حان وقت “صفقة كبرى” بين الاتجاهين
رضوان زيادة
تحدث إمبرتو إيكو في احدى رواياته قائلاً “ما من أحدٍ يحب أن يُوصف بأنه من فقس الشيطان”، ويبدو التبسيط بالقول بأن صعود الحركات الإسلامية اليوم و ازدهارها إنما هو نابعٌ من انحسار موجات الحركات اليسارية والقومية فقط، شبيهاً بذلك إلى حد كبير.
والحقيقة إن صعود الحركات الدينية إنما يعود بشكلٍ رئيسي إلى تراكم الأزمات السياسية والاجتماعية في المجتمعات العربية على مدى عقودٍ عدة مما فتح الباب لصعود التيارات الدينية التي تحمل برنامجاً اجتماعياً وقرباً من الناس واستعصاءً كبيراً في الإصلاح السياسي مما يعطيها صدقية كبيرة، فهي حركات تنجح في المعارضة أكثر من وجودها في السلطة.
لقد تعرض المشهد الدولي في الربع الأخير من القرن العشرين إلى تحولٍ بفعل موجة تغييرات أصابت الأنظمة السياسية شكّلت ما سمّاه صموئيل هنتنغتون “الموجة الديموقراطية الثالثة”. ابتدأت هذه الموجة بالبرتغال واليونان عام 1974 واتجهت صوب إسبانيا وأميركا اللاتينية، ثم اكتسحت الدول الشيوعية في الاتحاد السوفياتي وشرق أوروبا ثم أثّرت بشكل عميق في شرق وجنوب آسيا مغيّرة خريطة الجغرافيا السياسية للعالم.
بيد أن الدول العربية بقيت منيعة أو حصينة أمام موجة التحول الديموقراطي تلك، إذ راوحت الدول فيها بين أشكالٍ مختلفة من الدولة التسلطية وصلت في بعضها إلى نمط من الدولة الشمولية التوتاليتارية الكلاّنية، لقد بقيت هذه المنطقة آخر القلاع الممانعة أمام الديمقراطية كما وصفتها مجلة “نيوزويك“.
لقد اقترنت التغيرات السياسية التي شهدتها بعض هذه الدول بحدوث نوعٍ من التحولات السياسية والاجتماعية داخل النظام أو “السيستام” السياسي ذاته. وهو ما دعا البعض إلى وصفها بأنها كانت مجرد إعادة هيكلة النظام السياسي بتبنيه لنموذج من الانفتاح الجزئي أو المحدود والمضبوط في الوقت نفسه الوقت أي ما يسمى الانفتاح من دون الدمقرطة (Liberalization without Democraization) وهو ما يعني الانتقال من النموذج الكلي الشمولي القائم على هيمنة الدولة على كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى نموذج يظهر نوعاً من التنازل عن طريقة السيطرة التقليدية على قطاعات الحياة في فروعها المختلفة لكن دون التخلي عنها تماماً من حيث المبدأ. ولذلك تمكنت الحركات الدينية من رفع راية المعارضة من أجل التغيير واستغلال المشاعر الدينية في منطقة توصف تاريخياً بدور عميق ومحوري للدين وهو ما مكّنها من تشكيل تهديد حقيقي في وجه “الاستقرار المميت أو الدائم” بما يعنيه ذلك من تخليد لحالة الطوارئ والأحكام العرفية، وإغلاق دورة النخب السياسية مع العلم أن جميع المجتمعات العربية توصف بأنها مجتمعات شابة، وبالتالي فالثورة الشبابية لم تجد امتصاصاً سياسياً أو بالأحرى دمجاً لها في العملية السياسية، فكان من الطبيعي أن تتجه نحو الحركات الإسلامية القادرة على تحريك المشاعر المضادة والتعبئة الضخمة.
