الدولة الامة والقضية الكردية في سوريا (2 – 5)
بنكي حاجو
الجزء الثاني
الاستاذ غسان المفلح يقول أن عدم تطبيق مبدأ الأمة الدولة كان السبب في فشل التجربة العراقية وسبب ما يعانيه العراقيون الآن. العكس هو الصحيح تماماً. كيف؟. سوف أحاول الإختصارقدر الإمكان:
في العهد العثماني كان العراق عبارة عن ثلاث ولايات هي البصرة شاملةً منطقة الخليج، وولاية بغداد و ولاية الموصل. هذه الأخيرة كانت تشمل أيضاً إقليم كردسان الحالي بالإضافة الى كركوك. الإنكليز أسسوا الدولة العراقية الحالية على مزاجهم والتي ولدت مسخاً منذ اليوم الأول لولادتها.
الإنكليز ألحقوا ولاية الموصل بالعراق بسبب مصالحهم وليس حسب رغبة السكان ولا حسب الحدود الجغرافية الطبيعية أوالديموغرافية. هذا الأمرفُرِضَ على تركيا أيضاً والتي كانت تدعي أن الموصل جزء لا يتجزأ من الجمهورية التركية وكأن لا وجود للكرد هناك. للعلم لا زالت الموصل ضمن الميزانية التركية السنوية حين مصادقة البرلمان عليها وبقيمة ليرة تركية واحدة كرمزٍ لإنتمائها الى الوطن الأم. (للمزيد حول ضم الموصل ُيفضلْ الرجوع الى كتاب “اليقظة الكردية الحديثة” للمؤرخ الآشوري الكبير المرحوم جرجس فتح الله المحامي).
جاء الإنكليز بملك عربي سني من خارج العراق رغماً عن الشيعة والكرد، وذلك بعد الفشل في تنصيبه ملكاً على سوريا والتي أصبحت من نصيب الفرنسيين (لاحظوا كيف تشكلت دول المنطقة والتي حدودها صارت مقدسة فيما بعد حتى عند النخب المثقفة، ولاحقاً سيطبق عليها مبدأ الدولة الأمة!). يدورون بـ “مَلِكٍ” معين انكليزياً حتى يجدوا له مملكة…. وكان العراق.
هذه الدولة تشكلت دون أن يكون لمكوناتها أي دور في تشكيلها. رغم ذلك لو كان قد أعطي المجال وقتها لجميع أطياف الشعب العراقي،عند وضع الدستور، وعلى قدم المساواة للتعبيرعن نفسها والحفاظ على خصوصياتها لما بقي الشعب العراقي منقسماً على نفسه منذ الإستقلال طيلة العقود السابقة بالرغم من بقاء هيكل الدولة الأجوف دون تغيير. الكرد والشيعة لم يُنْظَرْ اليهما كشركاء في الوطن حتى يحافظوا بدورهم على وحدته والدفاع عنه. للتبسيط يمكن تشبيه الوضع بالفرق الشاسع بين مستخدمي الشركة (الكرد والشيعة) ومالكيها (العرب السنة) وهو نفس الفكر الذي كان أيضاً السبب في إنهيار أكبر إمبراطورية في العهد الحديث وهي الإتحاد السوفياتي. لماذا سيدفع المستخدم الذي ليس له أي دورــ حياته في سبيل من يستغله ليبقى خادماً الى الأبد؟.
العرب السنة رفعوا شعار “العروبة” ليس إيماناً بالعروبة بقدرما كان مناورةً ومؤامرة للتسلط على المكونات الأخرى في العراق وإستقواءً بالجوار العربي. ثم إنقلب هؤلاء على أخوتهم العرب. ورأينا كيف قطع العراق علاقاته مع الشقيق البعثي السوري 17 عاماً وإحتل الكويت وهدد السعودية والاردن…..الخ. كما وجدنا كيف أن العروبيين ضربوا بعرض الحائط كل ما نادوا به من شعارات قومية من مثيل الوحدة وتحريرفلسطين وبترول العرب للعرب(الى جيب الحاكم العروبي)…..الخ عند إمساكهم بزمام السلطة وإمتيازاتها. نفس الشيء حدث في سوريا أيضاً، أي أن العروبية كانت مطية للتسلط على بقية أطياف الشعب السوري وليس هدفاً سياسياً نبيلاً وأوصلنا الى مانحن عليه الآن. أليس الحكم في دمشق أقوى مركزيةً بعد الحكم في كوريا الشمالية؟. هل هناك سيادات مجزأة في سوريا؟\ز هل دخلت الى سوريا قوات إحتلال؟. إذن الذي يحدث في سوريا والعراق هي نتائج عادية لأنظمة الحكم القمعية التي حكمت لأربعة عقود.
الشيعة العراقيون لاقوا الويلات على أيدي السنة على مدى قرون الظلام في العهد العثماني. الإنكليزحرموهم حق المشاركة في تقرير مصير دولتهم وصاروا مهمشين كأخوانهم الكرد في دولة الامة وخاصة في الأربعين السنة الماضية من الحكم البعثي ولاحقاً الحكم الفردي.
