عن الثورات التي لا تكتفي بأكل أخواتها
حسن داوود
“تخيّلوا المشهد، بعد أيام قليلة فقط من انتصار الثورة، تمّ تعيين رجل يدعى فتح الله بني صدر كمشرف مؤقّت على وزارة العدل. واختارت مجموعة منا، وكنا لا نزال نشعر بالفخر العارم، بعد ظهيرة منعشة ومشمسة للتوجّه إلى مكتبه وتهنئته. تدفّقنا إلى الغرفة وجرى تبادل الكثير من التحيات الحارّة والتهاني الورديّة. ثم وقعت عينا بني صدر عليّ فظننت أنه سيشكرني، أو يعبّر عن أهميّة ما يعنيه التزام قاضية أنثى مثلي بالوقوف إلى جانب الثورة. لكنّه قال بدلاً من ذلك: “… من الأفضل أن تغطّي شعرك”.
كانت الدعوة هذه أوّل تحذير من أنّ الثورة قد “تأكل أخواتها”، بحسب التسمية التي كانت تطلقها نساء أثناء تحرّكهنّ للإطاحة بالشاه. وقد صحّ توقّعهنّ، إذ سرعان ما رأى بني صدر، الذي بوّأته الثورة منصب رئاسة المحاكم والقضاء، أنّه لا ينبغي للنساء، في مجتمع يحكمه رجال الدين، أن يقضين متوليّات أمور الناس، وبين هؤلاء الناس رجال لا بدّ، هم قوّامون عليهنّ. بذلك خسرت شيرين عبادي حلمها بعد تحقّقه. وقد أبقيت في المحكمة، لكن من دون أن يحقّ لها الجلوس تحت قوسها. بل إنّها أُخفضت درجات في السلّم الوظيفي حيت باتت تحت إمرة من كانت مُساعدتها في أيّام ما قبل الثورة.
وكان عليها أيضا، لتبقى في الوظيفة الإداريّة التي أخفضت إليها، هي التي كانت رئيسة المحكمة، أن تتلقّى ما يمكن تسميته دورات توعية تشرف عليها فتاة “ملتزمة” لم يتعدّ عمرها الثامنة عشرة. كما كان عليها أن تخضع لتوالي ما تعتبره الثورة الإسلاميّة إصلاحات لم تفتأ تشتدّ وتزداد تزمّتا، وذلك حتى يتحقّق “الدستورالإسلامي” كاملاً وتاماً. وفي ما خصّ قاضية سابقة، ومحامية من بعد يكاد يقتصر عملها على التحرّك في الحيّز الضيّق الذي يتحدّد بين ابتداء كلامها ومقاطعة القاضي لها بقوله إنّ ما تنطق به متعارض مع الدستور الإسلامي، كان عليها أن تجمع بين ما يمكن أن يكونا نقيضين: الصلابة والمناورة.
القضاء الذي واجهته عبادي جمع بدوره بين نقيضين هما التشدّد في الالتزام والفساد. في أوّلهما كان يكفي الظنّ بأن الشاب الذي في مقبل عمره، وهو شقيق زوج عبادي، منتسب إلى جماعة “مجاهدي خلق” حتى يُسجن ويُمنع على ذويه معرفة مصيره، ثمّ أن يموت في السجن ويدعى أهله، عبر مخابرة هاتفيّة لم تتعدّ الدقيقة، للحضور إلى السجن حيث، مع تسلّمهم جثّته ومتعلّقاته القليلة، أبلغوا بأنّ إقامة مراسم العزاء محظّرة عليهم.
أمّا النقيض الثاني فتمثّله حكاية المعتدين الثلاثة على فتاة في العاشرة أو الحادية عشرة حيث تعاقبوا على اغتصابها واحداً بعد واحد إلى أن انتهى بهم الأمر إلى قتلها. بعد أن أودعوا السجن، بانتظار محاكمتهم، شنق أحد الثلاثة نفسه بحبل (تساءلت عبادي، التي تولّت تلك القضيّة كمحامية، من أين جاء ذلك السجين بالحبل إلى زنزانته حيث أنّ السجن أحد بؤر التشدد الأكثر إحكاماً). وإذ صدر الحكم بإعدام السجينين الباقيين، طُلب من ذوي الضحيّة أن يدفعوا من مالهم (المال الذي لا يملكونه) تكاليف الإعدام. من أجل ذلك باع هؤلاء بيتهم الذي يقيمون فيه وانتقلوا من قريتهم التي، بحسب قوانين، لا تقلّ تشدّدا عن دستور القضاء الإسلامي الإيراني، بات بقاؤهم فيها مرذولاً ما دام أن المعتدين على شرف ابنتهم، وليس على حياتها (!)، ما زالوا أحياء. كان شقيق الفتاة المقتولة قد أعدّ نفسه ليأخذ ثأره بيده، وهذا ما عرفت به عبادي قبل حصوله، أي بعد صدور قرار المحكمة بإطلاق السجينين، إثر تدخّل قوى نافذة لإبطال الحكم فيهما وتخلية سبيلهما.