وقد ارتبط ذلك كله وترافق معه نمطٌ من التحولات الدولية التي ساعدت وشجعت عليه، فحرب الخليج الثانية التي كان من أهدافها إخراج القوات العراقية من الكويت ترافقت مع تفكك متلاحق لدول المنظومة الاشتراكية السابقة في الضفة الأوروبية،لكنها في ضفة جنوب المتوسط عنت شكلاً جديداً من الهيمنة الدولية على القرار الوطني المستقل عبر ما يسمى النظام العالمي الجديد،وهذا يعني عبر ترجمته الرسمية تجديد القبضة على المجتمعات ومنعها من التأثر بارتداد الموجة الديموقراطية، وعلى ذلك وجدنا في ما بعد تركيزاً دولياً ورسمياً على عملية السلام العربية – الإسرائيلية وتجاهلاً تاماً لمصالح هذه المجتمعات في الديموقراطية وحقوق الإنسان، كان المجتمع الدولي في حينها معنياً فقط بإنجاح السلام كسبيل حل مشاكل المنطقة، وربما يساعد في ما بعد في الانفتاح السياسي عبر سحب الذريعة القائمة على أن لا إصلاح سياسيا ما دامت دول المشرق في حالة حرب مع إسرائيل تستدعي العمل بقوانين الطوارئ وغيرها من القوانين الاستثنائية، وهو ما أعطى مبرراً إضافياً للحركات الإسلامية لتصب جام غضبها اليوم على الغرب الذي يدعم “الديكتاتوريات ” باستمرار.
وهو ما أعطى صعوداً إضافياً للحركات الإسلامية عبر وقوفها في وجه الغرب، ذلك “العدو التاريخي” الذي يهدد “وجودنا وهويتنا وقيمنا“.
مع أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 بدا أن هناك أجندة دولية جديدة ومختلفة تماماً. ورغم أن بعض الدول حاول التكيف معها في البداية عبر وضع أولوية الأمن ومكافحة الإرهاب على الإصلاح السياسي، إلا أن وضع الديموقراطية وحقوق الإنسان على الأجندة الدولية بشكلٍ صريح وواضح أحرج هذه الدول وقد تجلى ذلك بشكل واضح في انتقاد الولايات المتحدة ذاتها لبعض حلفائها المقربين لعدم قيامهم بالإصلاحات الضرورية، واستغلت الكثير من الحركات الإسلامية الضغوط الخارجية لممارسة ضغوط داخلية في الاتجاه نفسه ولكن مع اختلاف المرجعية، وهو الذي فتح لهذه الحركات الباب أمام ما يسمى التفاوض السياسي مع الحركات اليسارية والليبرالية والقومية المعارضة لتشكيل عدد من التحالفات السياسية كما وجدنا في سوريا في ما يسمى “إعلان دمشق” وتونس ومصر. هذه التحالفات كشفت أن بالرغم من أن الحركات الإسلامية تمتلك التأثير الجماهيري الأكبر إلا أنها بحاجة إلى التفاوض والدخول في مساومات سياسية مع الحركات الأخرى وذلك لأنها على اقتناع أن النخبة السياسية، والتي تتشكل معظمها من غير هذه الحركات تمتلك تأثيراً طاغياً، فهي تتمتع بالخبرة السياسية والتأثير الإعلامي والعلاقات الغربية والدولية.
وهو ما يمكن معه القول أننا دخلنا اليوم في ما يسمى لعبة التفاوض بالأدوار والأوزان، فالحركات غير الإسلامية تدرك الحجم الجماهيري الذي تتمتع به هذه الحركات، وفي الوقت نفسه تدرك الحركات الإسلامية أن الحركات الأخرى تتمتع بعلاقات مؤثرة مع المؤسسات الغربية قادرة على بناء جسر لمصلحتها، كما أنها تسيطر على معظم وسائل الإعلام الدولية وأكاد أقول العربية والمحلية، وبالتالي حان الوقت لشكل من أشكال ” الصفقة الكبرى” بين الأطراف كلها، وذلك بغية تحقيق التغيير وضمانه، وهو لن يتحقق بدون هذا التحالف الواسع من هذه الحركات السياسية المختلفة
رضوان زيادة
( كاتب سوري وباحث في معهد الولايات المتحدة للسلام USIP – واشنطن )