المباريات الرياضية الدولية: تحـلـيــل الكــراهــيـة
كريستوفر هيتشنز
والآن لنستعرض الحصيلة الرياضية: في أنغولا في مطلع كانون الثاني، عصابة قنّاصين تطلق النار على حافلة تقل منتخب توغو الوطني في كرة القدم، مما يسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص، ومجموعة إرهابية محلية تعلن أن عمليات القتل ستتواصل ما دامت مباريات كأس الأمم الأفريقية تجري على أرض أنغولا. الدول الأعضاء في مجموعة التنمية في جنوب أفريقيا المكلّفة استضافة كأس الأمم وكأس العالم في كرة القدم هذا الصيف في كايب تاون، في حالة تشوّش جرّاء الخلاف بين أنغولا والكونغو حول الجوانب “الأمنية” لهذه الأحداث الرياضية التي يقال عنها بأنها مرموقة.
يوجد على مكتبي مقال للأكاديمي اللامع من جنوب أفريقيا، آر دبليو جونسون، يصف فيه موجات الاستياء والفوضى التي تجتاح مدينة كايب تاون الخلاّبة مع اقتراب انطلاقة كأس العالم. التكاليف الباهظة والفساد، إغلاق مدارس لإفساح المجال أمام ملعب رياضي جديد مبني على عجل، عداوة شديدة بين سائقي التاكسي وعمّال النقل المشترك، خلافات مستمرة حول تزوير “سحوبات القرعة” لمباريات الذهاب، مزاعم عن دفع رشاوى للحكّام… وتكرّ السبحة (للمناسبة، أليس هناك شيء عظيم ومثير للشفقة في آن واحد في عبارة “كأس العالم” خلافاً لعبارة “بطولة العالم” World Series التي تنم عن جنون العظمة كونها تشير إلى لعبةٍ [البايسبول] لا تلعبها سوى حفنة من البلدان؟).
تحمل صحيفتي هذه الصبيحة أنباء عن محطة غير سارة أخرى في العلاقات الهندية-الباكستانية: ألغى المشترعون الباكستانيون جولة مقترحة في الهند بعدما أحجم دوري المحترفين لدى الجارة الأكبر عن ضم 11 لاعب كريكت باكستانياً إلى صفوفه.
في هذه الأثناء، تتعرّض كندا اللطيفة والمرحِّبة والرصينة التي تستضيف الألعاب الأولمبية الشتوية في فانكوفر، لسيل من الشكاوى من المسؤولين الرياضيين البريطانيين والأميركيين الذين يقولون إن رياضيّيهم ممنوعون من الولوج الكامل إلى حلبات التزلّج والمسارات وحلبات التزحلق. من المهم أن يكون اللاعب معتاداً عليها في التدريبات والتمارين، لكن من الواضح أن الكنديين مصمّمون على حماية الأفضلية التي يتمتّعون بها كونهم يلعبون على أرضهم. وفقاً لتقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”، شهدت حلبة ويستلر الانحدارية للتزلج واقعة مثيرة للدهشة، حيث “تُرِك العديد من المتنافسين على الميداليات يشاهدون الفريق الكندي يتدرّب من خلف السياج. قال ماكس غارتنر، كبير المسؤولين الرياضيين في ألباين كندا ‘كان الجميع يحاولون الوصول إلى ذلك المنحدر. إنها أفضلية لا نستطيع التخلي عنها’”. لا لا لا، هذا جبلنا ولا يمكنكم التزلّج عليه، أو لا يمكنكم التزلج عليه قبل أن نستغله نحن إلى أقصى حد. تتذمر كايثي بريستنر ألينغر، نائبة الرئيس التنفيذية في اللجنة المنظّمة لألعاب فانكوفر “نحن البلد الوحيد الذي استضاف الألعاب الأولمبية مرتين [مونتريال عام 1976 وكالغاري عام 1988]، ولم نفز قط بميدالية على أرضنا. ليس سجلاً نعتز به”. وهل تعتزون بإبعاد الضيوف من طريقكم في حفلتكم الخاصة؟
لم يكن علي أن أقرأ كثيراً لأجد التعليق الذي توقّعت صدوره حول مثل هذا السلوك الحقود والوضيع. فقد تحدّث رون روسي، المدير التنفيذي لمنظمة “يو إس أي لوج” المتخصصة بالرياضات الثلجية، بلهجة مجروحة عن “اتفاق جنتلمان” مزعوم يرقى إلى لايك بلاسيد عام 1980، وقال عن التكتيك الكندي الماكر “أظن أنه ينم عن افتقار إلى الروح الرياضية”.
على العكس، سيد روسي، ما نراه هو جوهر الروح الرياضية بالذات. فإذا كنت تبحث عن تفاقم الخصومات بين البلدان – كما في أفريقيا هذه السنة – أو عن السمات الأكثر إحباطاً في الشخصية البشرية (مسدسات في غرف الملابس، مضارب غولف تُستعمَل في المنازل، كلاب تتعرض للتشويه والتعذيب في منازل النجوم كي تتعلم كيف تقاتل، مخدرات ومنشّطات في كل مكان)، يكفي أن تنظر إلى عالم الرياضة الواسع للحصول على الأمثلة الأبرز والأقوى. فكما كتب جورج أورويل في مقاله عام 1945 بعنوان “الروح الرياضية”، بعد تفشٍّ جديد للأذى المتعمّد والشوفينية مجتمعَين في عالم كرة القدم الدولية، “الرياضة هي سوء نية أكيد”. ومضى يقول “أشعر دائماً بالدهشة عندما أسمع أشخاصاً يقولون إن الرياضة تولّد نية طيّبة بين الدول، وإنه إذا التقت شعوب العالم في كرة القدم أو الكريكت، لن تنزع إلى التواجه في ساحة المعركة. حتى لو لم ندرك انطلاقاً من أمثلة ملموسة (الألعاب الأولمبية عام 1936 مثلاً) أن المباريات الرياضية الدولية تقود إلى كراهية معربِدة، يمكن استنتاج ذلك من مبادئ عامة”.
قد تقولون إنه يبالغ بعض الشيء. لكن ماذا عن الحرب الحدودية بين السلفادور وهندوراس عام 1969 حيث تصاعد العنف الذي تسبّبت به مباراة كرة قدم ليصل إلى حد القصف الجوي؟ ومنذ وقت قصير، أدّت مباراة كرة قدم بين مصر والجزائر في الخرطوم إلى اندلاع أعمال عنف واسعة النطاق، وتبادل رسائل ديبلوماسية حادة النبرة، وإلقاء الرئيس حسني مبارك خطاباً عن الكرامة الوطنية المهانة، وكراهية هستيرية عبر وسائل الإعلام التابعة للدولة، وتدهور كامل لما يمكن وصفه بالتمدّن. وحصل هذا كله بين عضوَين في الجامعة العربية! للمناسبة، تُسقِط تلك الملاحظة العذر الذي يُساق أحياناً، ويعتبر أنه إذا أبقى بلدان متخاصمان خلافاتهما محصورةً بالملعب الرياضي، يُفسحان بذلك المجال أمام تسوية الخلاف بينهما بطريقة غير مباشرة. قبل المباراة في الخرطوم، لم يكن هناك خلاف ديبلوماسي بين مصر والجزائر. وبعد المباراة، ردّد أشخاص جديون جداً في القاهرة أن الأجواء شبيهة بتلك التي سادت عقب هزيمة البلاد في حرب حزيران 1967… في حالة الهند وباكستان، الوضع معاكس تقريباً: فالعلاقات بين البلدين مشحونة جداً منذ عقود، لكن لا شك في أن الخلاف حول مباراة الكريكيت أدّى بصورة شبه تلقائية إلى تفاقم وضع سيئ جداً في الأصل.
أجل، أجل، أعلم بأمر Invictus، وأنا صديق بعض الشيء لمؤلّف الكتاب الأصلي ومعجب جداً به. لكن استعمال الركبي وطقوس رياضية أخرى لترسيخ الأبارتهايد (الفصل العنصري) واتخاذه مثلاً أعلى هو الذي سبّب المشكلة في المقام الأول. ولا يعتبر أي مراقب ثاقب الفكر للمشهد الجنوب أفريقي أن واقعة Invictus كانت أكثر من مجرد توقّف قصير في الانحدار المطّرد للصداقة بين المجموعات الإتنية في البلاد: ولهذا الانحدار علاقة كبيرة بالخصومات الرياضية والولاءات والعادات الحمقاء التي تستند إليها هذه الانتماءات. إذاً هذا واقع شديد السُمّية إلى درجة أنه حتى مانديلا لا يستطيع فعل شيء حياله (أظن أن الأشخاص الذين يطلقون على أنفسهم بكل طيبة خاطر اسم fans أي عشّاق اللعبة، يعرفون أصل الكلمة لكنهم لا يعتبرونها إهانة).
لم أنتهِ. فخطابنا السياسي الضعيف أصلاً، انحط أكثر فأكثر بفعل الاستيراد المستمر للاستعارات من عالم الرياضة: إنها عبارات واهية ومبتذلة وسخيفة مثل عبارة bottom of the ninth [المستخدمة في البايسبول، وتعني مجازاً الفرصة الأخيرة]، وgoal line (خط المرمى)، ومن يدري ما هي العبارات التافهة الأخرى. فهذه الاستعارات ليست مزعجة جداً للعينين والأذنين وحسب – وهناك بعض رسّامي الكاريكاتور الذين لا يستطيعون على ما يبدو أن يرسموا كاريكاتوراً من دونها – بل إنها تزيد أيضاً من الميل المؤسف للنظر إلى المنظومة الحزبية باعتبارها مسألة ولاء للفرق الرياضية، وهو الشكل الأكثر ابتذالاً ومحدودية الذي يمكن أن يتّخذه التعلّق بأمر معين. أما صخب الرعاية المالية فيعني تسويق مجموعة من الأشخاص المشاغبين والرديئين وتقديمهم إلى الناس بأنهم “نموذج يحتذى”، ويُعتبَر أمراً طبيعياً أن يتم إرجاء البرامج الجدية أو حتى قطعها إذا دخلت مباراة مملة ما (الكلمات في ذاتها تشبه ناقوس النعي) الوقت الإضافي.
لا يمكنني أن أحصي المرات التي أخذت فيها الصحيفة في مرحلة أزمة ووجدت أجزاء كاملة من الصفحة الأولى مخصّصة للنتيجة المعروفة لمباراة مملة ما أو للانتهاكات الأخلاقية أو الإجرامية لرياضي يبتلع المنشّطات ويتقاضى أجراً مرتفعاً جداً. اسمعوا: تخصّص الصحيفة جزءاً منفصلاً للأشخاص الذين يريدون أن يحطّوا من فعل القراءة عبر التحديق بحماسة إلى نتائج أحداث رياضية حصلت في اليوم السابق. كما كُرِّست لهؤلاء المستهلكين النهمين أطنان من القنوات والمنشورات المتخصّصة التي تلبّي بكل حب حاجاتهم الخاصة. جل ما أطلبه هو أن يبقوا بعيدين عن الأجزاء الراشدة في الصحيفة.
أو تخيّلوا هذا: أجلس في حانة أو مطعم ثم أقفز فجأة عن مقعدي، ووجهي يلتوّى من البهجة أو الكرب، وأصرخ وأومئ بيدَي وكأنني أحارب سرباً من النحل. أتوقّع من كبير الخدم أن يتفوّه بكلمة لتهدئتي على الأقل، ويذكر وجود أشخاص آخرين. لكن جل ما علي فعله هو التفوه ببعض التعويذات التافهة – مثل “ستيلرز” أو حتى “كوبز” – فيقرّر الجميع أنني حالة خاصة ويجب تهدئتي واسترضائي. أو يجب تجنّبي: هل علقتم يوماً في شجار حول مباراة لم تكونوا على علم حتى بأنها تدور؟ أو رأيتم الوجوه المثيرة للشفقة لرجال، وحتى لنساء يحاولون اللحاق بالركب عبر الإعلان عن ولاء مطلق لفريق على الشاشة؟ إذا أردتم استعارة رياضية لائقة تنطبق على قطيع عشاق الرياضة تماماً كما تنطبق على اللاعبين، حاولوا اختيار واحدة من الفضائح الأحدث عهداً. كل تلك النظرات – والأحاديث – القلقة وكأنهم مصابون بارتجاج دماغي.
مهلاً! هل أجريتم يوماً نقاشاً عن التعليم العالي من دون أن يلوّثه اللغو عن فريق الجامعة والمنشآت المترفة جداً المخصصة داخل الحرم الجامعي لطقوس الحروب الرياضية؟ هل لاحظتم كيف أن المؤشر عن حدوث تحوّل في مسيرة ثانوية سيئة هو عندما يسيطر رياضيوها على زمام الأمور؟ هل تقلقون عندما يظهر جنرالات متقاعدون على الشاشة ويتحدّثون بغباوة عن “التقاط الكرة وتسجيل نقاط” في أفغانستان؟ إذا استلهمنا من قانون غريشام [الذي ينص على أن المال الرديء يعمل على طرد المال الجيد]، فإن التركيز على الرياضة يخفّض أكثر فأكثر القاسم المشترك الأكثر تدنياً في حقل الرياضة، وفي كل الميادين الأخرى التي تسمح للرياضة بأن تلوّثها.
مع أن الخبر ليس جديراً بأن يرد في صفحة الأنباء برأيي، لكنني علمت اليوم أنه ليست هناك كمية كافية من الثلج لمهرجان الضغينة هذا الذي تُنفَق عليه أموال طائلة في فانكوفر، ولذلك سوف يحضرون ثلجاً بالمروحيات من الشمال. سيكون هذا على الأقل ممتعاً للنظر موقتاً (أنا واثق من أن سكان هايتي في شكل خاص سيندهشون كثيراً برؤيته). أما أنا، إلى جانب ملايين الأشخاص الآخرين غير المبالين، فلن أتمكّن من الإفلات من الملل القاتل للأحداث الرياضية في ذاتها. لم يسبق أن بدا الاحتباس الحراري أمراً مغرياً إلى هذه الدرجة. فليمتنع الثلج عن التساقط، فليمتنع الثلج عن التساقط، فليمتنع الثلج عن التساقط.
“نيوزويك”
ترجمة نسرين ناضر
(مساهم في نيوزويك وكاتب عمود خاص في مجلة “فانيتي فير”)
النهار