ربمّا كانت هذه واحدة من القضايا التي لا عدّ لها والتي جرى طيّها ونسيانها لولا العناد المثابر لشيرين عبادي، وأيضا لعائلة الفتاة القتيلة التي أقامت عند مدخل المحكمة رافعة إحتجاجها إلى حدّ صدور قرار من القاضي بحبس الأم. لم تعرف السلطات كيف تبقي ملّف تلك الجريمة في رفوفها وحدها، ولم تتمكّن من إفرادها وعزلها، وحصرها في ما لا يتعدّى المعنيين المباشرين بها (الضحيّة وأهلها). شيرين عبادي، في كتابها، وصفت بالتفاصيل دقائق هذه القضيّة ومراحلها، ذاك أنّها رأت أن ما كشفت عنه هو بداية تشكيل رأي عام، وهو ما كانت السلطات حريصة على إبقائه متفرّقاً ومتذرّراً. وهي، بالدأب المتّصل العنيد الذي لم تتوقّف عن بذله، ظلت معتقدة أنّ القبضة المشدودة لا بدّ أن يُصيبها الإرتخاء.
إهتمام عبادي الأوّل هو النساء، ضحايا الثورة الإسلاميّة ورجالها. فمن إبعادهنّ عن مشهد الحياة العام وطردهنّ من الأدوار التي توصّلن إلى بلوغها، وإجحاف حقوقهن في المنازل وخارجها، واعتبارهنّ كائنات أدنى، هناك الحصيلة الرمزيّة التي جعلت عبادي تكتب أنّ حقوق المرأة في قانون الأحوال الشخصيّة، تساوي خصية واحدة من خصيتي رجل. أما في ما خصّ إصرار رجال الدين، القضاة، على إبقاء قبضتهم شديدة حيال هذا القانون، فالشواهد على ذلك فكثيرة؛ منها تلك المرأة التي حُرمت من حضانة إبنتها التي أُبقيت مع طليق الأم، المختلّ عصبيّا والذي أدمن تعذيب الطفلة، على الرغم من تثبّت المحكمة أنّه كان يطفىء سجائره في أنحاء جسمها. شيرين عبادي تولّت هذه القضيّة أيضا إلى ما بعد مصرع الطفلة إثر صدم أبيها لها، مع رفيق له، بالجدار.
النساء هنّ الحلقة الأضعف في الإنقلابات، أو الثورات، التي يصنعها الرجال عادة. وسيلة تمزالي، الجزائريّة التي أصدرت كتاباً روت فيه سيرتها الشخصيّة والسياسيّة، تحولّت هي أيضا مدافعة عن حقوق النساء. هناك، كما هنالك، في الجزائر كما في إيران، تطلّب التأسيس الثوري للمجتمع “الجديد”، أن تعاد النساء إلى حيث كنّ قبل تحقيقهنّ ذلك التقدّم، وإن المتفاوت والقليل. كلتاهما، شيرين عبادي ووسيلة تمزالي، تشيران إلى ذلك إذ ترجع كلّ منهما بسيرتها إلى الزمن الذي سبق الثورة، ذلك الذي أتاحت وتيرته المبطئة وجريانه العادي أن يتحقّق فيه شيء.
كلتاهما أيضا، وقد كانتا مناضلتين في صفوف من قاموا بالثورتين، تحوّلتا إلى أن يكافحن للعودة إلى الزمن الذي سبق حدوثهما. ابتداء تمزالي كتابها بذكر تاريخها العائلي، كما ابتداء عبادي بوصف ما كانت عليه عائلتها، ظلّا يمثّلان، لقارئي السيرتين، النهاية السعيدة المرتجاة: أن تعود الحياة إلى ما كانت عليه.
() كتاب شيرين عبادي “إيران تستيقظ- مذكّرات الثورة والأمل” صدر عن دار الساقي في بيروت، بترجمة حسام عيتاني.
المستقبل