تطور النظرة الإسلامية إلى أوروبا لخالد زيادة
خالد غزال
تفاوتت معرفة المسلمين بالغرب الاوروبي بين مرحلة واخرى من التاريخ، واحتلت النظرة المتبادلة، حذرا او عداء او اعجابا، مكانها وفق درجة التفاعل بين المجتمعات الاسلامية، عربية أكانت ام غير عربية، الى ان وصلت الى القرن التاسع عشر حيث باتت العلاقة متداخلة، تحكمها مصالح متبادلة، وهيمنة عسكرية وسياسية، وتبادل ثقافي. يشكل كتاب خالد زيادة :”تطور النظرة الاسلامية الى اوروبا” واحدا من الدراسات التوثيقية لمسار العلاقة، وهو في حقيقته نظرة متبادلة لكل من اوروبا والمسلمين لبعضهما البعض. صدر الكتاب عن “رياض الريس للكتب والنشر” في بيروت (2009).
يرصد زيادة النظرة الاسلامية الى اوروبا انطلاقا من المرحلة التي بدأت فيها الدولة الاسلامية توطد موقعها وتتوسع، وصولا الى دق ابواب اوروبا. في المرحلة الاولى من توسع المسلمين، كانت اوروبا تعيش ما كان يعرف بعصور الانحطاط، حيث تقوم نظرة المسلمين على ان الاوروبيين مجموعات من البرابرة الغارقة في الجهل والتخلف. كانت المعرفة تكاد تقتصر على الدولة البيزنطية التي كانت على احتكاك بالمجتمعات الاسلامية، سلما وحربا. وعلى رغم الحروب الصليبية التي نشبت، فان المسلمين ظلوا على جهل بواقع “الافرنجة”، وظلت نظرتهم تجاههم تتسم بالفوقية مرفقية باحتقار لعقولهم وعلومهم. شكل سقوط الاندلس نقطة تحول في نظر المسلمين، حيث باتت النظرة العدائية الاسلامية مرتبطة بالموقع الديني، وهو ما اسس لصراع قائم على اسس دينية بين المسيحية والاسلام.
شكل الفتح العثماني في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ومعه سقوط القسطنطينية وهزيمة الامبراطورية البيزنطية مفصلا جديدا في العلاقة، رمت تحديات في وجه العثمانيين الذين كانوا لا يزالون يجهلون العالم اللاتيني الذي اجتاحوا قسما من اراضيه. على رغم ان هذه المرحلة، وصولا الى منتصف القرن السابع عشر، قد شهدت حركة سفراء ومؤرخين مسلمين الى اوروبا، الا ان النظرة الاسلامية التقليدية ظلت سائدة لجهة تفوق المسلم عامة والعثماني خاصة على الاوروبي. استوجب الامر حصول معركة “كارلوفيتز” في العام 1699 وهزيمة العثمانيين وخسارتهم لقسم واسع من الاراضي الاوروبية التي كانت تحت سيطرتهم، من اجل حصول اهتزاز في الوعي المسلم تجاه اوروبا.
منذ القرن الثامن عشر وما تلاه، سيجري تبدل في النظرة الاسلامية، ترافقت مع التعرف على اوروبا بحلتها الليبرالية بعد قيام الثورة الفرنسية وانتشار ثالوث الحرية والمساواة والاخاء. عزز هذه المعرفة ان السلاطين العثمانيين ارسلوا بعثات علمية الى اووربا، وبدأوا باصلاحات محلية مستوحاة في جزء كبير منها من الافكار الاوروبية الجديدة. ستشهد تلك الفترة تعرفا اسلاميا وعربيا على اوروبا المتقدمة وعلى النظام السياسي القائم على الحرية وعلى مفهوم الاستقلال والنظام الجمهوري. شكلت تلك المرحلة طليعة النهضة الاسلامية والعربية، وذروة التأثر بالليبرالية الاوروبية التي انعكست في كتابات رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وخير الدين التونسي، ثم لاحقا لدى جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وحسين الجسر وغيرهم”.
ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ستدخل العلاقة الاسلامية الاوروبية في منعطف معقد، يجمع بين التشديد على اكتساب من الحضارة الاوروبية والافادة من تقدمها العلمي، من اجل تجاوز التخلف العربي والاسلامي، وموقف يتسم بالحذر والعداء والصراع نتيجة تحول اوروبا مستعمرة ومسيطرة سيطرة مباشرة على هذه المجتمعات. بدأت المعركة اسلامية- اسلامية مع الغاء الخلافة على يد مصطفى كمال واقامة نظام علماني مستوحى من اوروبا، وهو ما فتح جدلا في العالم الاسلامي قاده بداية الشيخ علي عبد الرازق في كتابه :”الاسلام واصول الحكم” الذي انكر فيه ان تكون الخلافة من الدين.
وتواصلت الحركة الفكرية خلال القرن العشرين، في وجهيها الوطني الداعي الى مناهضة الاستعمار وتحقيق الاستقلال، والاصرار على علاقة مع الغرب تبغي استيراد علومه وحضارته. عرفت تلك الفترة مجموعة اعلام في العالم العربي وفي المجتمعات الاسلامية الاخرى، فدعا رشيد رضا الى البحث عن تكافؤ مبادئ واقعي بين الشرق والغرب، وقاد شكيب ارسلان الدعوة الى حرب ضد الاستعمار الاوروبي، مشددا على ضرورة قيام حركة اسلامية نهضوية، ودعا الجزائري مالك بن نبي الى نظرة حذرة تجاه اوروبا حيث “النفس المسيحية – الاوروبية تنقلب الى نفس مستعمرة في صلاتها الواقعية مع العالم الاسلامي”، وانجذب احمد لطفي السيد الى فكرة الحرية كما اخذها من المفكرين الاوروبيين، وشدد اسماعيل مظهر على وجوب استيعاب العلوم الحديثة واخذها من الغرب، ودعا طه حسين الى بحث قضية الثقافة وما اذا كانت مصر تنتمي ثقافيا الى الشرق ام الى الغرب. اما في الهند، فدعا محمد اقبال الى المزاوجة بين التمسك بالدين واكتساب المعرفة من الغرب، فيما ذهب الهندي ابو الحسن الندوي الى القول: “كان يتوجب ان ينهار الاسلام حتى تصعد اوروبا في القرن السادس عشر، ولكي ينهض الاسلام ثانية، لا بد من انهيار اوروبا”، اما الفارسي حسن الشيرازي فقد ظل مصرّا على ان الصراع كان ولا يزال صراعا بين الاسلام والكفر، وان اوروبا تمثل الشر والعداوة، وهو الموقف المتشابه الذي قال به ابو علي المودودي.
شكلت العقود الماضية نقلة نوعية في النظرة المتبادلة خصوصا بعد صعود الحركات الاصولية الاسلامية المتطرفة وممارسة فعلها الارهابي، وما رافقها من نظرة غربية تغلّب السلب في قراءتها للاسلام ووصمه بالارهاب، وهو ما يجعل العلاقة اكثر تعقيدا من اي مرحلة سبقت.
(كاتب)
النهار