الجامعات الافتراضية هل تطرق أبواب كومبيوتراتنا و… جامعاتنا؟
أحمد مغربي
هل يبدو غريباً أن يكون هاري بوتر هو “عالم أفاتار” الجامعات الافتراضية؟ لنفكك المسألة بهدوء. لقد اجتذب بوتر جمهوراً ضخماً من المراهقين والشباب، فلا مجازفة كبرى في النظر إليه نموذجاً عن ذائقة معاصرة لدى جيل يكبر في ظل الكومبيوتر، بمعنى أنه ينظر إلى شاشات الذكاء الاصطناعي (والاتصالي) كأنها بداهة في الحياة. يكبر الجيل الالكتروني معتبراً ان للكومبيوتر مكانه المكين في المنزل، وأن حاسوباً محمولاً هو أمر يومي، وأن أدوات واسطوانات تختزن من المعلومات ما يفوق أحلام الآباء الذين قد يرون في تلك الأشياء “العادية” إدهاشاً يلامس حدّ السحر. ثمة جيل يرى بديهياً أنه ينظر إلى شاشة الألعاب الالكترونية ويلعب بيده على مفاتيح الخليوي ليكتب رسالة، ويتابع شيئاً عبر الانترنت، وربما يردّ على مكالمة عبر سماعة “بلوتوث” في الوقت عينه! هل بديهي أن ينسج هذا الجيل علاقة مع مسألة التعلّم ومؤسساته كافة، من المدرسة إلى الجامعة، على المنوال نفسه الذي سارت عليه الأجيال السابقة؟ وما العلاقة بين التغيير في تعامل الذكاء الشخصي، في عصر شبكات الذكاء الاجتماعي وتواصلاته وأدواته، مع مسألة “التعلّم”، من جهة، ومسار مؤسسات، من مثل المدرسة ذات الجدران والغرف، والجامعات ذات التسلسل الأكاديمي الصارم وغيرها؟ لماذا انشَدَّ هذا الجيل الإلكتروني إلى روايات هاري بوتر؟ من المستطاع تفسير ذلك بانبعاث معاصر لخطب قديمة، كثير منها غير عقلاني، في عصر الفضاء الافتراضي، بداية من أساطير الدين وميثولوجياتها وخطبها السياسية وصولاً إلى انبعاث العرقية والعنصرية والشوفينية والتعصّبات الضيّقة والانتماءات القائمة على الدم وغيرها. ليس المقال لمناقشة هذه المسألة العائدة محمولة على صهوة أدوات تقنية ومفاهيم وذائقات، ما بعد الحداثة. الأرجح ان للأمر وجها آخر، مهما بلغ تداخله مع انبعاثات اللاعقلانية، إذا جاز استخدام مثل هذه الثنائية التي يصعب عدم وصفها بالتسطّح.
الأرجح أن شيئاً كثيراً من النقاش عن الجامعات الافتراضية له علاقة بالخروج من ثنائيات العقلانية، وكذلك من أساطيرها المؤسسة ورواياتها، والتي لا تقتصر على الدين، بل يقيم كثيرها في قلب الفلسفة والعقلانية أيضاً. لنجرّب هاري بوتر مرة أخرى. ما الذي تقوله تلك السلسلة من الأفلام والروايات؟ ماذا لو أجرينا إسقاطاً، متعمداً وواعياً على ذلك الفيلم، باعتباره تجسيداً فنياً لعالم الانترنت؟
لنتأمل قليلاً. يبدأ الأمر بالمراهق المنسي في عائلته، في شبه عزلة وفي علاقات مأزومة مع من حوله، وذلك أقرب إلى ترسيمة فن عن شكوى شائعة عن جيل الانترنت، الذي يكاد ان يكون “ما بعد إنسانياً” في عيشه الحاضر.
