة الحراق (المحفظة الزائفة):
‘ جيوب محفظة الصبا بها دفاتر وكتاب للمطالعة وأقلام، أما محفظة الكبر فلا ورقة فيها ولا دفتر ولا أقلام، ما عدا قلم كبير لا يصلح للكتابة بل لضبط مقاييس البناء والكهرباء، فهو غليظ يفسد شكل الورق. وفي الجيوب الأخرى أشياء بعيدة عن عالم الفكر قد يحضر بعض من هذه الأدوات عند علماء الحفريات، ليس لنفس الاستعمال ولا نفس الغاية..’ ص 12.
الخوف من ‘العفاريت’ / الخوف من الوطن:
العفاريت هنا آدمية. إنها أشباح رجال الشرطة السريين والعلنيين. وفي لغة المهاجرين العرب السريين بفرنسا يطلَق على هؤلاء ‘الحْنوش’ أي الثعابين، نظرا لغدرهم وحنكتهم في اصطياد فريستهم من ‘الحراقة’. إنهم يقفون حاجزا منيعا ضد كل حرية في تجول هؤلاء والمشاركة في الحياة اليومية كما يحياها كل مواطن فرنسي أو كل قاطن شرعي بهذا البلد. ولذلك، ولعدم السقوط في شباكهم الغادرة، فإن كل مهاجر سري مجبر على تنظيم برنامجه اليومي وفق ما يقتضيه الحذر التام من السقوط في شباك المخبرين. من ذلك مثلا أنّ على المهاجر السري أن يتفادى التجول ليلا في الأماكن التي يرتادها رجال الشرطة بكثرة، وان أن لا يكون في هندامه ما يثير الشكوك من حوله، وان لا يدخل المقاهي التي يرتادها بائعو المخدرات وان لا يستقلّ أبدا وسائل النقل بدون تذكرة، وهلمّ جرا…
يقول الراوي: ‘ أرتاب لكل بذلة تشبه بذلة العفاريت لأني أشكل ظاهرة مستحدثة لا يطيقها أحد. أحارب كما يحارب مهربو الحشيش أو السلع السوداء ‘ ص 28.
إن نص مصطفى شعبان لا يكتفي فقط بوضع القارئ العربي إزاء هذه المعطيات التي لا تخفى على أي امرئ رافق أو عاشر بعضا من المهاجرين السريين في باريس، بل يذهب إلى أبعد من ذلك ويحاول الإحاطة بالمخلفات النفسية التي تنتج عن هذا الوضع. ويعد الخوف من ‘ العفاريت’ محور كل هذا الكيان النفسي المهدد في كل لحظة وحين ٍ بالانهيار المطلق. ولا غرابة في أن تبدأ سيرة رحال بهذه العبارة التي يصوغها الراوي في ما بعد بأشكال وأحداث متعددة: ‘ الهاجس القابع في ذاتك يا رحال هو السقوط في شبكة العفاريت الآدمية ‘ ص 9. إن الخوف من السلطة في بلد يشكل نموذجا متقدما في الحريات العامة ليس خوفا من الزجر أوالتعذيب، بل هو خوف من العودة، تلك العودة الاضطرارية إلى نقطة الصفر التي تسمى الوطن. إن العودة الاضطرارية فشل وقد تؤدي إلى الحمق: ‘ أفهم من تجربتي هذه سبب الحمق والجنون والأعصاب المكهربة المتفشية بين بعض العائدين عنوة إلى البلدة’ ص 29. ونقرأ في صفحة أخرى: ‘ أفكر في العودة وعودة العودة. أكره..أقلق..ثم تهدأ نفسي وأعصابي وأنا أتذكر ركلات المخزني تلاحق مؤخرتي، أجر كرّوستي لأنجو برزقي ورزق والدتي. نعم هذه غربة، وغربة الوطن غربات’ ص 51-52.
إن العودة التي لا يرغب فيها المهاجر السري بتاتا هي العودة حيا. فالحياة والموت يشكلان طرفي نقيض ليس على المستوى الوجودي أو الطبيعي فحسب بل على المستوى المكاني أيضا. فالحياة كما يصورها النص هي داخل الوطن موت، والموت في الغربة اغتراب ثان غير مرغوب فيه أصلا، هكذا يضحي القلق على الجسد/ الجثة من هموم الحراق الذي يفكر في مصير جثته إذا لقي حتفه خارج الوطن:
‘ حتى موتي سيكون حراقا. من سيعترف بموتي ؟)…( وكيف سينقل جثماني…؟ ص 34 -35. ويضيف الراوي في مكان آخر : ‘ أعود إلى نفسي وأحدثها لأطمئنها على موتها. إن الجسم الذي نجره قد أمّن رحال نقله ومراسيم دفنه، ولن يعود في ‘البسينة’ كما جاء أول مرة ص 35.
إن الموت بدون إقامة شرعية يبدو هو أيضا إخلالا بالقانون، والخوف من الموت كما يبرزه النص ليس خوفا من العدم في حد ذاته إنما هو خوف من مغادرة الوجود الطبيعي دون تحقيق الذات لمشروعيتها في حق الانتماء إلى الوجود الاجتماعي للفرد: ‘ تدور برأسي وفاة ميمون، حراق من نفس المدينة، مات ولم ينتبه إليه أحد حتى نتنت جثته داخل الحجرة المغلقة، فتدخل رجال الإسعاف لمعرفة مصدر الرائحة فكان ميمون. عاش مغلوبا ومات مغلوبا’. ص 36.
