أخبار ثغور الخليج العربي
محمود الزيباوي
تطرّقت مجلة “لغة العرب” العراقية إلى الكثير من أخبار دول الخليج في أعدادها منذ صدورها عام 1911 حتى توقفها القسري عام 1914. واستمرت في تقصي هذه الأنباء عند معاودة صدورها عام 1926، إلى ان توقفت عام 1931، وبلغ مجموع ما صدر منها تسعة مجلدات حوت مئة وعشرة أجزاء. في المقابل، كان للعرب مجلة في الهند تصدر باسم “مجلة العرب” في بومباي، تميزت بنقل أخبار دول الخليج في سنوات الحرب العالمية الثانية بشكل متواصل. يستعيد المؤرخ العراقي طارق نافع الحمداني “أخبار الخليج التاريخية” متقصيا كل ما نُشر في المجلتين، مصنّفا ما ورد فيهما ومعلّقا على ما حملتاه من إشارات بأسلوب علمي مجرّد. صدر هذا البحث عن “دار الوراق للنشر”، وهو مؤلف من فصلين خصّص أولهما للمجلة العراقية وثانيهما للمجلة الهندية.
اختار طارق نافع الحمداني كمقدمة لبحثه مقالة نشرها في تموز 1913 صاحب مجلة “لغة العرب” الأب أنستاس ماري الكرملي “غفلا عن اسمه”، وعنوانها “صفحة من تاريخ الخليج”. يستهل الكاتب مقالته بقوله: “كثر الكلام عن الخليج وعن رسوخ الإنكليز فيه”، ثم يستعرض خريطة الخليج الجغرافية بلغة أدبية رفيعة، ويتوقف أمام موضع “الرأس المسنن أو المسنم” في مضيق هرمز، ويستطرد معلّقا: “وكأن العرب لم يحبوا أن يمدوا أيديهم إلى الإيرانيين لما بين عنصريهم من العداوات القديمة. ترى بلاد العرب توغل في الماء كأنها تنفر نفور الشادن من وجه العدو فيأكل البحر شيئا من أرضها مع أن بلاد فارس تحاول دائما التقرب منها متحببة وكأنها تقول لها: تعالي إليَّ ولا تهربي مني فإننا إن تعاونّا نصبح حرزا حريزا في وجه العدو. أما جزيرة العرب فلا تجاوبها كأنها تعلم أنها إذا مدّت إليها يد المعونة سحقتها بقبضتها قبضة الحديد. وكأن الطبيعة حكمت في الآخر بين البلادين فجمعتهما بعد أن أخذت منهما العهود وشهدت عليهما الشهود أن لا تعتدي الواحدة على الأخرى وآنئذ تصافحتا وتعاقدتا على الولاء والصفاء. فاتصلت بلاد إيران ببلاد العربان وعليه يكون الخليج من الرأس المسنن إلى مدالث دجلة العوراء أو شط العرب”.
بعد هذا الوصف المثير لخليج العرب والعجم، يتحدث الكرملي عن مسار نهرَي بلاد الرافدين، فيبدأ برسم طريق دجلة، ثم يقول: “أما الفرات فإنه من بعد أن يصاحب أخاه دجلة ويتفق معه ويتحد به بحيث الرائي يظنهما واحدا، ثم ينخزل عنه وينشعب ويولي مدبرا هائما على وجهه في رمال الجزيرة وصحراء الشامية حتى يخال الناظر إليه أنه يريد الهرب إلى ديار الشام كأنه يقول في نفسه: بما أن العراقيين لم يقدروا قدري ولم يعرفوا منزلتي ولا فوائد مياهي ولم ينتفعوا بها فإني فار إلى حيث أريد، إلى صديق لي في ديار الشام اسمه “العاصي” لنشقّ كلانا عصا الطاعة على أبناء هذه الديار الذين لا يعنون بالزراعة ولا بالفلاحة ولا بالغراسة ولا ولا ولا… وكأن ناصحا نصحه في نهاية الأمر أن يرعوي فارعوى إذ قال له: يا أخي لا تترك الوطن، إن الوطن عزيز فارجع إليه. وما كاد يسمع هذا الكلام إلا ورجع عن غيّه إذ تراه يعود إلى نحو أخيه البكر دجلة من قلعة نجم مقابل منبج إلى أن يرجع إلى منابعه في ديار الأرمن”.
يختم الكرملي مقالته بالحديث مجددا عن هرمز، ويخاطب القارئ: “هذا كله يريك هرمز موقعا بديعا لتوسطه بين ديار العرب وإيران والروم والهند، وكنت ترى فيها السفن مئات مئات بين واردة وصادرة، بين جائية وغادية، وكلها تحمل هدايا الشرق للغرب أو تنقل الغرب للشرق. هناك كنت ترى الصينيين والهنود والإيطاليين والبرتغاليين، الإيرانيين والعرب. قد امتزجوا امتزاج الراح بالماء القراح. ولهذا كنت ترى البرتغاليين قد شمخوا بأنفهم إلى السماء وتسمعهم يقولون: لو أن العالم حلقة ذهب لكانت هرمز الفريدة!”.
“لغة العرب”
بعد هذه المقدمة البديعة، يبدأ طارق نافع الحمداني بعرض ما جمعه وصنّفه من أخبار دول الخليج، وهي تباعا البحرين، قطر، إمارات الساحل العربي (دبي، الشارقة، رأس الخيمة وأم القيوين)، الكويت، عمان ومسقط. يكتشف القارئ تاريخ البحرين من خلال “أخبار حكامها من آل خليفة وعلاقتهم مع البريطانيين في الخليج”. من الأخبار المثيرة التي نقع عليها، مطالبة إيران بالبحرين واستنجاد الشيخ حمد بالانكليز. يعود هذا الخبر إلى أيار 1929، وعنوانه “البحرين تعنّ على بال إيران”، وفيه: “يعلم الناس أن جزيرة البحرين كانت في أملاك العباسيين. وفي سنة 1507 إلى سنة 1622 استحوذ عليها البرتغاليون. وفي سنة 1735 إلى سنة 1744 كان الحكم فيها للإيرانيين ثم نهضت بنفسها فحكمها شيوخ من أبنائها. وفي سنة 1861 تسلل إليها البريطانيون فأخذوها تحت أجنحتهم، والآن في بال الإيرانيين أن يطالبوا الإنكليز بها”. يستكشف المؤرخ الأخبار المحلية من خلال مراسلة أدبية بين البحريني عبد الجليل ياسين الطباطبائي والحلبي نعمة الله يوسف عبود، وقد شكلت هذه المخاطبات أساسا لمقالة نشرها الباحث يعقوب نعوم سركيس. نتوقف أمام رسالة من الأديب البحريني إلى الأديب الحلبي جاء فيها: “والآن نحن في البحرين مستقرون على أحسن حال، وفي مبدأ هذا الأمر لما كنا في أرض ابن سعود وكنت في أسوأ حال من مفارقة الخل والصاحب والوطن كارها معاشرة غير المشاكل والمجانس وفي أرض لا نعرفها وناس ما ألفناهم ومع ذلك ونحن مباشرون القتال مع أتباع سعود”.
من البحرين، ننتقل إلى قطر وتنازع أهلها “مع العثمانيين من جهة، والبريطانيين من جهة أخرى”. بعدها، ندخل إمارات الساحل العربي وعلاقتها مع القناصل البريطانيين من جهة وابن سعود من جهة أخرى. في عام 1927، تتحدث “لغة العرب” عن “”تمكن الإنكليز من ثغور الخليج”، بعد طلب القناصل الإنكليز من الأمراء “قطعة أرض في كل ثغر من ثغور الساحل، لاتخاذ محطات فيها للطيارات”، وقد استجاب الأمراء هذا الطلب، فكان “أعظم فوز لأبناء بريطانيا”. تأتي أخبرا الكويت، وتراجع موقع العثمانيين فيها بعد المعاهدات التي عقدوها مع البريطانيين. بموجب هذه المعاهدات، تخلى الأتراك عن نفوذهم في هذا البلد، وحظي الانكليز بامتيازات هائلة في المنطقة. يظهر هذا النفوذ البريطاني بشكل خاص في عمان ومسقط حين انقسم الناس بين موال للسلطان تيمور وموال للإمام الأباضي. استغل الانكليز هذا الصراع لترسيخ سلطتهم “في مسقط وفي سائر ديار عمان، وأصبحوا أصحاب الأمر والنهي، ونثروا فيها أجنحة الأمن والراحة والسكون”، وكتب أحد العمانيين في جريدة “الدستور” البصرية يقول: “إن السكينة قد عادت إلى ربوعها بعد أن اتخذ الانكليز جميع وسائل الحرب لصد العدو عن مهاجمتها، لا بل شرعوا المذاكرة لأمور الصلح بينهم وبين الإمام الأباضي، فتبارك مالك الملك الذي يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء”. يأتي هذا الانتصار البريطاني نتيجة لتغلغل البريطانيين في جزيرة العرب، وأبرز عناوينه اجتماع قناصلهم بابن سعود في عام 1914، وإبرامهم معا معاهدة تنص على أن “يحافظ ابن سعود على رعايا الإنكليز وتجارتهم محافظة الإنكليز لابن سعود في شؤونه”.
