صفحات أخرى

صالح بشير والكبرياء الحقة- ليس لصاحب الرأي من يتذكره

null
فادي العبدالله
مر عام على غياب صالح بشير، في 19 شباط 2009. إنه عام قلّت فيه مساءلة العرب لأحوالهم، بعد رحيل أحد أعمق “مسائليهم” ثقافة وحدّة نظر. برحيل بسام حجار كنا فقدنا بعض أسباب رغبتنا في الكتابة، أعني الأمل في عرض ما نكتب على ما يكتب، وقياس المسافة، فاليوم باتت المسافة لا تقاس ولا تقطع. غير أن شعر بسام حجار باق في قلوب الكثيرين ومحابرهم، وتلك ليست حال صالح بشير الذي لم يكتب شعراً، على ما نعلم، وإن تكن أناقة جملته أكثر جمالاً وبصيرة بالكلام من الكثير من الشعر. لذا يسع المرء أن يتساءل هل لصاحب الرأي، المستقل حقيقةً، لا بوق النظام ولا بائع الشعارات أو مسؤول الحجج والتسويق، هل لصاحب الرأي هذا، المتأني والدقيق، من يتذكره؟! حزن الشعراء مُعدٍ، لذا يبقون اذ يبثّوننا وساوسهم، أما بشير فكان يبثّنا ذكاءه ورفعة قوله وكبرياء لغته، وهذه جميعها مما يثير الحسد فوق ما يثير الاعجاب. هذه المقالة لذكرى صالح بشير، الرجل البالغ اللطف الذي لم ألتق به سوى مرة سريعة في باريس، إلا ان أثره، من قبل ومن بعد، عميق.
كان صالح بشير، على ما يقول رفيق دربه حازم صاغية، عازفاً عن غواية القراء وشعبويتهم. وربما كان القدر بادله عزوفاً بعزوف، اذ لا نجد اذا ما سئلنا عنه “غوغلاً” إلا موقعين أو ثلاثة، فضلاً عن مدوّنتين غير مكتملتين كان يضع فيهما مقالاته، ومدونة ثالثة للقراء منعها من الاستمرار لؤم البعض وسعيهم المستمر إلى الانتقام من صاحبها لأنه، كصالح بشير، ذو رأي مستقل. بل إن هذا القدر، إمعاناً في منحه ألوان الهامش، منح إسمه للاعب كرة قدم، تُخصَّص له مئات الألوف من الصفحات الالكترونية! لا يتسنى للمرء، خارج صفحات هذه المدوّنات الضئيلة، العثور على كتابات صالح بشير، الذي عزف، في ما عزف عنه أيضاً، عن تأليف الكتب، مكتفياً بنصف كتاب مع حازم صاغية، تخوفاً ربما من أن تلحق به صفة “المفكر”، وهي مما كان يستعظم قدره، أو خشية ان تكون نهائية الصياغة في الكتاب المطبوع منافية لمجرى الفكر المتحول والمدقق في بناته تكراراً. لعله رأى في صفحات الجرائد خطراً أقل، كونها آيلة إلى الاستهلاك السريع أو، في أحسن الأحوال، إلى الرسكلة، فحبّرها بمقالات تطرح الكثير من الأسئلة ولا تزعم جواباً جامعاً مانعا.
على رغم ضآلة ما قد نجد، تظل كتابة صالح بشير، بل هو فكره وإن استكثر هذه الكلمة، مثار أسئلة محرقة: ما الذي يفعله بالأفكار؟ كيف يفكك ما يبدو بديهة، لا لرغبة في الاستفزاز ولكن دفعاً للنقاش إلى ما يتجاوز الخرافة الشائعة أو الأسطورة المؤسسة؟
ثمة سحر في تلاعب صالح بشير بالافكار، ربما كان فقط إنتاج عدالته القصوى في تفحص الأمور والحكم، المعلّق دوماً، عليها. هكذا أجال نظره في العالم، حريصاً على تحويل الكتابة فعلاً يدافع عن قيم محددة، ولم يعفه شغفه بالجديد والابتكار من المحافظة على محاور اساسية قليلة هي في الصلب من رؤيته للسياسة وعلاقات القوى في العالم، مثلما لم يعفه وعيه الحاد بالواقع من كبرياء تصرّ على الفعل فيه.
عدالة الرأي
فمن سمات فكر صالح بشير أنه لا ينقض رأياً بعنف ليثبت آخر، بل يسعى دوماً لتفهم مبررات الفرقاء جميعاً واستيعابها، قبل أن يدفع الأمور إلى أفق أعلى وأشمل، وهاجسه الدائم الخوف من الوقوع في التكرار والكسل، حتى كاد الاجترار يكون عنده الدليل الأعظم على فساد الفكرة.
فإذا تفكر في “الديموقراطية الاسرائيلية” لم يكتف بتكرار ما هو معهود سواء عن نفاقها، او عن محدوديتها واقتصارها على اليهود الغربيين، بل رأى أعلى من ذلك تناقض هذه التجربة مع ما يدّعي دعاة الديموقراطية في ربوعنا أنه قواعد لا مناص منها لإحلالها، أي قيامها على ايديولوجيا اقصائية عنيفة ورابطة دينية لا مدنية، وتأسسها على خرافة تاريخية. يخلص صالح بشير إلى تأكيد التحدي، النظري والعملي، الذي تطرحه التجربة الاسرائيلية على فكر عربي كسول، تنكر لهضمه القديم للإرث اليوناني إلى حد التماهي به في المحاججة مع الهنود مثلاً، وبات يتعجل ادعاء التفكير من دون استكمال عدته.
واذا عرض للصراع الفلسطيني – الفلسطيني، لم يكتف بالنظر إلى المحاور في المنطقة، بل رأى صراعاً أسبق ما بين فكرتَي الشرعية والقانونية، هو بدوره انعكاس لمنطقَي الثورية (السابقة للشرعيات) والكيانية (المؤسسة للقوانين) المتصارعين في المنطقة.
واذا ما تناول الاعتدال والممانعة المزعومين عربياً، رأى في الخيارين، مقاومة أم مساومة، عاملين لانقسام المجتمعات العربية داخلياً، من دون أن يفيد أيٌّ منهما في مواجهة اسرائيل، وخصوصاً أن التطرف جزء من البنية الايديولوجية لهذه الأخيرة التي بلغت من القوة شأواً سدّت فيه منافذ الطريقين معاً. إنه تحدٍّ جديد يطرحه علينا، مقاومين أكنا ام تسوويين، خصوصاً في اللحظة التي تغالي اسرائيل فيها في “غيرنة” الآخر الفلسطيني إلى حد تشييئه، مما يشهد عليه ملاحقة رئيس وزرائها السابق في قضية فساد مالي فيما كان يرتكب المجازر والجرائم من دون حسيب.
وعلى كونه داعية سلام، فإن صالح بشير لا تفوته واقعة أن المبادرة باتت ناجزة في يد اسرائيل، التي تتلاعب بالمسارات المختلفة كي لا توافق على أي مطلب فعلي. فالمسارات التفاوضية بالنسبة اليه ليست هدفاً مبهجاً في حد ذاته، خصوصاً اذا ما ترافق مع استدراج اسرائيل لعرض يقوم على السلام معها مقابل حماية العرب من إيران، فيما تراودها من جديد أحلام تبادل السكان وطرد غير اليهود بدل ارجاع الأرض الفلسطينية وذلك في اطار تبدل في بنية الفكر الصهيوني، قد لا يدركه الكثيرون منا، من السعي إلى الغلبة اليهودية إلى النقاء الاثني (الديني) التام.
واذا ما سرّح بصره في ارجاء العالم رأى في الصين توجهاً نحو الانضمام إلى “النادي الفضائي” المعد، بحسبه، للحلول محل النادي النووي بعد ابتذال هذه التقنية. ورأى، منذ اليوم الأول، في انتخاب أوباما مستويين متفاوتين، ما بين أوباما السياسي الآيل لا مناص إلى تخييب عدد كبير من الآمال، وبين أوباما الرمز الذي أعاد إلى الديموقراطية الاميركية قدرتها على أن تكون مثالاً يستلهم لا نموذجاً يفرض.
الاعتراض بالفعل الكتابي
لا يمنع هذا العرض الدقيق والعميق من اتخاذ مواقف واقتراح تجارب وأفكار. فبشير، المعترض على النفي العربي للمحرقة، يطالب، على العكس، بتعميق الاعتراف بهذه المأساة ورفعها إلى السوية البشرية الإنسانية الشاملة التي تتطلبها. عند ذلك، يمكن المأساة الفلسطينية ان تندرج في اطار المعايير القيمية الشاملة ويمكن الدفاع عنها بطرحها “على ضمير الكون بوصفها شينا خالصا لا تستعيد الإنسانية إنسانيتها إلا بتلافيه”. من هذا المنفذ، المتجاوز للبعد الوطني أو القومي او الإسلامي البحت، يطرح بشير نقده لحقوق الإنسان مؤكداً ان الدعوة إلى اطلاقيتها لا تقوم ما لم تترافق مع اطلاقية مفهوم الإنسان نفسه الوارد فيها والقبول، نظرياً وتطبيقياً، بالمساواة الشاملة بين جميع البشر حقوقاً وواجبات، وتلك مطابقة لا تزال عصية، إلا انه يدعونا للعمل في سبيلها، خصوصاً بعدما رأى في انتخاب أوباما فرصة جديدة للانتساب إلى القيم الجديدة التي أوصلت نزيل البيت الأبيض الجديد إلى منصبه.
هذه القيم يتهددها، في رأيه، ابتسار حق التعبير واختزاله إلى حق استهلاك المصنوعات الإعلامية، الموجهة مالياً بالطبع، مثلما يتهدده تحويل انتاج الأفكار صناعةً للمنتوجات السياسية، على ما رأى في نشاط “المحافظين الجدد” المزعوم. لذا فإن استتباع حرية السوق لحرية التعبير، في وصفها تحويراً لوظيفة الإعلام إلى الأخذ بتقنيات السوق، هو ما واجهه صالح بشير في كل مرة بالقول وبالفعل الذي هو كتابته الذكية والدقيقة والمتأنية والمترفعة عن الابتذال السوقي.
عن الايديولوجيا
لا يمنع ذلك التعمق في التفكير والخوف من الاجترار والكسل، من المحافظة على محاور بنيوية في فكره، مثال ذلك موضوعتا مفهوم الايديولوجيا، والحيز الترابي للدولة، وعليه تبنى كل سيادة، وهي موضوعة شائعة في كثير من مقالاته وتحليلاته كتحليله للنزاع الروسي الغربي على جورجيا أو لأزمة العولمة الاقتصادية.
فإذا تناول الجماهير، خلص إلى سطوة هذا “المفهوم” (النافل الاطناب بحسبه) على الأفهام وانفصاله عن الواقع معاً، والدليل غياب جماهير سورية او تونسية أو مصرية. وأشار إلى أسباب هذا الانفصال عن الواقع لجهة عجز هذه الجماهير عن التأثير فهي ليست في لحظة ثورية ولا في دول ديموقراطية، لذا فإنها تحولت مجرد تعويذة لاستدرار الشرعيات ولإفحام من لا يجدون خطاباً يأخذ الواقع في الاعتبار. يتقاطع هذا القول مع فهمه للايديولوجيا على أنها قسر ينطلق من علاقة بجزء من الواقع، وهذا ما يجعلها تفعل فيه، إلا انها في الحالة العربية، بانفصالها التام وسطوتها على الخطاب، تصير عائقاً امام كل مقاربة واعية عقلانية تدرك موازين القوى في المشكلات المطروحة.