في أشرطة بوتر، تتحرك البيوت والجدران، ويجري اجتيازها عبر السفر في غير الطرق التقليدية المعروفة، للوصول إلى مدرسة السحر، فكأنها تجسيد فني مرتكز على صورة شبكة الإنترنت. في تلك المدرسة، تتحرك السلالم بسهولة، وتتبدل الأماكن، وتبدو القدرات مختلفة، والعلاقات على غير ما يُعاش عادة، فتذكّر بالانترنت بسهولة. في الجزء الأول، تحمل الطيور إلى هاري عصا سحرية عليها كتابة 2000، وكأنها بعض من نظم الكومبيوتر وبرامجه. وبذا، تبدو المنافسة بالطيران في الفضاء الساحر، أقرب إلى مجاز الخيال عن فضاء الانترنت والتحليق فيه. وربما الأهم، أن معقد الأمر كله في روايات هاري بوتر هو التعلّم والوصول إلى المعرفة، ودوماً بغير الطرق التقليدية الشائعة في المجتمعات المعاصرة. في هذا السياق (هذا للتذكير، إسقاط متعمد وواعٍ)، تبدو مدرسة هاري بوتر مزيجا من قدامة مغرقة في علوم متوارثة من جهة، وحداثة مفرطة من جهة ثانية. بدل ان ينظر إلى الانترنت باعتبارها أقرب إلى السحر، يقلب التصوير الفني الأمر، ليصنع المدرسة على صورة القدامة، كخيال عن واقع “المدرسة” الهائلة للعالم الافتراضي للإنترنت. لنلاحظ أن التركيز في التعلّم في تلك “المدرسة” هو على ما يقوى على تغيير الواقع الفيزيائي المادي (بما في ذلك البيولوجيا والأجساد) والتلاعب به. أليس ذلك مركز قوة العلم، الذي يصفه البعض بأنه قتل السحر وأحلّ محله عقلاً إنسانياً متنبهاً ومتفاعلاً مع الكون، خصوصاً المتقدم من ذلك العلم؟ في هاري بوتر، ثمة لعبة تقلب الأدوار كي تصل إلى ترسيمتها الفنية، بطريقة مرهفة وفائقة الذكاء.
لننتقل إلى فيلم “أفاتار”. ثمة عالم لا يمارى في قدامته، لكن هناك من يصله عبر جسد مستنسخ ومُعدّل جينياً، ويجري التحكّم فيه عبر العالم الافتراضي. في “أفاتار”، الأجساد التي تزور ذلك العالم القديم، تحمل حداثة شديدة التقدّم، وتتفاعل مع قدامة تحاول حداثة متوحشة ومنفلتة، على نحو يذكّر بحداثة متوحشة عند النازية والشيوعية. إذا أردنا إسقاط ذلك المزيج الفني على حاضر الشبيبة، تبدو “مدرسة” السحر في هاري بوتر كأنها “أفاتار” للجامعات الافتراضية على الانترنت.
لا تقعوا في الحيلة التقنية!
لماذا تعمّد هذا التشبيه ومجازاته وفنونه؟ ببساطة، لأن لا جدوى من نقاش مسألة الجامعة الافتراضية بالتركيز على التقنية، فذلك مدخل للوقوع في حيلة التقنية الأقوى، بمعنى قصر النظر على ما هو تقني في التكنولوجيا وكأنه يقدر على تفسيرها.
ثمة مسألة أخرى في هذه المقاربة: محاولة الخروج من الميثولوجيا في التفكير، خصوصاً ميثولوجيا الفلسفة وخطاب عقلانيتها، ربما كما تظهر في أجلى صورها عند ديكارت. في العودة إلى بيان شهير لفرنسوا ليوتار في سبعينات القرن الماضي، الذي اعتبر انطلاقة لفكر ما بعد الحداثة، جرى التشديد على سقوط الروايات المؤسّسة الكبرى، التي ربما مثّل الدين والإيديولوجيات الكلية أوضح أمثلتها. طرح ليوتار مشكلة السيطرة الاجتماعية على المعلومات، التى أصبحت أحد محاور صراعات السلطة والمكانة على المستوى الاجتماعى، من خلال دراسة ما يسمّيه “مشكلة المشروعية” في العلم، وينسبها إلى تفكك العلم من حيث حقوله ومؤسساته على حد سواء، وما يمثله ذلك من تهديد للابتكار وتوجيه له لصالح مجموعات معينة.