ينهي الباحث الفصل الأول بباب تناول فيه موضوع “الغوص على اللؤلؤ في الخليج العربي” وازدياد عدد الغواصين بشكل كبير، كما يظهر من خلال جدول مفصل يقابل بين عدد السفن الغواصة عام 1907 وعددها عام 1912. تابعت “لغة العرب” عن كثب نمو هذه الحركة، وكتبت تحت عنوان “الإنكليز في الخليج” في حزيران 1913: “لا زال الانكليز يسعون في الخليج لتحسين مشاريعهم وتوسيعها. ومن جملة ما وفّقوا له هذه السنة وضع ستّ أمر (اي أعلام بحرية) حول مغاصات اللؤلؤ. وفي أوائل نيسان من هذه السنة نقل الإنكليز إلى ثغور الخليج 500 عامل من رعاياهم، فأنزلوا طائفة منهم في جزيرة طنب والطائفة الأخرى في جزيرة هنجام، وكلتاهما واقعة بالقرب من مضيق هرمز، والغرض من الإتيان بهم إلى هناك وضع المناور على جزيرة ومضيق في الخليج لينيروا ظلماته المادية والأدبية والمعنوية”.
“مجلة العرب”
ينقل الفصل الثاني من الكتاب أخبار الخليج العربي في زمن الحرب العالمية الثانية من خلال الأنباء التي وردت في “مجلة العرب” الصادرة في بومباي. يعتمد المؤرخ العراقي البناء التسلسلي نفسه، فيبدأ بالبحرين، ثم قطر، الكويت وإمارات الساحل العربي، وصولا إلى سلطنة مسقط وعمان. تختلف “اللهجة السياسية” بشكل كبير إذ يغلب عليها صبغة الاحتفاء بالحلف البريطاني – العربي في وجه العدو الألماني. يختم الباحث الفصل بحديث عن اللؤلؤ في الخليج العربي، وأسواقه وتجارته. والواضح أن هذه التجارة شهدت ازدهارا كبيرا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
يسأل القارئ نفسه: أيّ موقع للنفط في هذه الأخبار؟ تحضر الإجابة في خبرين يختصران هذا الموضوع. ورد الخبر الأول في الفصل الخاص بـ”لغة العرب”، ويعود إلى كانون الثاني 1914، وفيه: “زار الكويت أمير أسطول انكلترا في الخليج. بعد أن زار الأمير استأذنه بالتجوال في أنحاء الكويت، فأذن له، فذهب بإحدى بوارجه إلى “الصبيحة” من قوى الكويت على نحو أربع ساعات منها. ومنها ذهب الأمير ومن معه على ظهور الجياد لما مضوا في البرية فوجدوا فيها قيرا وزيتا حجريا وكبريتا، ثم رجعوا إلى مواطنهم ولا بد أنهم يرجعون يوما إلى تلك الأرجاء ليستثمروا ما فيها”. يقابل هذا الخبر خبر آخر نقلته “مجلة العرب” في نيسان 1944، وفيه: “لقد دخل عامل جديد في الكويت باكتشاف النفط، ومن سوء الحظ أن الحرب اندلعت في الوقت الذي كان فيه منهج واسع على وشك التنفيذ. ولكن لم يطرأ على هذا المنهج سوى التأجيل، وبزيادة الواردات ستزداد المنافع التي سيجنيها الشعب” ¶
النهار الثقافي