‘الثوريون لا يموتون أبداً’ حوار مع جورج حبش: ‘حكيم’ الثورة الفلسطينية يتكلم ويشهد
ابراهيم درويش
في سؤال للفرنسي جون مالبرينو للمناضل الفلسطيني جورج حبش (1925 2008) الذي تحل ذكرى وفاته الثانية اليوم عما حققه المناضل خلال خمسين عاما او يزيد من النضال، اجاب الزعيم المعروف بـ ‘الحكيم ‘: من حين الى آخر، استيقظ خلال الليل وانا افكر ما الذي تم تحقيقه خلال تلك السنوات الستين المنصرمة على صعيد الكفاح المسلح، استعادة الارض، قيام الدولة عودة اللاجئين؟ ما الذي حققناه من مكتسبات بالقياس الى هذه الشعارات التي رفعت عند انطلاق المسيرة؟ فعلى الرغم من مرور ستين عاما من التضحيات الجسيمة ووضع القضية الفلسطينية على خارطة العالم وتقديم عشرات الالاف من الشهداء، لم نحقق اهدافنا الوطنية بعد. لكنني اشعر باعتزاز لمشاركتي الفاعلة في تحرير اليمن الجنوبي بالقدر نفسه من التفاني في نضالي من اجل القضية الفلسطينية’. وفي اخر المقابلات التي نشرت بالفرنسية وصدرت ترجمتها العربية العام الماضي يقول المناضل الكبير ان اعترافاً اسرائيلياً بحق العودة للفلسطينيين كما تطالب منظمة التحرير الفلسطينية’ لا يكفي، فانا مع عودة كل فلسطيني الى المكان الذي جاء منه بما في ذلك الى اراضي الـ 48. انا اريد العودة الى اللد، المدينة التي ولدت فيها، لقد قام الاسرائيليون منذ بعض الوقت بتدمير منزلي لمحو الرمز التاريخي الذي مثله ذلك المكان. فالاعتراف دون العودة الفعلية لا يكفيني’. ومع ان ‘الحكيم’ كان يعرف قبل وفاته، وربما ظل واعياً بالحقيقة لو بقي بيننا اليوم، ان اسرائيل لن تقبل هذه الشروط لكنه كمناضل آمن طوال حياته بمبادئه، عاشها وقاتل من اجلها يرى ان ما يملكه الفلسطينيون لا تملكه اسرائيل، الزمن. صحيح فموازين القوى يمكن ان تتغير في المستقبل و ‘عندما تصبح المعايير الدولية ملائمة بالنسبة الينا سيكون بامكاننا ان نصر على تحصيل الاعتراف بحق العودة. انا مع دولة ديمقراطية وتعايش سلمي بين اليهود والفلسطينيين ، تلك هي فلسفتي. وسأواصل النضال حتى النفس الاخير من اجل تحقيق هذا المثال’.
قطعة حية من التاريخ
نتذكر كلمات الحكيم ورحلته في تاريخ فلسطين كما نتذكر رحلة الشهداء والقادة ممن كرسوا حياتهم لها وضحوا من اجلها. وفي قصة من قصص الشهداء والقادة نقرأ قطعة حية من تاريخ هذا الوطن الذي يقاوم زمن الاختفاء والمحو. ومذكرات جورج حبش والتي جاءت على شكل مقابلات تمنحنا الفرصة للدخول في صميم تجربته منذ ان ترك فلسطين (1944) طالبا للدراسة بالجامعة الامريكية، الطب، ثم العودة اليها عبر الاردن والضفة الغربية ليسجل لنا اقوى شهادة عن سقوط مدينته اللد عام 1948 وتشريد اهلها وفظائع العصابات الصهيونية التي قتلت الرجال والنساء وسرقت حليهن. وعن طريق الجلجلة الذي ساره الفلسطينيون اياما دون ماء هربا من جحيم ما حدث في مدينتهم. يقول حبش ان اهل مدينة اللد التي سقطت في تموز (يوليو) 1948 لم يكونوا يتصورون انهم يقتلعون من ارضهم ووطنهم ومن حدائق الصبار والجميز. ويتذكر صرخات الجنود اليهود في ذلك اليوم المحزن وهم يقولون للفلسطينيين ‘اذهبوا الى الملك عبدالله انه مسؤول عنكم’. مع سقوط اللد وجدت عائلة جورج نفسها لاجئة مع ان العديد من العائلات دفنت مقتنياتها الثمينة على امل العودة السريعة. تمنح قراءة ذكريات ‘الحكيم’ قارئها صورة عن المناضل الرومانسي الذي لم يدع رومانسية الثائر تقف امام فهمه للواقع وحركته. ومعها نقرأ تمسكا بالمبادىء حتى النهاية ورفض كل اشكال التنازل ودعم خيار المقاومة حتى لو تعارضت الرؤى الايديولوجية ما دام الطريق يقود الى فلسطين.
