صفحات أخرى

“إيران تستيقظ، مذكرات الثورة والأمل” لشيرين عبادي

خالد غزال
هذه المرأة تعلّم الإيرانيات والإيرانيين كيف يفتحون ثغرةً في الجدار
شيرين عبادي مناضلة ايرانية ركزت عملها منذ عقود على اوضاع الاطفال الذين يتعرضون للضرب، والنساء اللواتي يصبحن رهائن زيجات مفروضة، وعلى ما يتعرض له السجناء السياسيون من ظلم، ناجم عن الاعتقال التعسفي والتعذيب والقتل، مما تسبب لها بتصادم مع النظام واعتقالها والزج بها في السجن. اتهمتها الحكومة بمناهضة النظام وكانت مدرجة على لوائح التصفية الجسدية في عام 1999. نالت جائزة نوبل للسلام في عام 2003، وعلى رغم القيود المفروضة على حركتها، فقد اصرّت على البقاء في ايران والنضال من الداخل، لاقتناعها بجدوى التأثير قياسا على الخارج. نشرت في عام 2006 مذكراتها بعنوان “ايران تستيقظ، مذكرات الثورة والامل”، عبّرت فيها عن رؤيتها لما يجري في ايران، وعن المشاعر الوجدانية الناجمة عن طبيعة عملها الذي يضعها “في احتكاك يومي مع القسوة البشرية”. على رغم ان الكتاب مذكرات شخصية، الا انه في الواقع تسجيل حي للوضع في ايران منذ ثلاثة عقود، اي منذ قيام الثورة الاسلامية، والتحولات التي شهدها البلد خلال تلك الحقبة، وهذا ما يعطي الكتاب اهمية، من كونه يضيء الكثير من طبيعة الحراك الجاري حاليا في ايران. صدر الكتاب عن “دار الساقي” في بيروت، وترجمه حسام عيتاني.
تعود عبادي الى مراحل الطفولة الاولى التي ترافقت مع الانقلاب الاميركي على رئيس الحكومة الايراني محمد مصدق، واعادة الشاه الى السلطة، واستخدامه البطش والعنف في قيادته للبلاد. منذ النشأة، كان حس العدالة احد اهتماماتها، وهو الذي دفعها الى اختيار الانضمام الى سلك القضاة، وتعيين الدفاع عن حقوق الانسان اولوية في عملها. اتى انضمامها الى سلك القضاة مع مرحلة كان فيها حكم الشاه يشهد تصدعا، وارتفاعاً في موجات الاحتجاج والمعارضة التي انتهت بقيام الثورة الاسلامية، حيث احتشدت قوى قومية وعلمانية واشتراكية وماركسية، الى جانب رجال الدين في تقويض حكم الشاه واقامة الجمهورية الاسلامية.
نالت الثورة تأييدا كاسحا في بدايتها، ليس اقتناعاً بسلطة رجال الدين، بمقدار الكره للشاه وحكمه، وكان قيامها مترافقا مع الامل في حياة سياسية افضل. لكن هذا الامل لم يدم طويلا، إذ سرعان ما كشف رجال الدين عن حقيقة مشروعهم السياسي والاجتماعي في حكم ايران، حيث بدأ فرض قوانين جديدة “اعادت عقارب الساعة اربعة عشر قرنا الى الوراء، الى الايام المبكرة لانتشار الاسلام، الايام التي كان يعتبر فيها رجم النساء الزانيات وقطع ايدي اللصوص احكاما مناسبة”. هكذا وضعت المرأة على لائحة “المشبوهين” اخلاقيا، فجرى فرض غطاء الرأس وازداد التحرش بالنساء وتشديد القيود عليهن في كل مظاهر السلوك. وامتدت القوانين “الاسلامية” في وزارة العدل ليصدر رجال الدين فيها فتوى تقول ان الاسلام يمنع النساء من تولي منصب القاضي، وهذا ما ادى الى صرفها من سلك القضاة، وتبع ذلك حملة اهانات في حق القاضيات. ترافقت تلك المرحلة مع زيادة الاتهامات التي كالها رجال الدين الى كل من يرون أنه غير متوافق مع أطروحاتهم، وجرت تصفية القوى التي ساهمت بفاعلية في قيام الثورة، وتوسعت احكام الاعدام ضد لائحة “اعداء الاسلام” او “المناهضين للثورة” وفق التعبير الذي بات سائدا.
تشير عبادي الى مرحلة الحرب العراقية – الايرانية، في وصفها مرحلة مكّنت رجال الدين من بسط الهيمنة على مجمل الشعب، بعدما تسببت في اجبار الايرانيين على التوافق والالتفاف حول النظام. هذه الحرب ادت الى تدمير الاقتصادين العراقي والايراني وتدمير البنى التحتية في البلدين، ولم تكن الادارة الاميركية بعيدة عن التخطيط للحرب وتشجيعها وتقديم كل ما يلزم لتواصلها الى ابعد فترة زمنية، بما يؤدي الى انهاك البلدين واضعاف موقعهما على المستوى الاقليمي.