يتنبه صالح بشير بالطبع إلى تشابه الايديولوجيات المتصارعة، الرأسمالية والشيوعية، في دعاويهما الخلاصية والتقدمية، وذلك مستقى من ارث مسيحي أكيد على رغم ما يدعيه أنصار هذه وتلك، حيث تتابعتا غلواً وتشدداً ثم انهياراً وانحلالاً بأزمات داخلية في أقل من عقدين من الزمن.
وهو يرى في الانفعال التركي حيال غزة سنداً جديداً لأهمية السيادة معياراً تقاس به التحالفات الدولية والمصالح، في حين أنه تام الغربة عن العرب، إلا في معنى الاستئثار بالسلطة. وهو من الحذرين حيال التشكيك في الدولة ومفهوم السيادة، ومن المنتقدين للخطاب الليبرتاري في ربوعنا، لأن هذين الخطاب والممارسة يتطلبان في رأيه وجود دولة قوية تامة البنيان، أما في غيابها فإن الأمر لا يعود سوى لغو أو تغطية، تحت مفاهيم ما بعد حداثية، لممارسات تعود إلى ما دون الدولة والمجتمع المدني، إلى العصبيات القبلية والعشائرية والطائفية. لذا فإن على الخطاب الليبرتاري أن يكون أولاً مساعداً في استيلاد الدولة، أي، بحسب عبارة صالح بشير، أن يعيد صياغة نفسه.
الكبرياء الحقة
هكذا يبني صالح بشير، لبنة لبنة، عمارة فكرية تطبيقية، لا تكتفي بنقاش الأفكار بل تعرضها باستمرار على الواقع وتمتحنها به. هكذا يبني ايضاً تفاؤله الصلب والعميق، اذ لا يخال قارئه، ولو للحظة، أنه يئن (وإن بكى للضحايا) أو أنه يائس (على رغم تكراره عرض التحديات الهائلة التي نواجهها دونما عدة أو وعي)، بل هو دوماً مصرّ على طرح التحديات بوصفها ما يمكن التصدي له، وعلى فهم العالم بوصفه ما يمكن العمل الدؤوب والخيال الواعي الفعل فيه وتغييره. فعلى ما كان يقول، بعد تفنيد احلام الحالمين سحابة صيف بالعودة إلى زمن الحرب الباردة أو إلى الأحلام الاشتراكية المملة، فإن “العالم كف إذاً عن أن يكون قائما على استقطاب ثنائي منذ أن وضعت الحرب الباردة أوزارها، ثم كف عن أن يكون خاضعا لأحادية قطبية مع ما يلوح راهنا على النفوذ الأميركي من انحسار… ألا يعدّ ذلك أمرا مهما، يفتح آفاق المستقبل، لمن كان قادرا على الإقدام عليه بشيء من خيال ومن إبداع، ولا يتوقف عند اجترار “أزمنة جميلة” وهمية؟”.
“لا مناص من استمرار السعي في طلب الحل والضغط من أجل بلوغه، ولكن من خلال اجتراح شروطه السياسية”، يقول صالح بشير، من دون الوقوع في جبرية تيئيسية او احباطية، أو الاتكال السلبي على نزلاء البيت الأبيض وتغيير وجوههم. ولعله كان يرى في عودة مركز الثقل إلى ما كان يسميه “المراكز الحضارية” للعالم العربي، بدل الفضاء الصحراوي، أحد هذه الشروط.
إنها الكبرياء الحقة، التي تنظر إلى العالم كما هو بموازينه ومجراه، لكنها لا تتنازل عن الحق في الفعل فيه، سواء بحجة ايديولوجية هاذية ام بزعم مسايرة خانعة ¶
ملحق النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى