الكوميديا السورية: تاريخ طويل من استلهام البيئة والاتكاء على طرافة اللهجة!
محمد منصور
وسط أجواء مناخية صعبة، يواصل المخرج السوري الليث حجو في قرية (السمرا) التابعة لمحافظة اللاذقية في الساحل السوري، تصوير أحداث الجزء الثاني من المسلسل الكوميدي السوري (ضيعة ضايعة) مع نفس أبطال الجزء الأول: باسم ياخور ونضال سيجري وفادي صبيح وزهير رمضان وآمال سعد الدين وتولاي هارون وجرجس جبارة وسواهم.. ليكون هذا العمل من أوائل الأعمال الكوميدية السورية التي حجزت لها مقعداً على شاشات المحطات في موسم رمضان 2010.
ورغم تجمهر أهالي المنطقة وما حولها من الذين يحدوهم الفضول لمشاهدة عمليات التصوير، فقد حافظ المخرج الليث حجو على نفس أماكن تصوير الجزء الأول، باستثناء بيت أحد أبطال العمل (جودة) الذي رفضت مالكته السماح بالتصوير فيه لأسباب خاصة…
فيما عمق كاتب المسلسل الدكتور ممدوح حمادة من طبيعة الموضوعات المطروحة، لتغدو (أكثر إشكالية على الصعيدين السياسي والاجتماعي) كما يقول الفنان باسم ياخور لـ ‘القدس العربي’ مؤكداً أن هاجس الحفاظ على نفس أجواء الجزء الأول الذي حقق النجاح، هو هاجس مشترك لدى مجموعة العمل كافة.
ضيعة ضايعة: من لوحة إلى مسلسل أجزاء!
مسلسل (ضيعة ضايعة) الذي نظرت له الشركة المنتجة باعتبارها عملاً ترفيهياً صغيراً ومحدوداً عندما كانت بصدد إنتاج الجزء الأول، تحول بعد عرض حلقاته مراراً في العامين الماضيين، إلى مسلسل كوميدي ذائع الصيت، وتم تداول مقاطع من حلقاته على شبكة الإنترنت والهواتف المحمولة… وتحولت قرية (السمرا) التي اتخذت في المسلسل اسماً فنياً هو (أم الطنافس) إلى مزار فني لأهالي الساحل السوري ومصطافي وزوار منتجعاته… واستغل بعض أهالي القرية ذلك، بتقاضي الاجور لالتقاط الصور في الأماكن التي صورت فيها أحداث المسلسل، وهي عبارة عن بيوت ريفية طينية ذات طراز بسيط ومتواضع!
وربما لا يعرف الكثيرون أن فكرة مسلسل (ضيعة ضايعة)، ولدت في إحدى أجزاء المسلسل الكوميدي (بقعة ضوء)، حين قدم كاتب المسلسل نفسه ممدوح حمادة، لوحة كوميدية تصور العلاقة التناحرية الطريفة بين جارين ريفيين هما (جودة) و(أسعد) أو باسم ياخور ونضال سيجري… وقد تحولت هاتان الشخصيتان المشغولتان بالمقالب الساذجة حيناً والماكرة حينا آخر، إلى بطلين أساسيين في مسلسل (ضيعة ضايعة) بعد توسيع شبكة العلاقات الدرامية في القرية، وبناء ‘كاركترات’ أساسية ومساندة أخرى، شكلت نواة مجتمع ريفي بسيط ومغلق، تنبع الروح الكوميدية فيه، من نوازع إنسانية بدائية لشخصيات محكومة بظرفها البيئي الملتصق بالجغرافيا، حيث يصبح التنافس حالة كيدية ملأى بمشاعر بالغيرة، والسعي للارتقاء العلمي حالة تظاهر تضمر فشلا مزمناً، واستثمارالفرص الاقتصادية السانحة تناحراً مسكوناً بالطمع والجشع، أما السلطة الحاضرة في القرية ممثلة بالمخفر… فهي ليست إلا تكريساً كاريكاتورياً لذلك الصراع الخفي والمعلن لكل تلك النماذج، ممثلاً بشخوصها الأساسيين، وبما يطرأ على يوميات القرية أيضاً من أحداث عابرة، أو يخرق سكونها من شخصيات وزوار يكشفون مزيداً من تناقضات العالم الداخلي… هذه التناقضات التي لا يستخدمها صناع العمل من أجل الكشف الاجتماعي بالضرورة، بل بحثاً عن فسحة كوميدية تتفاعل معطياتها بعفوية ماكرة، وطرافة مسكونة بنكهة البيئة.
كوميديا البيئة الدمشقية: تراث آسر!
تبدو اللهجة الشعبية التي تعبر عن بيئة ما، عنصراً أساسياً من عناصر الكوميديا في (ضيعة ضايعة) ويعتبر الفنان باسم ياخور في حديثه معنا أن النواة الأساسية لهذا الشرط الكوميدي، يرجع إلى تجربة مسرحية كان قدمها مع زميله نضال سيجري في المعهد العالي للفنون المسرحية بعنوان (النو) وكان هذا العمل خليطاً من لهجات سورية عديدة، ممتزجة في بيئة واحدة هي قرية ساحلية… ثم تمت الاستفادة من الأجواء نفسها، في لوحة كوميدية مأخوذة عن قصة لتشيخوف في الجزء الثاني من مسلسل (بقعة ضوء)… لكن لو أردنا أن نتأمل تاريخ الكوميديا التلفزيونية في سورية، سنجد أن عنصر البيئة والاتكاء على اللهجات الشعبية، كان حجر الزاوية في معظم هذه التجارب الكوميدية منذ ستينيات القرن العشرين وحتى اليوم.
فإذا عدنا إلى أساس الشخصيات الكوميدية الشعبية التي تألقت في أعمال القصاص الشعبي حكمت محسن في دراماه الإذاعية، ثم انتقلت إلى التلفزيون: (أبو صياح- أبو فهمي- أم كامل- أبو شاكر) فسنجد أنها شخصيات مستمدة من البيئة الدمشقية بلهجتها وآلية تفكيرها وحتى نمط لباسها… والواقع أن البيئة الدمشقية ظلت ملهماً حقيقياً للكوميديا التلفزيونية السورية… وقد تجدد ألقها بعد تجربة حكمت محسن، على يد الكاتب نهاد قلعي من خلال المسلسلات التي جمعته مع رفيق دربه دريد لحام وأخرج معظمها المخرج خلدون المالح.
فقد تبلورت في هذه الأعمال شخصيات كوميدية مستمدة في ملامحها ولهجتها وتناقضاتها، من ذلك العمق الأصيل للحارات الشعبية الدمشقية، مع بعض التصرف الفني طبعاً… فكانت شخصيات: غوار الطوشة، وحسني البورظان، وفطوم حيص بيص، وأبو عنتر، وبدري أبو كلبشة، وأبو رياح وأبو كاسم… كلها تدور في مساحة كوميدية منسوجة من تفاصيل البيئة، وظرافة اللهجة، وثراء المجتمع الدمشقي.
فشل حلبي ونجاح حمصي
استمر البحث بعد ترسيخ تلك الأعمال للبيئة الدمشقية كمناخ كوميدي… عن بيئات ولهجات أخرى ترفد الكوميديا السورية… وفي فترة التسعينيات التي ازدهرت فيها تجربة إنتاج أعمال درامية تمثل بيئة مدينة حلب العريقة، جرت محاولات لاستثمار هذه البيئة في بعض المحاولات الكوميدية المحدودة التي لم تكن ذات طبيعة كوميدية خالصة… كما تلونت بعض ‘الكاركترات’ الحلبية بملامح كوميدية لافتة كشخصية (أبي عادل) التي أداها الفنان سلوم حداد في (خان الحرير) والشخصية التي أداها الفنان بسام كوسا في مسلسل (سيرة آل الجلالي) إلا أن ذلك لم يفتح الباب أمام أعمال كوميدية تعتمد البيئة الحلبية إطارا لها، ربما بسبب طبيعة اللهجة الحلبية، أو ربما بسبب النصوص التي توفرت لتلك الأعمال!