وصلت ايران بعد توقف الحرب مع العراق الى وضع بائس على جميع المستويات، من ازمة اقتصادية مفتوحة يرافقها ازدياد الفقر والبطالة وانخفاض في مستوى المعيشة، الى حكم ديكتاتوري متسلط باسم الدين يمارس الاضطهاد على جميع فئات الشعب، ويمنع الحريات السياسية والفكرية، ويمارس ابشع انواع القهر ضد وسائل الاعلام والمثقفين فيلقي الرعب في صفوفهم، ويستخدم ضدهم كل انواع التعذيب والترهيب وصولا الى الاغتيالات.
لاح للقوى الشعبية الايرانية امل بإمكان تعديل الواقع القائم لدى ترشح محمد خاتمي الى رئاسة الجمهورية، فنزلت الجماهير الايرانية بكثافة غير معهودة واتت بخاتمي الى السلطة. لم يكن خاتمي ينتمي الى النخبة الثورية، وكان خطابه السياسي يركز على تحويل ايران دولة ديموقراطية اسلامية، وبلداً يحكمه القانون، فابتهج الشعب بنجاحه، وخصوصا بعدما بدأ فعلا في الحد من القيود على حرية الرأي والصحافة والاعلام. لكن “الامل” لم يدم طويلا، فقد شهد حكم خاتمي هجوما معاكسا قاده المتشددون الذين لم يستطيعوا تحمل جرعة الحرية التي اتى بها خاتمي، ورأوا فيها تهديدا لسلطتهم، فوضعت العراقيل في وجه اصلاحاته. وعندما اندلعت التحركات الطالبية في اواخر التسعينات من القرن الماضي، جُبهت بالقمع، واصبح خاتمي نفسه مطالبا بتحديد موقفه من التحركات، فاتخذ موقفا ماشى فيه مطالب المحافظين على حساب التحركات الطالبية، وهذا ما اجهض امكان التغيير، وفقدان الامل بالوصول الى الاصلاح. تكرر المشهد في عام 2003، وفشلت التحركات الاصلاحية وقُمعت، مما أظهر حدود حركة الاصلاح “من تحت”، وعجزها عن تحقيق مطالبها في ظل التماسك السلطوي “من فوق”.
في سياق سردها لأهم الاحداث التي مرّت عليها، تشير عبادي الى الفترة التي ادخلت فيها السجن لحوالى الشهر، بعدما جرى تلفيق تهمة ضدها، فتظهر المعاناة التي يعيشها السجناء السياسيون، والتعذيب الذي يمارَس ضدهم وينتهي في غالبية الاحيان بوفاتهم تحت هذا التعذيب. وهي مرحلة ترى عبادي انها جعلتها اكثر تصميما على متابعة نضالها من اجل حقوق الانسان والسجناء، وخصوصاً النساء.
من اللحظات السعيدة التي تمر في حياة عبادي، تلك التي نالت فيها جائزة نوبل للسلام، وما رافقها من ردود فعل ايرانية. فعندما أُعلنت عودتها الى طهران، بعد تسلمها الجائزة، زحف مئات الالاف من الايرانيين، معظمهم من النساء لاستقبالها، متحدين المعوقات التي حاولت الحكومة وضعها لمنع وصول الحشود، وخصوصا ان الحكومة كانت في وضع من الاحراج، بحيث لا تستطيع اتخاذ موقف رسمي ضد نيلها الجائزة، فيما تضمر موقفا سلبيا من حصول عبادي عليها.
تؤكد عبادي في ختام مذكراتها ان تغيرات فعلية قد حصلت في ايران، سواء على صعيد تكوّن القوى المستعدة لمواجهة حكم رجال الدين، او على عجز القمع عن تعريف المواطن الايراني بما يجري في بلده، بعدما بات التحكم بالرقابة على الكلمة من شبه المستحيلات. تشهد الاحداث الاخيرة المتواصلة منذ اشهر على التحولات التي عرفتها ايران والتي بات الانقسام العمودي والافقي واضحا فيها، مما يسمح بانبعاث الامل مجددا في تحولات سياسية تخفف من وطأة سلطة القمع والاستبداد.
تختم عبادي كتابها بالقول ان التجربة علّمتها التزام الافكار التي  تؤكد ان “تفسير الاسلام المتناغم مع المساواة والديموقراطية هو تعبير اصيل عن الايمان. ليس الدين ما يعوق المرأة، بل الاملاءات الانتقائية التي يقوم بها الذين يتمنّون عزل النساء عن العالم”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى