من جهتي لا أرى أيّ حلّ
عناية جابر
بقي يفرك يديه ويُفرفر في جنبات مكتبي من التاسعة صباحاً حتى الثانية عشرة ظهراً مدّة زيارته لي. صديقي الذي راعني زوغان نظراته، وكلماته التي بقيت تمضغ فكرة وحيدة لساعات ثلاث جحيمية، ترعبه زيارته السنوية الى امريكا حيث أهله واقاربه، وقد باتت هذه وشيكة ومُستحقة خلال آخر هذا الشهر على ما قال لي. لم أشأ ان أمثّل دور الغافلة تماماً عن الإجراءات الأمنية الأمريكية المستجدّة التي تطال المسافرين العرب، أو غير الأمريكيين أباً عن جدّ، كما لم أشأ أن أزيد من هول الأمر عليه :
طيّب خير، شو فيها؟ ما كل عمرنا مبهدلين بالمطارات، هلق شوية اجراءات زيادة مش راح تأثّر، بس توصل عند أهلك بتنسى كل القصة .
بتعرفي (أجابني) عم فكر سافر بالمايوه والمشّاية أم إصبع، لا شنط ولا بنطلونات ولا كنزات أو جاكيتات، ولا هدايا من أيّ نوع، محفظتي وباسبوري وبسّ .
بتعملها! ـ قلت له ـ بعرفك مجنون .
بشرفك أنا مجنون؟ والا العالم كللو صار مجنون؟ اللي مطير لي عقلي قصة ال ‘سكانر’ اللي بتمسح الجسم، يعني بتعمل سرطان، كان ناقصني السرطان تا تكمل معي. بعدين قليلة خبرية الفوتة عالحمام مرة واحدة مع مرافقة أمنية؟ إنتي عارفة إني زلمة معي مرض السكري، ومقضاّها فايت طالع عالحمام، شو بدهن ياني ساويها عاحالي؟ شو بعمل؟ دبّريني .
يا أخي يا حبيبي عم تسألني أنا شو بتعمل؟ روح سآل تبعول تفجير الطيارات، وقلّها لامريكا أنو انت ما خصّك. بعدين بتسمع منّي: بلاها هالسفرة من الأساس، اللي بدّو يشوفك ومشتاقلك يجي هوّي لعندك .
لأ، وقال شو: ممنوع نتغطّى بالبطانية! وحضرتك بتعرفي أكتر منّي قديش بدنا تانوصل عا امريكا، مش أقّل من خمستعشر ساعة بدرجة حرارة واطية بدها ألف حرام وبطانية تا يغمضلنا جفن .
يا عيني قلتللك بلاها. عمرها ما تكون امريكا. على كلّ هيدي شروطهن يا أستاذ، عجبك روح، وما عجبك إلغي هالرحلة أو أجلها للصيف، يمكن يغيروا الإجراءات أو عالقليلة بالصيف أدفى واحلى وفيك تشلح عاذوقك .
نجحت أخيراً في تحويل الحديث نحو أمور على غير علاقة بالقاعدة، وبأوباما الذي وجدنا صــــديقي وأنا أن رومــــانسيته قد سقطت تماماً. بتأثير من قلق صديقي إنتقل قلقه إليّ، أنا التي أخفيت عنه أمر سفري الوشيك أيضاً الى امريكا .
لا نعرف من نحن، ولا أين نحن، (قلت له) ولا إن كان هذا وجهنا حيال العالم أو وجه سوانا. لم تعد أُلفة السفر تعترينا، ولم يعد السفر عوناً لرؤية من نُحبّ، أو لغة للسعادة والدهشة والإكتشاف. صار علينا كمُقعدين جُدد، ان نكتفي بمراقبة السماء من على كراسينا غير المدولبة. ببطء نتهجّى المسافات، ومن مطارحنا نفسها. صار علينا أن نكتفي باستنهاض ما علق بالذاكرة من أسفار ماضية. دوخة خفيفة هذا السفر الهائم في الرأس، كعنصر إضافي من عناصر إهانة الذات وتحقيرها. نحتاج الى أكثر من الهدوء الأعمى، لتترّجل عن أكتافنا، أحلام ورؤى. أشار صديقي بإصبعه الى الأرض: ‘يعني هون بدّي ضلّ’ كمن يُشير الى مقبرة. هكذا على الأقلّ عرف مآله ومستقبله، مهما حلمنا فثمة تلك الطائرات، من نيويورك حتى ديترويت. الطائرات، جارات السماء .. كم أصابتنا!!. صرخ صديقي كمن على حافة بئر، صراخاً تهديدياً، استفزازياً ضد العسف، ضدّ الأمــــر المُشين الذي يُحقرنا، لكنه الصراخ الذي لم يقنعني، والصراخ المفتقر الى التماسك. صراخ مرمي في الفراغ الذي نسكنه، وصراخ عتيق يهوي دائماً في الحفرة نفسها .
إجراءات على الرغم من بشاعة وقعها لدى مدمني السفر، تُشعرهم بقدر كبير من الإثارة، وبمادة جديدة للكلام. هم المستغرقون في أحوالهم اليومية الأرضية يُثيرهم ما استجد من أحوال السماء ويجبرهم على إمعان الفكرفي مآل جنسهم بالكامل، المُتردي في فزعه الخاص، وفي إبهام العسف وغرابة حدوثه. في جزء مني أشعر ارتياحاً لصخب هذا ‘الزجر’ ذلك أنني أفهمه، واحسب أن الفهم يُسكرني أكثر بكثير من السفر نفسه .
قبل أن يُغادر صديقي سألني إن كنت أرى أيّ حلّ لهذا الوضع، وأنا من جهتي لا أرى أيّ حلّ .
القدس العربي