وأمام هذا الفشل الحلبي ثمة نجاح آخر حققته تجربة كوميدية يتيمة استلهمت بيئة ولهجة مدينة حمص السورية… قدمها الفنان فارس الحلو في مسلسل الكوميدي الناجح (عيلة خمس نجوم) للكاتب حكم البابا والمخرج هشام شربتجي عام 1993 ، فقد صار (فرحان) الشاب الحمصي الظريف الذي يحاول أن يصاهر عائلة دمشقية تعولها أم محنكة، حديث الشارع السوري لسنوات بعد أن أحبه الكبار والصغار… وتحول إلى علامة فارقة في مسيرة الفنان فارس الحلو… وصار مشهد حديثه التليفوني الذي يطلب فيه من السنترال أن يعطيه (حمص) ‘إيفيه’ من ‘الإيفيهات’ الكوميدية التي تضاف لما التصق بأهل حمص من ظرف وخفة ظل… ومن المؤسف أن هذه التجربة الكوميدية في استلهام بيئة مدينة حمص لم تستثمر لاحقاً في أعمال أخرى… ولم يتوفر لها كتاب يعنون بتقديمها كتجربة تثري الكوميديا التلفزيونية السورية، وتسهم في تنوعها البيئي.
بيئة السويداء: نجاح كوميدي لم يستثمر!
وفي السياق نفسه، قدم الفنان ياسر العظمة في سلسلته الكوميدية الشهيرة (مرايا) الكثير من اللوحات الكوميدية ضمن إطار بيئة مدينة السويداء في جبل العرب… وقد بدا أن هذه اللهجة قادرة على إعطاء تلك اللوحات خصوصية كوميدية مميزة… تذكرنا بشخصية (أبي الفضل) التي أداها الفنان دريد لحام في مسرحيته الذائعة الصيت (غربة) في السبعينات… كما شهدت لوحات بقعة ضوء العديد من اللوحات الكوميدية التي قدمت في إطار بيئة جبل العرب، ولهجة أهل السويداء كان آخرها لوحة (مفجر الجسر) في الجزء السادس من ‘بقعة ضوء’… إلا أنه حتى اليوم لم يتم الاستفادة من بيئة منطقة السويداء في عمل كوميدي متكامل، يستلهم ظرافة لهجة أهلها، والخصوصية الاجتماعية لشخوصها و’كاركتراتها’!
وبالعودة إلى مسلسل (ضيعة ضايعة) فهو لم يمكن مسلسلا رائداً في تقديم كوميديا تعتمد لهجة الساحل السوري… فقد سبق للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد أن قدمها في أفلامه السينمائية… التي كان (رسائل شفهية) أبرزها نجاحا شعبياً، كما قدم المخرج عزام فوق العادة مع الكاتب حافظ قرقوط في مسلسل (فرصة عمر) شخصية البطلة (نظيرة) التي أدتها الفنانة سوزان نجم الدين، وهي تتحدث لهجة الساحل السوري، في عمل كوميدي لم يقيض له النجاح… وقد سبق للفنان باسم ياخور نفسه أن قدم شخصية ضابط الأمن في مسلسل (أيام الولدنة) للكاتب حكم البابا والمخرج مأمون البني عبر الاتكاء على كوميديا اللهجة… لكن ميزة (ضيعة ضايعة) تبقى هي أنه استلهم مادته الكوميدية من عناصر بيئية متكاملة، ولم يكتف بطرافة اللهجة وحسب؛ وقد حاول صناع الجزء الأول من (ضيعة ضايعة)، أن يخترعوا فيه اسماً وهمياً لقرية وهمية… غير محددة على الخارطة تماماً لاعتقادهم أن الكوميديا هنا ليست مرهونة بخصوصية المكان، لكن يمكن أن يستدل على المكان ومرجعيات بسهولة من اللهجة القريبة مما يتكلم به بعض أهالي مدينة اللاذقية… وليس من خصوصيات بيئية ريفية.
وقد استطاع هذا العمل، أن يخلق معادلة فنية تتأرجح بين الصبغة الافتراضية والواقعية… لكن ما ضبط توازن طرفي هذه المعادلة باعتقادي، هو وجود مخرج موهوب ومخلص لعمله، وقادر على ضبط تفاصيله وتحديد معطياته بتوازن دقيق كالليث حجو… وممثلين متألقين في صنع الكاركترات البيئية كباسم ياخور ونضال سيجري وزهير رمضان… ويبقى نجاح الجزء الثاني مرهوناً بعد توفر هذه العناصر- بما يقدمه النص من روح كوميدية تحافظ على نفس السلاسة والعذوبة، فلا تضحي بالحالة المبهجة من أجل طرح قضايا كبرى… بل تحافظ على الروح الكوميدية الشعبية التي تسير على نفس خطى الكوميديا التلفزيونية السورية، في الاتكاء على البيئة من أجل رسم عوالم الكوميديا وإغناء شخوصها وأجوائها!
‘ ناقد فني من سورية
القدس العربي