للحيلولة دون ذلك، طرح ليوتار بدائل من نوع رفض محاولة لتحقيق “مرجعية حصرية” باعتبار ذلك أمرا ينطوي على إرهاب للفكر، وإتاحة بنوك المعلومات للجمهور بغير قيود. يطرح ليوتار مشكلة السيطرة الاجتماعية على المعلومات، التى أصبحت أحد محاور صراعات السلطة والمكانة على المستوى الاجتماعي، عبر طرحه إشكالية المشروعية في العلم. تمثّل الجامعة مؤسسة تلك المشروعية (على رغم تفتتها عبر التوسّع المطرّد في التخصص)، ما يفتحها على الارتباط بالدولة والسلطة والثقافة المسيطرة، بما يمثله ذلك من تهديد للابتكار وتوجيه له لصالح مجموعات معينة.
لا يتسع المجال لنقاش العلاقة بين بنى الفلسفة التقليدية وبنية الجامعة في المجتمعات الحديثة، التي فصّلها ليوتار في كتابه عن “وضع ما بعد الحداثة”، المترجم الى العربية تحت عناوين شتى. لنلاحظ ان ليوتار رسم صورة أولية لمفهوم العلم في المجتمعات المعاصرة، ما يصلح مدخلاً لتصوّر الجامعة الافتراضية وممارساتها. اعتماداً على رفض ليوتار للمرجعية الحصرية (لأسباب تتضمن أنها تنطوي على إرهاب للفكر وحريته)، شدّد على التعدّد في المرجعيات، وربطها بحرية التعلّم (بالمعنى الفلسفي) وبإتاحة بنوك المعلومات للجمهور من دون قيود. ويمكن المضي خطوة صغيرة إلى الأمام، بالاشارة إلى نقد جاك دريدا للميتافيزيقا وتفكيكه لها، بمعنى نقضها. مرة أخرى، ليست الميتافيزيقا حكراً لا على الدين ولا على الشيوعية. ثمة “ميتافيزيقا” في قلب الفلسفة، كرّس لها دريدا أكثر من مؤلّف، ربما أبرزها “الصوت والظاهرة”، والثنائيات أبرز مظاهر ميتافيزيقا الفلسفة، إذا جازت هذه العبارة التي تكاد تموت من شدّة الابتسار. ما هي أقرب الصور في مجتمعاتنا المعاصرة الى هذه المقولات؟ هاكم صورة فرد مهموم بالمعرفة وبالحرية، يريد التمكن من أساليب العلوم، وخصوصاً ميله الى النقد (والنقض) كضرورة للتطور، ويسعى لإمتلاك الأدوات التي تمكّنه من المعرفة العلمية الموثوق بها من دون الاضطرار الى الوقوع في أسر مرجعية حصرية أو هيمنة لمؤسسة في عينها (الجامعة- الدولة) وسطوة لمصالح محددة في العلوم (الشركات مثلاً) وسيطرة لثقافة في عينها؟ الأرجح ان شبيبة اليوم تمثل هذه الصورة في أكثر من شكل، خصوصاً في ممارستها لـ”الجامعة” الافتراضية. ربما يصلح هذا السياق لنقاش ذلك الضرب من التعلّم، الذي يبني فيه الفرد مرجعية بحذر علمي وحرية واعية، لوصف التعلّم الافتراضي. لنترك المسميات، فهي من ضروب التصنيفات المعبرة عن سيطرة المرجعيات فكرياً وثقافياً. ربما كانت جامعة إفتراضية او منهجا أو مهارة أو غيرها. من يضمن ان تصمد هذه المصطلحات، بمعنى احتفاظها بمدلولاتها وظلالها وسطوتها، في سنوات الجمر المعلوماتي؟ وإذ يبدو هاري بوتر شديد القرب الى هذه الصورة لـ”المتعلّم الافتراضي”، تعطي الموسيقى مثالاً عن السعي الى الحرية لدى الجيل الالكتروني. استطراداً، يجدر التفكير في الترابط بين سيل المصطلحات التقنية عن الجامعة الافتراضية، “من دون حدود”، “بلا قاعات”، “من دون أساتذة”، “الكومبيوتر هو المختبر” وغيرها، وبين الحرب التي تتردد أصداؤها كل يوم عن الموسيقى والحصول عليها. إذ “تندب” شركات تحقق مئات ملايين الدولارات خسائرها المفترضة، بمعنى انها كانت لتحقق المزيد، كي تفرض قيودا صارمة وضيقة على الموسيقى وتداولها، وتذهب في تسليع الفن الى حدّ أقصى أيضاً. ولا يساوي ذلك سوى الحديث عن الملكية الفكرية، بالصورة التي تحمي مصالح الشركات العملاقة، على نحو ما قلق ليوتار في شأنه مبكراً.
تجربة الموسيقى: شباب اللهو الإلكتروني
في خريف 2002، تسجّل جيس جوردن، وهو شاب نيويوركي يقطن ضاحية أوشينسايد، كطالب في السنة الأولى في “معهد راينسلر للبوليتكنيك”، ومقره نيويورك أيضاً. وعلى رغم أنه لم يكن متخصصاً في برمجة الكومبيوتر، شرع جيس جوردن في نوع من اللهو الالكتروني المألوف لدى الشبيبة، بمعنى اللعب والملاعبة مع ما تصل إليه يداه عبر لوحة المفاتيح. وشرع في مداعبة غير هادفة (لم يكن يبحث عن ربح، ولا حاول صنع مشروع ولا تأسيس شركة) مع تقنيات محرك البحث المخصّص للشبكة الداخلية التي تربط كومبيوترات “معهد راينسلر”. ويعتبر هذا المعهد من أبرز مؤسسات بحوث التكنولوجيا في أميركا. ويمنح درجات تشمل الهندسة والمعلوماتية وتصميم المباني وغيرها. ويأتي 65 من طلبته من شريحة العشرة في المئة الأكثر تفوقاً من المرحلة الثانوية. وبذا، يشكل “معهد راينسلر” نموذجاً للمزيج من الموهبة والخبرة والقدرة على الخيال والمهارة في التنفيذ، وهي أشياء تميّز جيل العصر الرقمي وشبكاته الإلكترونية. وتربط الشبكة الداخلية في “معهد راينسلر”، كومبيوترات الطلبة والكليات والإدارة، بما يمكّن كلاً منهم من التخاطب مع الآخر. وكذلك تملك الشبكة الداخلية منفذاً إلى شبكة الإنترنت أيضاً، لكنها تعمل وكأنها مرشح (“فلتر”) في إتجاه وحيد، بحيث لا تصل محتويات الشبكة الداخلية إلى الانترنت، ولكنها تعطي طلبة المعهد مدخلاً إلى محتويات الانترنت، إضافة إلى ربطها “الحميم” بين أفراد “معهد راينسلر” كلّهم. ثمة قياس لمدى “حميمية” محرّكات البحث.
فمثلاً، نال محرك البحث “غوغل” شهرته من قدرته على نسج علاقة حميمة مع الجمهور، بالنظر إلى قدرته على تحسين عملية البحث على المعلومات على الشبكة. وكلما كانت محركات البحث أكثر تخصّصاً، تمكنت من أداء تلك الحميمية بصورة أقوى.