الاغتراب الثقافي:
يشكل الاغتراب الثقافي ظاهرة معروفة في الوسط العربي بأوروبا، ولكنه يتضاعف لدى رحال وأمثاله من الحراقة. شخصيتان رمزيتان تتقاسمان أعماق رحال النفسية: السيد حمدون ـ وهو من الحمد ـ يشدّ رحال إلى القيم الاجتماعية في الموطن الأصلي، والسيد أنتجري ـ ومعناه المندمج ) في الفرنسية ( ـ يلح على رحال أن يتكيف مع الواقع الجديد. الأول يدعو إلى الاستقرار والثبات وملازمة المكان / الوطن والثاني مغامر، متحدّ ٍ، يدعو إلى التحوّل :
‘ أنت حراق يا رحال فلا تنس، يهتف بداخلي حمدون’ ص 79.
‘ من الداخل يحدثني جنين باريس، السيد أنتجري: تكيف مع الجديد وتفتح على نافذة الثقافات فهذا زمن الكات، زمن التبادل الحر. عليك أن تطمئن أين أنت، لا أن تعرف أين أنت…’ ص143- 144.
بين هذين القطبين المتضادين تتراوح شخصية رحال وتعيش صراعا نفسيا مريرا. فهي تمارس الطقوس الدينية تارة وتشرب الجعة تارة أخرى :
‘ تسكن جوفنا يا سعيد مئذنة وملهى (…) مرة انقول انصلي ومرة انقول انغنى’ ص 47.
بين هذا وذاك ترتطم النفس على صخرة الانفصام وتتفرقع شظايا. إنها تبحث عن العيد مثلا بأجوائه الدينية والاجتماعية والعائلية ولا تعثر سوى على وهم الاحتفال وتتجدد نفس الأوهام إلى أن ألفها رحال وصار الحنين إلى الوطن بعادته وتقاليده وبعض قيمه يضمحل شيئا فشيئا:
‘ حمدون يتعب وأنتجري يقوى ويترعرع ‘ ص60.
ولأن على المهاجر السري أن يجد حلا عاجلا لتسوية وضعيته وإيجاد مكان له داخل المجتمع، فإن البحث عن امرأة يصير الهاجس الأول الذي يضارع هاجس الخوف من ‘ العفاريت’. فيضعنا الراوي إزاء شخصية الحراق التي لا مفر لها من القبول والاستسلام لأول فرصة زواج تقع بين يديه، وإن كان ذلك على حساب كل آماله ومبادئه التي كانت لا محيد عنها في الوطن: ‘ فيصبح العور خفيفا كالحول، وكبر المرأة على الرجل من علامات الرزانة والعقل والحكمة في شؤون الحياة، والمطلقة بأولادها تهون، فهما رزقان لا واحد، والسكيرة حرة في سلوكها فنحن في أوروبا، التدخين ليس عيبا، يطرد البعوض والذباب من المنزل، والسمنة تخف بالرجيم. فلا معيار في التحديد إلا بالقبول’ ص140.
ويشكل التواصل مع الآخر مظهرا من مظاهر هذا الاغتراب، فهو اختبار للذات حين تكتشف بعض الشخوص أن الأمّية تشكل حاجزا كبيرا في الخروج من وضعية حراق: يقول سعيد لرحال :
‘ أنسيتني أن أقول لك عن la blonde التي راحت لسبيلها. كانت عشيقتي فأعييتها بالرموز’. يتأفف تأففا ويترجم حزنه ويقول : وحسرتاه لماذا لم أقرأ’ ص 47.
الكتابة عن الهجرة كتابة عن الوطن الأم:
يطرق نص مصطفى شعبان محاور ومواضيع متعددة تصب كلها في إطار الحياة اليومية للمهاجرين السريين. فالبحث عن مأوى أو مستقر، والهروب من مصيدة الشرطة، والبحث عن امرأة، والحنين إلى الأم في الوطن، والإصابة بأمراض نفسية وجسدية كنتيجة نهائية لهذا الوضع الرديء، والخوف من الموت في بلاد أخرى…كل ذلك ـ كما يصوره الراوي ـ ناتج عن الوضع الأكثر رداءة في الوطن. إن رحال مسكون بهوس الخوف من ‘ العفاريت’ ولكنه يفضل ذلك على ركلات ‘ المخزني’ في الوطن وهي تلاحق مؤخرته رغم ما ينزع إليه من حنين إلى ثقافة وقيم يفتقدها أشد الافتقاد في الغربة. إن اللوحات التي ترسمها سيرة رحال لا تراوح مكان إقامته الجسدي – باريس بل تتلاحق مدا وجزرا في كيانه النفسي فيصير المكان منشطرا بين الهُنا (باريس) والهُناك (الوطن) وتصير مأساة رحال هي مأساة كل شاب غادر الوطن أو لم يغادره.
إن’ أمواج الروح’ ليس نصا سرديا ووصفيا فحسب لبعض مظاهر الحياة اليومية للمهاجر المغربي السري في باريس، لأنه لا يكتفي بتصوير حالات اليأس والإحباط والمعاناة التي يكتوي بسعيرها بل يعد إدانة صريحة لواقع مغربي هو المسؤول الأول والأخير عن الوضعية الخطيرة التي آل إليها شباب هذا الوطن في مستقبله المفقود. يقول سعيد: ‘ لقد كان جمال في الجامعة وحصل على الإجازة، وحرق منذ أربع سنوات(…) هنا استوت، نعم ( كيف كيف) ومن الأفضل أن لا تكون من الجامعة، فجمال لا يستطيع الحفر ولا يعمل إلا في الصيف ويطرده الحِرفيّ كلّ مرّة ‘. ص 47.
شاعر وأكاديمي مغربي مقيم بفرنسا