سليمان منصور وتيسير بركات في غاليري ‘رافيا’ الدمشقي:مناقشة قضايا الثقافة والفن في فلسطين المحتلة
أنور بدر
دمشق ـ ‘ القدس العربي’ ـ شكّل معرض الفنانين سليمان منصور وتيسير بركات انطلاقة جيدة لغاليري ‘ رافيا’ في بداية العام الجديد، بل نستطيع التأكيد أنّ حضور هذين الفنانين من الأراضي الفلسطينية في أوّل معرض لهما في دمشق، وما رافق ذلك الحضور من صعوبات أدّت إلى تأجيل افتتاح المعرض لأكثر من موعد، كل ذلك شكّل حدثاً فنياً اهتمّت به وسائل الإعلام والتلفزة المحلية بشكل مُميّز، وتابعه جمهور عريض من الفنانين والمهتمين بالحركة التشكيلية في دمشق.
بداية فاجأنا المعرض بتجربتين متميزتين ومتمايزتين، فإذا كان سليمان منصور معروف لدينا بلوحته الشهيرة ‘ جمل المحامل’ والتي انتشرت في كل المخيمات العربية كملصق لذلك الإنسان الفلسطيني الذي يحمل على ظهره قبة الصخرة وكنيسة القيامة كتعبير رمزي عن قضيته الوطنية ويتابع المسير، لكنه الآن في معرضه الجديد يُطل علينا بموضوع أكثر راهنية، إنه حواجز التفتيش وجدار الفصل العنصري، تلك الحواجز وذلك الجدار التي باتت تشكل الهم الأساسي واليومي للمواطن الفلسطيني، بحيث باتت تسكنه في كل حركاته وتنقلاته. لذلك تحوّل الإنسان الفلسطيني الذي كان يحمل وطنه على ظهره، أينما وُجد، إلى إنسان أو صورة باهتة لإنسان يقف أمام قطع الاسمنت التي تشكل جزءاً من الجدار العازل وكأنها شاهدة قبر. لا فرق بين رجل وامرأة أو طفل وعجوز، فهذا الجدار يخنق الشعب الفلسطيني ويحوّل وجوده إلى قبر. حتى عندما يُوظّف بعض الحروفية العربية، أو شيئاً من فن الأيقونة، على تلك القطع الإسمنتية التي تخنق الشعب وتحيل البلاد إلى متاهة فيما يبقى الجدار في عمق اللوحة يحتل كامل عرضها، سادّاً أي أفق للحياة، وهو ما انعكس في الألوان الزيتية التي استخدمها منصور، تلك الألوان الرمادية الباهتة ومشتقات البني المُطفأة التي تفرض نفسها عليه، كما يقول.
وإذا كان سليمان منصور يمزج بين هذه الرمزية وتفاصيل الصورة الواقعية للفلسطينيين الذين يُشبهوننا على الحواجز وأمام جدار الفصل العنصري في أسلوبية تعبيرية ترتقي باللوحة، فإنّ تيسير بركات الذي كان له قصة مختلفة وأبناء جيله مع توفر الألوان داخل المخيمات الفلسطينية تحت الاحتلال، نراه يلجأ إلى ابتكار ألوانه الخاصة به، والاشتغال على أسلوبية مختلفة، مستخدما الحرق على الخشب، بكل الدلالة المُحمّلة على العلاقة ما بين النار والخشب، مُضيفاً إليها عناصر أبسط في التشكيل على المساحة الخشبية الصغيرة، إضافة للحرق وفي بعض الأحيان ما يُشبه الحفر أو التقشير العفوي لجزء من السطح الخشبي، يستخدم برادة الحديد والرمل، الرماد وبقايا القهوة، أشياء كثيرة تبدو في التعامل العابر بلا قيمة، لكنه استطاع أن يؤنسن تلك المهملات الجامدة، في صياغة ما يشبه البروتريه فوق الخشب، مُستفيداً من إمكانيات العمل التركيبي INSTALLATION لصياغة تشكيل ينتمي إلى الحداثة الفنية، حداثة لم تغادر موضوعها الفلسطيني أبداً، وهو هنا قضية الأسرى، إذ يوجد في كل منزل فلسطيني أسير أو أكثر أو حكاية عن الأسر، اشتغل عليها الفنان بركات لمدّة ثلاث سنوات، وقرأ أكثر من 14 ألف رسالة ما بين الأسرى الفلسطينيين وذويهم ليقدم مئة لوحة، فاستطاع أن ينزاح بحداثته باتجاه الواقعية، من خلال قصاصات ورقية وجدت بعضاً من تلك الرسائل، وضعت مع المكعبات الخشبية ضمن علب زجاجية شفافة، ممّا منح أعماله شحنة درامية تقاطعت مع الشحنة الشاعرية التي عبّر عنها في بعض كتاباته المرفقة مع اللوحات الأخرى.
******
وقد أضفت غاليري ‘ رافيا’ بعضاً من الألق حين احتفت بذلك الحضور الفلسطيني عبر ندوة حوارية بعنوان ‘ الفكر والفن التشكيلي’ شارك فيها إضافة لأصحاب المعرض كل من الفنانين السوريين غياث الأخرس ويوسف عبد لكي، وكان لي شرف إدارتها.