السبب في كل ذلك كان مبدأ الدولة الامة وإنكار وجود الاثنيات والطوائف وبقية الأطياف في النسيج العراقي. لو كانت جميع الأطياف متساوية في الحقوق وأعطي لها الحق في المحافظة على خصوصياتها لما وصل العراق الى ما وصل اليه الآن ولكان الجميع قد هَبّ دفاعاً عن دولته التي هي ملكه وفي ذات الوقت ملك العراقين جميعاً. لو كان العراق دولة فدرالية منذ البداية لكنا وجدنا الآن عراقاً ديمقراطياً لا يقل تقدماً ورفاهية عن أية دولة اوروبية.
العالم المتحضر يطبق مبدأً “الدولة لأجل الفرد” وحرية الفرد هي أقدس من قدسية الدولة، ولكن لا يزال العكس هو السائد في منطقتنا أي “الفرد لأجل الدولة أو بتعبير آخر عبيداً لأجل الدولة الامة”. هذه العقلية هي التي أوصلتنا فيما بعد الى عبادة الحاكم الفرد. هذا بالذات ما نجده في قول الاستاذ المفلح عن سبب ما وصل إليه عراق اليوم بقوله “إضمحلال السيادة الواحدة الى سيادات جزئية” متجاهلاً النجاح الكبيرالذي حققته الانظمة الفدرالية وأنظمة الحكم الذاتي واللامركزيات في العالم ورحيل “قدسية الدولة” الى مزبلة التاريخ والى الأبد.
أما لماذا تشكلت قوات البيشمركة فالجواب هو أن الكرد دافعوا عن هويتهم ووجودهم الذي كان يتعرض للإبادة. هؤلاء لم يكونوا في يوم من الأيام ميليشات تعمل لأجل المادة أوالمصلحة الفردية بل كانوا قوات الأنصار يدفعون أرواحهم ودماؤهم في سبيل شعبهم وفي سبيل الشعب العراقي كله للتخلص من الظلم والعبودية. ثورة ايلول ومن بعدها ثورة كلان (ايار)كانت دائماً ملاذاً لكل أحرارالعراق وبشكلٍ خاص الشيوعيين.
في الواقع تأسفت جداً للأسلوب والتعابير التي إستعملها الاستاذ مفلح بحق الأخ مسعود برزاني الذي يمثل وجدان وضميرالكرد جميعاً، بل وجزءاً هاماً من الشعب العراقي أيضاً. الرئيس مسعود إلتحق بثورة ايلول وهو في الخامسة عشرة من عمره وقاسى كبقية أخوته البشمركة الأهوال مكافحين ضد حروب الإبادة ولمدة ثلاثين عاماً حتى عام 1991.
سأنهي مقال اليوم بهذه الحادثة:
طلب كاك مسعود من الوالد السماح له بقتل أحد الضباط الكبار في الجيش العراقي، بعد إتفاقية 11 آذار، بعملية سرية عقاباً لما كان قد إرتكبه هذا الأخير من مجازر بحق الأبرياء والعزل في كردستان.سأل الأب برزاني ولده:هل سيتعرض الأبرياء المدنيون الى الأذى؟ كان الجواب:قد يحدث.رد الإنسان الكبير:يا ولدي إلغِ العملية. وهذا ما كان.
الحروب والمعارك إستمرت بين الكرد وحكومات بغداد ثلاثة عقود ولم يحدث أن فجركردي واحد نفسه بين الأبرياء بالرغم من أهوال حلبجة والأنفال…الخ.
هكذا كان قائد البيشمركة وبطبيعة الحال البيشمركة أنفسهم الذي لم يكن يرضى بإراقة نقطة دمٍ عراقية بريئة. أعتقد أن الأكثرية من العراقيين يفتخرون بالبيشمركة اخوتهم في الوطن لما قدموه من تضحيات في سبيل الوطن العراقي وحريته.
الجزء الثالث
يقول الاستاذ غسان المفلح في مقاله موضوع حديثنا: لم يتطرق احد من النقاد لما أنتجته التجربة العراقية، وأن الخراب الذي أصاب العراق كان نتيجةً لغياب” سيادة المركز”. يعني غياب مبدا الدولة الامة بتعبير آخر.
ألم يكن نفس المبدأ سارياً منذ تشكيل الدولة العراقية وحتى عام 2003 وأن الدولة كانت مركزية الى أبعد الحدود؟. هل وجد العراق إستقراراً منذ تأسيسه الى سقوطه بإستثناء السنين الأولى في فترة الثلاثينات من القرن الماضي؟. هل هناك من لا يذكر تلك الحرب الضروس بين الكرد وإنقلابيي بغداد طوال حقبة الستينات؟. ألم تكن هيمنة وقوة المركز وراء تلك التصفيات والإعدامات التي جرت بين حكام بغداد الإنقلابيين “رفاق الدرب” بعد محاكمات بسرعة البرق والتنفيذ خلال دقائق؟.