العروبة اولا
بدأ جورج حبش عروبيا وحدويا، واسس مع رفاق اخرين حركة القوميين العرب ووجد ان تكريسه لحلم العروبة يقف امام مشاركته الفاعلة في العمل الفلسطيني وبين وحدويته وفلسطينيته آمن بالخيار الايديولوجي الماركسي كطريق للتحرير. وما يهم في رحلة ‘الحكيم’ هو حرصه الدائم على وحدة الصف الفلسطيني وتجنبه الدخول بمعارك الاشقاء والتزام ادبيات الخلاف. وفي نهاية المذكرات تنتصر رومانسية الثائر الحالم الديمقراطي على خط المساومة والتسوية القائمة على الثوابت الفلسطينية. ومن قال ان الثورات لا تبدأ بالاحلام ولا تنتهي الا بتحقيق الحلم وهذا الشعور هو الذي يرافق قارئ رحلة ‘الحكيم’ الذي اكد على طهورية الثائر. وفي داخلها تبرز صورة انسانية له خاصة في ولائه لزوجته هيلدا واعترافه بكفاحها وصمودها معه في كل الازمات وانقاذها لحياته عندما اصابته اول نوبة قلبية.
الحزن على رفاق الطريق
وفي المذكرات ايضا حزن والم على فقدان رفاق الطريق من الشهداء الذين اعطوا وقدموا ارواحهم من اجل القضية وشهادته في محمد الاسمر (غيفارا غزة) مهمة لانها تعيد التذكير بحكاية الثائر الذي دوخ جيش اسرائيل وقائده موشي ديان قبل ان يموت في معركة مفتوحة بغزة عام 1973. ونفس الامر يقال عن وديع حداد، الذي ارتبط اسمه بعمليات خطف الطائرات ويقدم فيه شهادة تؤكد على انسانية حداد وتكريسه حياته للقضية وعمله الدائب ليل نهار حتى سممته الموساد. وكذا شهادته في غسان كنفاني الذي اكد على اهمية البعد الشخصي في العلاقة مثلما فعل مع حداد اضافة لاعترافه بأهمية التراث الفكري والادبي الذي قدمه كنفاني واصداره ‘الهدف’ التي اصبحت الناطق باسم الجبهة الشعبية. وفي احيان اخرى نقرأ نوعا من الخيبة والحزن خاصة عندما اشار الى كتابة التاريخ المنقوصة، حيث اشار الى انه عندما قام هاني الهندي وهو من مؤسسي حركة القوميين بكتابة تاريخ الحركة بدون الرجوع اليه على الرغم من مرجعيته التاريخية للحركة التي قامت بعد نكبة فلسطين ورفعت شعار ‘وحدة، ثأر، تحرر’ وكان المفكر القومي العربي قسطنطين زريق الاب الروحي للحركة التي قامت على فكرة وجود علاقة ديالكتيكية بين الوحدة وتحرير فلسطين، ولكن هذه النظرة ستتغير عندما وضع هذا الايمان موضع التطبيق اذ وجد المناضل نفسه في ميدان التناقضات العربية من اليمن الى ظفار والجزير ولكن هذا الطريق وان قاده مرة اخرى للميدان الفلسطيني الذي بدأ منه مناضلا وللجماهير التي كانت تؤم عيادته في عمان الا ان الطريق في الميدان الفلسطيني كان مليئا بالتناقضات والمعارك التي قاتل فيها حبش دفاعا عن مبادئه وطهورية الثائر ودفاعا عن وحدة الهدف والمشروع الفلسطيني، فحبش كما يخبرنا ان ما ميز خط حركته الثوري عن بقية الاطر الفلسطينية خاصة فتح هو الاطار الفكري الذي كانت تفتقده فتح. ويدافع عن خطف الطائرات التي جاءت كمحاولة لمواجهة العدو الصهيوني الذي كان يرد كلما تسلل الفدائيون لفلسطين باجراءات امنية مشددة ومن هنا جاء خطف الطائرات جزءا من وضع القضية على خريطة العالم وضرب المصالح الامبريالية والصهيونية.
عبد الناصر الثابت على المبدأ
ويجب ان نعود الى البداية القومية التي قادته الى جمال عبدالناصر الذي التقاه عام 1964 وحمل عنه الكثير من الذكريات الجميلة، فمع ان العلاقة بين القوميين العرب وناصر تراوحت صعودا وهبوطا الا ان ناصر يمثل بالنسبة لحبش ذلك الزعيم الصادق المخلص لأهدافه، البسيط، الدمث، الذي يشعر زواره بأنهم في حضرة صديق قديم. ويقول انه كان معجبا بذلك الرجل ‘الذي كان يجمع بين القوة والبساطة والنزاهة وطهارة النفس وتلك هي الصفات التي ميزت ذلك الرجل الوطني’ ويفرق هنا بين عبدالناصر ونظامه خاصة المخابرات التي حاولت احيانا وضع حدود بين الرجل ومؤيديه وعمل حركة القوميين وتتدخل في شؤون الحركة، ومهما يكن من امر فان تجربة الوحدة والانفصال اكدت لحبش على اهمية العمل الفلسطيني وان الانخراط بالعمل الوحدوي يجعل الطريق لفلسطين ملتويا ولكن، هذه اللكن اللعينة، لا يمكن للثائر ان يتخلى عن واجباته القومية، من بين كل الرموز التي تملأ الكتاب يخرج القارئ بتلك الصورة الدافئة والحميمية عن ناصر الذي يقول ان هزيمة عام 1967 وان كانت ضربة قاسية له الا انها اكدت صورته كقائد صلب قوي الارادة يرفض التراجع حتى اللحظة الاخيرة. ومع ذلك لم يكن ناصر بدون اخطاء فهو يرى في تقييمه لمعركة 67 ان ناصر كانت لديه ثقة مبالغ فيها بالجيش. وتظل تلك الايام السود حيث علم بنبأ سقوط القدس من الاذاعة الاسرائيلية وبكى يومها وزوجته .
جيل يا ظلام السجن
وفي المعنى الايديولوجي لقد خسر العرب معركة وان كانت موجعة لكنهم لم يخسروا الحرب، فالنزال لا زال مفتوحا وهو كما شكله شعار الجبهة ‘وراء العدو في مكان’ وسيظل هناك من يحمل اللواء، بالعودة الى بداية مذكراته، فحبش كان من جيل تربى على حب الشهادة والموت، وهو الجيل الذي عاش ايام الانتداب وغنى في الشوارع ‘يا ظلام السجن خيم اننا لا نخشى الظلاما’ وهو الجيل الذي شاهد ملحمة الشهادة الفلسطينية كما سجلها الابطال الثلاثة: محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي ‘لا زلت حتى اليوم اتذكر وجه استاذنا المبلل بالدموع’ ومدير المدرسة توفيق ابو السعود الذي كان يلقي كل صباح خطابا حماسيا امام الطلاب. مهما كان الامر فحب جورج حبش لعبد الناصر متلون بحبه للوفاء والالتزام بالمبادئ ولهذا فهو ينتقد سياسات خلفه السادات الذي يرى ان الحرب التي اعلنها عام 1973 كانت من اجل الدخول في تسويات وتحرير سيناء. وعلى الرغم من اعجابه بتضحيات الجيشين السوري والمصري الا انه يرى ان انجازات الجيش جاءت نتاجا لعملية اعادة بنائه التي تمت بعد الهزيمة عام 1967 خاصة ان محمد فوزي كان في منصب وزير الدفاع.
في سجن المخابرات
المثير ان الكثير من الاحداث الهامة على صعيد القضية اندلعت لسبب او لآخر اندلعت وهو في مهام ثورية ـ فمعركة الكرامة اندلعت اثناء سجنه في سورية من قبل استخبارات عبدالكريم الجندي الذي كان قد اقسم ان حبش لن يرى النور لكن رفاقه هربوه الى لبنان ومنه للعراق ثم الى الاردن حيث وصل ليواجه معركة جديدة من اجل الحفاظ على كيان الحركة الذي كان مهددا بالانشقاق، وهو ما حدث بخروج نايف حواتمة وتشكيله الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، نظرا لاتهامه قادة الحركة بانهم مرتبطون باليمين الفلسطيني. ومع ان حبش حاول الحفاظ على وحدة الصف في حينه الا انه يتساءل بعد خمسين عاما من الحادث انه من يقف الآن على يمين او يسار الحركة. وبنفس السياق حصلت المواجهات مع الجيش الاردني اثناء رحلة له الى كوريا الشمالية التي تركت لديه انطباعا مهما وهو فكرة عبادة الشخصية التي تتمظهر في كل شيء ويتذكر ان الكوريين اهدوه لوحة مطرزة عليها امرأة كورية تحمل الفأس في حقل لا زالت تزين غرفة الجلوس في بيتهم بعمان.
الانشقاق
بعد عودة حبش الى عمان حاول التمسك والقتال حتى النهاية من اجل البقاء في الاردن لانه لم يكن يريد خسارة الجبهة الاردنية. ويؤكد ان الجبهة لم تبدأ الحرب على خلاف ما يقال ويثار. وضمن هذا يقدم فهما لخطف الطائرات التي يقول انه كان ضروريا للمقاومة ‘كنا مقتنعين ان النظام الاردني ينوي ان يمنع بشكل نهائي النضال الفلسطيني انطلاقا من اراضيه’. لكن هذه الجهود لم تمنع خروج المقاومة التي وجدت لها ارضا جديدة واعداء واصدقاء جددا. قراءة مذكرات حبش هي قراءة للتناقضات التي كانت تطبع الساحة العربية والفلسطينية ومعها ايضا التعرف على طبيعة الخيارات المفروضة على الثوار. فمثلا وبعد اندلاع الحرب الاهلية في لبنان يقول ان القوى الوطنية كانت تقترب من الانتصار وحسم المعركة لصالحها مما دفع بالقوى الانعزالية للاستنجاد بامريكا التي دفعت سورية للدخول للبنان. وبعد الاجتياح وخروج المقاومة اختار حبش الاقامة في سورية وبرعاية من حافظ الاسد، ولكن حبش لديه الدفاع والمبرر الكافي لتبرير خياراته او ما يبدو تناقضا ظاهريا. ولا بد من الاشارة الى رؤية حبش للحرب اللبنانية التي يقول انها حرب فرضت على الفلسطينيين خاصة انها حرب بين طوائف وطبقات اجتماعية. ويتذكر حبش الزعيم اللبناني كمال جنبلاط الذي اغتيل عام 1977 والذي يقول انه كان يشكل نمطا فريدا من السياسيين، كان نباتيا واهدى اليه كتاب ‘العلاج بالقمح’ وكان ينام مبكرا في التاسعة مساء. ويعتقد ان اغتيال جنبلاط كان ضربة ادت لفقدان الفلسطينيين حليفا استراتيجيا هاما وان دخول السوريين كان يهدف لمنع تحول لبنان الى بلد ديمقراطي داعم للفلسطينيين.