وقد تحدّث الفنان سليمان منصور عن معرض قديم له في رام الله أغلقته سلطات الاحتلال الإسرائيلي بعد ست ساعات من الافتتاح، واعتقل هو لفترة بسيطة، وكان المُحقق يسأله: لماذا ترسم بهذه الطريقة التي تعيدنا إلى السياسة، لماذا لا تهتم بجمالية الجسد الأنثوي أو ترسم الزهور مثلاً؟
ويُضيف منصور: إنني ومنذ خروجي من التحقيق، آليت على نفسي أن لا أرسم زهوراً أو نساء عاريات، إذ أنّ سؤال المُحقق لفت انتباهي إلى ضرورة استناد العمل الفني إلى فكرة وتعبيره عن واقع. فلا ينفصل الفنان وتجربته عن واقعه.
بينما ذهب الفنان تيسير بركات إلى أنّ الفن حمل مذ بدايات الرسم على جدران الكهوف رسالة، وكان الفن في حضارات الشرق كُلها يمارس بدافع عقائدي، بينما ذهب الفنان الغربي باتجاه محاكاة الطبيعة، ورسم ما تراه العين فقط. لكن بدايات القرن العشرين ونهايات القرن التاسع عشر شهدت ـ برأيه – وبسبب الجمود الفني والاجتماعي للمنطقة عموماً، حالة انتقال باتجاه التأثّر بالفن الغربي ومحاكاة مدارسه، دون أن نمتلك الأرضية الموجودة في أوروبا من متاحف وبنى مؤسساتية اقتصادية وثقافية لاحتضان تلك الأعمال في مجتمعاتنا.
هذه الإشكالية أعادتنا في الواقع إلى خصوصيّة التجارب التشكيلية الفلسطينية، حيث ارتبط الفنان الفلسطيني بالضرورة بمعاناته اليومية تحت الاحتلال، وقضاياه العامّة، ممّا دفع باتجاه رؤية الفنان الفلسطيني مناضلاً أولاً أو صاحب قضية، فقط. وهذا أدّى بالضرورة إلى ظلم كبير له، حين لم يحظ بقراءة حقيقية لأعماله رغم انتشارها الواسع.
ويعتبر الفنان غياث الأخرس بهذا الصدد ‘ أنّ الفنان الفلسطيني هو جزء من مجتمعه، وأنّ الفنانين الفلسطينيين أصحاب قضية وقد استطاعوا التعبير عنها بفنيّة عالية’، هو ما أكد عليه الفنان يوسف عبد لكي بحديثه عن الالتحام بين الفنان الفلسطيني ومجتمعه أو قضاياه، لأنّ الفن ليس مُجرّد مهارات، بل هو يستند إلى الفكر بالضرورة، وربما تأتي المهارات في آخر المطاف. لذلك نرى أنّ جزءاً كبيراً من الفن التشكيلي الفلسطيني قد تخلّص من الخطاب الأيديولوجي المباشر رغم أنهم كفنانين في موقع لا يحسدون عليه من حيث وضعهم دائماً في خانة النضال. وأضاف بخصوص الهوية أننا كشعوب لها تاريخ من الإبداع البصري مختلف عن مُنجز اللوحة الغربية، وإن حاول بعض فنانينا تقليد تلك اللوحة، لكن عدداً آخر منهم حاول استلهام الموروث الحضاري والفلكور الشعبي في صياغة هويّة بصريّة لإبداعهم.
في هذا الصدد تحدث الفنان سليمان منصور عن جزء من الفنانين التشكيليين الشباب في فلسطين والذين تأثروا بالتوجهات الفنية الحديثة، وابتعدوا عن سطح اللوحة باتجاه الأعمال التركيبية والفيديو آرت وسواها… والبعض منهم يتميّز بالجرأة الفنية، لكن يبقى الصدق هو المعيار الأساسي في تقييم أي عمل فني. فالكثير من الفنانين الذين اتجهوا إلى الفيديو آرت، وINSTALLATION وحتى التصوير الفوتوغرافي أو الرقمي، من حيث الأسلوب، يرى منصور أنّ التوجه العام لديهم نحو باتجاه تبني قضايا بعيدة عن معاناة الشعب الفلسطيني الإنسانية، وقد أشار بطرف خفي إلى مسألة الدعم الخارجي لهذه التوجهات الحداثية، في حين رأى آخرون أنهم لم يغادروا قضاياهم كما لاحظنا في معرض ‘ وراء الحدود’ الذي نظمته غاليري ‘ رافيا’ في نهاية العام المنصرم.
الدكتور غياث الأخرس أكدّ وجود توجهات أسلوبية حداثية حتى لدى الفنانين الشباب السوريين، لكنها عندنا تأتي بتأثير السوق إذ يترك الفرز الاجتماعي والاقتصادي ظلاله على المشهد التشكيلي عموماً، دون أن يمنع ذلك من ظهور فنانين ومن مختلف الأجيال ما زالوا يجتهدون لصناعة تميّزهم بعيداً عن متطلبات السوق.
وقد التقط هذا الموضوع الفنان تيسير بركات مؤكداً وجود اتجاه لدى بعض الفنانين العرب للاشتغال على جماليات اللوحة التي يحددها ذوق المشترين، بما يتناسب مع حجم الصالون أو المكتب، وديكور المنزل أو أثاثه.