ألم تصل الجريمة الى تجفيف الأهوار فقط بهدف إبادة المكون الشيعي؟. هل هناك لزوم لتذكير الحرب الايرانية وسقوط أكثر من مليون إنسان ليبقى المركز قوياً كالفولاذ؟ وماذا عن الإستيلاء على الكويت في ظل الدولة الامة؟. أم أن البعض يرى أن حرب الإبادة ضد الكرد من التعريب والتهجير وحلبجة والأنفال كانت تدابير غير كافية وأن الحكم المركزي كان وقتها رحيماً أكثر من اللازم؟.
إذا كان كل ماورد أعلاه حدث في ظل “سيادة المركز” ولأكثر من نصف قرن، فمما لا شك فيه هو أن ما حدث ويحدث للعراق من كوارث كان نتيجة طبيعية للحكم المركزي أي”سيادة المركز” وليس العكس. سيادة المركزهو الذي يفرش الدرب أمام الدكتاتوريات.
هل الحكم في سوريا وتونس واليمن والجزائر ومصر والسودان فدرالي؟ ذاتي؟ لامركزي؟ لا…..سيادة المركز فيها أقوى من الرصاص. الوضع في الراهن العراق بالرغم من كل النواقص أفضل من كل تلك الدكتاتوريات.
العراق أمامه فرصة ذهبية ليصبح دولةً ديمقراطية نموذجية في المستقبل القريب وذلك إذا ما إتفقت الأطياف جميعاً على النظام الفدرالي، الذي يحد من طغيان المركز، بحيث تشمل الفدرالية السُنة أيضاً. الإعتراف بقبول وجود الإختلافات العميقة بين السنة والشيعة وإحترام تلك الخصوصيات العقائدية بشكل علني ورسمي أفضل بكثير من اللعنات والتكفير والتحقير والشتائم من وراء الظهر وفي السر والوشوشة والتي هي سمة وشيمة مجتمعاتنا المتخلفة حيث الأفعال عكس الأقوال…..سبحان الله….
هنا تخطر في البال التجربة اليابانية في ظل الإحتلال الامريكي بعد الحرب العالمية الثانية. في عام 1945 إستسلمت اليابان بعد خسارتها الحرب. حتى ذلك التاريخ كان نظام الحكم امبراطورياً مقدساً. بقيت اليابان تحت الإحتلال الامريكي المباشر لمدة ستة سنوات. الامريكان وضعوا دستوراً ديمقراطياً لليابان وبقي الامبراطورفي منصبه كرمز حفاظاً على وحدة الشعب الياباني بينما تم محاكمة وعقاب السياسيين والعسكريين الذين كانوا السبب في دخول اليابان الحرب الى جانب المانيا النازية. بعد إنتهاء الإحتلال إحتفظت امريكا بقواعد عسكرية لا زالت موجودة حتى الآن.
تمكنت اليابان من تحقيق اعجوبتها الديمقراطية والصناعية والإقتصادية (في ظل دستور الإحتلال) والتي أذهلت العالم طيلة القرن الماضي. اليابان تعاملت مع الواقع وإستثمرت الإحتلال وحولته الى إنطلاقة نحو التقدم والبناء بدلاُ من الشعارات الجوفاء والعواطف الكاذبة و الضرب على الخدود والبكاء على الأطلال. كل ذلك حدث واليابان لم تكن بعد قد خرجت من صدمة الكارثة النووية على ناغازاكي وهيروشيما. لا داعي للتذكيربشجاعة اليابانيين أحفاد الساموراي الغنية عن التعريف من” الكاميكازي” إسم إعصار ألقي على الطياريين الإنتحاريين الذين فجروا 14 بارجة أمريكية في الحرب العالمية الثانية، و”هاراكيري” الإنتحار لغسل عار الجُبنْ. اليابانيون لم يقتلوا شعبهم من الأبرياء والنساء والأطفال كما يحدث في العراق.
لماذا لا يأخذ العراق الدرس والعبرة من التجربة اليابانية لتاسيس دولة ديمقراطية فيدرالية يشارك الجميع في بنائها، لاسيما وأن الظروف مهيأة وخاصةً الدعم الدولي اللامحدود؟.
في زمن الخلافات والمعارك بين الثورات الكردية وحكام بغداد كان الكرد في صراعهم يضطرون الى اللجوء الى العون والمساعدات بسبب الشح في الإمكانيات حتى من عدوهم الشاه المقبور، وفيما بعد من ملالي طهران وبالتالي كان يسهل تدخل هؤلاء في شؤون العراق الداخلية. ولكن منذ أن أصبح الإقليم فيدرالياً وصار يملك الحصانة في مواجهة دول الجوار و أصبح أكثرإعتزازاً بهويته العراقية في ذات الوقت. بل إنعكست الآية وصارت دول الجوار تحارب تجربة الإقليم الفدرالي بعد أن أصبحت الأبواب مسدودة في وجوههم للتدخل في شؤون العراق من خلال الإقليم.
النظام الفدرالي يفرض على الإقاليم مسؤولية الحفاظ والدفاع عن الوطن العراقي وهذه بديهية نابعة من طبيعة الأشياء.
للحديث بقية.
طبيب كردي سوري السويد
bengi.hajo@comhem.se
ايلاف
راجع الجزء الأول من هذه المقالة على الراابط التالي
تعليق واحد