اخطاء الثورة
اعتراف حبش بأهمية وأثر الوضع الاستثنائي للبنان لم يمنعه من الاشارة الى اخطاء الفلسطينيين التي قال انها ترجع الى تعدد القيادات وغياب النهج السلوكي، فقد كان من ‘الممكن لقوى اليسار ان تظهر تميزها’. في قراءته لتجربة الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 يقول ان شارون كان يحاول اعادة تجربة عام 1967 باستخدام قوة ضاربة وانهاء المقاومة وهذا الخيار وضع الثورة امام خيارين احلامهام مر. واختارت المقاومة الصمود البطولي لاكثر من ثمانين يوما بشكل جعل من صمود بيروت ملحمة واسطورة، حيث حققت المقاومة ما عجزت عن تحقيقه الانظمة العربية. انتصرت اسرائيل عسكريا وانتصرت المقاومة معنويا وخرج المقاومون باسلحتهم لكن خطأ المقاومة هذه المرة انها تركت المخيمات بدون حماية ولا يعفي نفسه من مسؤولية ترك الفلسطينيين بدون لجوء.
الخروج من بيروت
وعلى الرغم من الايام القاسية للحصار وايامه الا ان الخروج من بيروت وتركها كان الاقسى حيث يقول ‘عشت اياما مرة في كثيرة خلال مسيرتي النضالية ولكنني لا اذكر انني شعرت بحنين، بقسوة ذلك الحنين الذي شعرت به عند مغادرتي بيروت، تلك المدينة التي لا تشبهها اية مدينة في العالم العربي، انها عاصمة الحضارة والثقافة والتي تعرف قلوب سكانها كيف تنبض بالحياة في ظلال الموت والاسى والدمار. تلك هي بيروت التي امضيت فيها اجمل سنوات شبابي، الرحيل كان قاسيا’ لكن المعركة لم تنته على الرغم من خذلان النظام العربي والانظمة التي ‘لم تفعل شيئا من اجل المقاومة في يوم من الايام وانها عملت حتى على اضعاف القضية الفلسطينية’ و’لكننا كنا وما زلنا نراهن على الشعوب العربية، الشعوب المهمة بالنسبة الينا’. راهن حبش في رحلته الطويلة والجبلية الصعبة على الخيار الشعبي ومنذ كارثة فلسطين وعندما بدأ مع رفيق دربه حداد بتعليم ابناء المخيمات على الخيار الشعبي، فبعد حرب عام 1973 والتي انتصر فيها العرب يعلق قائلا ان الكثير من الفلسطينيين ظنوا ان الدولة الفلسطينية لم تعد حلما بعيد المنال ‘لكنني واصلت الاعتقاد بان نصرنا لن يتحقق الا بعد حرب شعبية طويلة وقاسية ومريرة، لقد حافظت على قناعتي بضرورة وضع اسرائيل امام الامر الواقع، عبر خلق معطيات جديدة على الارض لكي نتمكن من انتزاع حقوقنا بالقوة’. من بين الشخصيات الاشكالية التي تتردد في داخل المذكرات علاقة حبش بعرفات التي تتراوح من النقد الى الاعجاب.
عرفات الاحترام المتبادل
ويرى حبش ان عرفات، الرئيس الراحل كان شخصية من الصعب التكهن بها. ففي احيان يكون النقد بسبب قدرة عرفات على شراء الاخرين مع ان حبش يؤكد ان عرفات رحمه الله كان يعرف مبدئية الحكيم ولهذا لم يحاول معه. وفي احيان اخرى ينتقد لعلاقته بالبرجوازية الفلسطينية او اليمين، واحيانا اخرى لايمانه بخيار التفاوض الذي بدأ يتمظهر بعد حرب رمضان ولايمانه بقدرة النظام العربي على حل القضية الفلسطينية لكن عرفات وان كان شخصية مثيرة للجدل براغماتيا ويحاول جمع الخيوط كلها بيده قبل ان يحدد موقفه الا ان الحكيم لا ينسى اللمسات الانسانية لعرفات من ناحية سؤاله عن صحة الحكيم في ازمات الاخير. وبالمجمل كان هناك تناقض مبدئي بين عرفات وحبش لم يحجب العلاقات الانسانية والاحترام، فمثلا عندما امرت سورية عرفات بالخرو ج منها وامهلته 24 ساعة تأثر الحكيم وكان معه في المطار ليودعه. كان اخر مرة التقى فيها عرفات عام 1992 وشعر بالحزن لوفاته. وعلى الرغم من الاختلاف فالاحترام هو ما كان يطبع العلاقة بينهما ‘وصورة المسجد الاقصى التي نعلقها في غرفة الاستقبال في منزلنا هي هدية قدمها لي ابو عمار وهي عبارة عن تحفة فنية من صنع فنان ايطالي’. ويرى ان تسميمه اهانة للشعب الفلسطيني وفي داخل المذكرات نشعر ان اراءه ومواقفه من عرفات هي نتاج مواقف واحداث فهو لا يملك الا الاعجاب به اثناء الاجتياح ويدهش عندما خرج عرفات من طرابلس وذهب الى مصر التي باع رئيسها القضية الفلسطينية.
بريق للاجيال
يتحدث حبش في مذكراته عن نصف قرن من النضال والكفاح وعن وجوه صنعت ذلك الزمن من المناضل الثوري الذي تحول لتسووي وعن رؤوساء وملوك وعلاقته بصدام الذي يقول انه كان زعيما لا يمكن التكهن بتصرفاته وثقته البالغة بالنفس. ويشير الى ان معارضته لغزو الكويت تغيرت عندما استعانت الكويت بالقوات الاجنبية. ويتحدث عن العراق الجديد وازمته الطائفية التي اصطنعها وزعمائه الجدد منهم صديقه الرئيس العراقي الحالي الذي يقول انه لم يعد صديقي بل صار صديق امريكا وتأكيده على اهمية عروبة العراق وعدم تقسيمه. واشار الى ان هزيمة العراق السريعة امام الامريكيين جاءت لعدة اسباب منها غياب خطة المقاومة الطويلة وخيانة داخل قيادة الجيش العراقي. في رؤيته لمظاهر الاسلمة التي تنتشر في العالم العربي يرى انها بسبب انهيار الحلم العربي ورد على الهيمنة الامريكية، فادارة بوش هي مسؤولة عن تغذية النعرات الدينية. ومع انه متشكك من نموذج القاعدة الا انه يرى ان بغض العرب لامريكا يجعلهم يمتنعون عن الاحتجاج على بن لادن. ويفهم حبش تنوع التيار الاسلامي وتوجهاته فهو يرى في حماس وحزب الله تيارين وطنيين يستحقان الدعم مؤكدا ان قادتهما ليسوا دمى لاحد. وكثوري استقال من منصبه ليحرج القادة الذين يموتون على كراسيهم يرى ان الديمقراطية هي المفتاح الذي يمتحن برامج الاسلاميين. وفي احيان كثيرة يرى انه لا بد من تجاوز عدد من القضايا والتركيز على ما يخدم النضال ومعركة التحرير ‘ بالنسبة لحماس، فانا لا اريد ان انظر في الوقت الحالي الا الى نضالها العسكري والسياسي دون النقاش في قناعاتها الدينية ورؤيتها للمجتمع.
رؤية جورج حبش لجيله وعصره مهمة لانها تفتح النظر على تاريخ من الالم والكوارث والخيارات ورحلة اتسمت بالسجن والتشرد والتخفي من الحرس الليلي في عمان وبيروت. ومن مواكب الشهداء الى معارك الشوارع واطفال الحجارة ومحاولات الاغتيال في شوارع بيروت والاختطاف عام 1973و 1986 . ومن الاقتلاع الى الحنين الدائم للعودة وهي وثيقة عن زمن حاضر ومضى وما يميزها هي عدم انفعالها او افتعالها الجدية والصرامة ومثلما اكد حبش ولاءه لوطنه فعائلته ظلت جزءا من قصته وحكايته في النضال ممزوجة مع حكاية عائلته. ولا يتخلى حبش عن حميميته نحو عائلته حتى في احرج المواقف. وفي النهاية نقول مع الراحل الجديد انيس صايغ ان ‘سيرة جورج حبش فيها بريق قادر على هداية الاجيال الطالعة نحو طريق يصل بنا نحو التحرير والوحدة وما يتبعهما من عدالة وحداثة وحرية ومساواة وهي كلها مثل التزمها صاحب السيرة وكرس لها حياته الحافلة بالعطاء’.
الثوريون لا يموتون ابدا
حاوره: جورج مالبرينو
ترجمة: عقيل الشيخ حسين
دار الساقي/ 2009
ناقد من اسرة القدس العربي
القدس العربي