وتعطي الشبكات الداخلية للشركات نموذجاً واضحاً عن عمل محركات البحث الحميمة، لأنها تُصمّم بطريقة تجعل الموظفين قادرين على الوصول إلى محتويات الشركة. على غرارها، تسير محركات الجامعات. وتأتي قوة محركات البحث الداخلية من التقنية المستخدمة فيها. فمثلاً، صنعت شركة مايكروسوفت العملاقة (صاحبة نظام التشغيل “ويندوز” الذائع الصيت)، تقنية تمكن الجمهور من التشارك في الملفات، بحيث تسري المعلومات التي يضعها شخص في ملفه إلى الآخرين بسهولة. وركّز جيس جوردن جهده على الاستفادة من ميزة التشارك في الملفات، الموجود أصلاً في نظام “ويندوز” في الكومبيوتر. وبدا كأنه مراهق يلهو بسيارة العائلة، فيغيّر ويبدّل على أمل أن تتحسن سرعة السيارة، أو يعلو صوت الراديو فيها. واستطاع صنع محرك للبحث سهل الاستعمال، بحيث يتمكن الطلبة والإداريون من تبادل محتويات كومبيوتراتهم المرتبطة بالشبكة الداخلية، بما يتماشى مع رغباتهم وحاجاتهم. لكنه سرعان ما وجد نفسه يتخبط في المحاكم، بعدما وصل صيت محركه إلى شركات الموسيقى في أميركا، التي انقضّت عليه مطالبةً إياه بتعويضات تفوق 15 مليون دولار، بدعوى انه أعطى الناس أداة تمكّنهم من تبادل الأغاني، ما رأت فيه تلك الشركات انتهاكاً لحقوقها في الملكية الفكرية. يعرض البروفسور لورنس ليسغ، من جامعة ستانفورد (عمل مستشاراً للبيت الأبيض إبان إدارة الرئيس كلينتون)، تفاصيل قصة جيس باعتبارها نموذجاً للتناقض بين ميل الشباب إلى التعلم عبر العالم الافتراضي للإنترنت، وبين القوانين الراهنة للملكية الفكرية، التي تضع جدراناً عاتية في وجه التعلّم الإلكتروني الحرّ وإبداعاته. وترتكز حجج ليسغ، الذي أورد في كتابه “ثقافة حرة: مستقبل الإبداع وطبيعته”، ان العصر الرقمي له آفاقه المختلفة نوعياً، والمتسمة بتطلّب عال للحرية فردياً، بما فيها حرية التعلّم في الفضاء الافتراضي، ما يقتضي جعل مساحات ذلك الفضاء قابلة لحركة الذكاء الجماعي المتحرّك لأجيال الشباب. ويرى في التفسير الضيّق الذي تحاول الشركات فرضه على شباب الانترنت عائقاً أمام تحوّل تلك الشبكة جامعة افتراضية كبرى ينمو فيها الذكاء الجماعي (بصورة جماعية وإفرادية) ويجرب ويبتكر. في تتمة قصة جيس جوردن أن الشركات رفعت دعوى ضده، مع مجموعة شباب آخرين ممن يدرسون في أبرز جامعات أميركا مثل ستانفورد وماساتشوستس وكاليفورنيا وغيرها. وبلغت مجموع ما طالبت به تلك الشركات قرابة مئة مليار دولار (نعم، مئة ألف مليون دولار) من مجموعة طلبة في مستهل دراستهم الجامعية! لم تُدفع تلك المبالغ. عرضت الشركات على جوردن دفع مبلغ 12 ألف دولار (هو كل حسابه في البنك) مع توقيع إعتراف بأنه أخطأ في ما تلهّى به. قبل جوردن أن يدفع آخر فلس يملكه، لكنه لم يقبل أن يوقّع أن لهوه الإلكتروني كان خطأ، ببساطة لأنه لا يعتبره كذلك، كالكثير من أنداده من شباب أميركا راهناً. وصمد في وجه شركات الموسيقى. واستطاع أن يتجنّب كتابة الاعتراف، الذي كان من شأنه أن يدمر مستقبله المهني أيضاً. والنتيجة؟ تحوّل جوردن ناشطاً قوياً في “حركة الوصول المفتوح” و”حركة البرمجيات الحرّة”، كي يناوئ المفهوم الضيق الأفق للملكية الفكرية الذي تحاول الشركات العملاقة في المعلوماتية فرضه على الأجيال الإلكترونية. ويخلص ليسغ الى القول بأن الانترنت محكومة بأن تصبح جامعة، بل جامعات، افتراضية، ترفض الحدود بينها. ويدعو إلى أن يفهم ذلك بطريقة صحيحة، بمعنى أنه ليس دعوة لمجانية منفلتة ولا إلى فوضى تحرم المبدعين من التنعّم بعوائد عن ابتكاراتهم. ما يدعو إليه ليسغ وأمثاله من المفكرين الأميركيين، يتلخص في التوصّل إلى نوع من التوازن بين الملكية الفكرية للإبداع والحرية. واستخدام كلماته الأثيرة، يدعو ليسغ إلى تأسيس بنية قانونية للملكية الفكرية تعطي الأولوية للإبداع والابتكار ونشر المعرفة، بالضد من القانون الحاضر الذي يعطي الأولوية كلها لمصالح الشركات العملاقة. ولعل ما يورده ليسغ، وكذلك ما يدعو إليه، هو نموذج عن الوضع الراهن الذي يعيشه التعليم الإفتراضي، بمعنى أنه حاضر (ولم يعد طي المستقبل)، وأنه يحاول هزّ البنية التقليدية للثقافة السائدة، وأنه يحوّل الانترنت مساحة كبرى للتفاعل بين الذكاء الجماعي والفردي للبشر على أساس ان ذلك التفاعل هو نفسه أداة التعلّم الإفتراضي وركنه المكين أيضاً. عند التفكير في أشياء كهذه، يجدر قدح الذهن للجري بعيداً من التصنيفات الجامدة، التي ألفتها الثقافة الى الآن. كيف يمكن الحديث عن “جامعات من دون جدران” من دون حرية تحرّك الفكر نفسه؟ كيف يمكن الحديث عن “الانتقال إلى عصر المعلومات”، من دون نظرة جريئة إلى الاشكال اللانهائية للتعامل اليومي للشباب مع المعلومات؟ مجرد عينة من أسئلة لا تنتهي، تطرحها قصة جيس جوردن ومثيلاتها التي تتوالد يومياً على الإنترنت.
إطاحة المرجعية
سار بيار بورديو في المسار عينه الذي خطا فيه ليوتار ودريدا، مركّزاً سهام نقده على عقلانية ديكارت المملوءة بتقسيم أشياء العالم أصنافا وأنواعا صارمة الحدود. الى الآن مثلاً، يوصف التعريف العلمي بأنه “جامع إلى حدّ منهك، ومانع بشكل تبادلي”، بمعنى أنه يشمل كل ما يندرج تحته، ويقدر على تصنيف ما هو غير ذلك ثم رميه إلى خارج التصنيف. ليس مصادفة أن بورديو وضع كتاباً عن التعليم (“أسباب عملية”)، استهله بوصف تفكيره عن المُحاضِر الجامعي. سأل بورديو، ما الفارق بين من يقف في منصة الاستاذ ليلقي محاضرة في طلبة جامعيين، وبين الطلبة المتلقين؟ ورأى ان الفارق الأول، أن أحد الطرفين يقف “هنا” على المنصة، ما يعني إفتراضاً أنه مرجع حاسم في الحقائق، وبين الجالس “هناك” على المقاعد، الذي يفترض أنه يحاول الوصول إلى ما يلقى إليه من منصة الاستاذ.
إذاً، يمكن الخوض في نقاش الجامعة الافتراضية، مع تجاهل متعمد للجوانب التقنية، مثل أي الجامعات وضعت صفوفاً إفتراضية على الانترنت، كيف يكون الصف الافتراضي، ما هي الكومبيوترات المستعملة، كيف يجري الاتصال بين الاساتذة والطلبة، كيف التثبت من هويات الطرفين، كيف تجري الامتحانات…الخ. ليس ذلك مما يستضاء به. ربما الأجدى تذكر تفاصيل لا يعلو صوتها كثيراً، مثل القول إن الجامعات الافتراضية جاءت نتيجة “منطقية” لوجود الانترنت، الذي غيّر في طريقة اداء الأشياء كلها، ولم يكن التعليم استثناء. لنفكر في المرجعية، وهي أساس في المدرسة والثانوية والجامعة. أغلب الظن أن عالم الانترنت والكومبيوتر ينحاز الى مصلحة إطاحة المرجعية، خصوصاً الحصرية منها. لقد بعد الزمان فعلياً عن أوقات نُظِر فيها إلى ما يقول أرسطو، باعتباره يحسم كل قول. ثمة تعدد هائل في المرجعيات، بحكم ما يوفره الفضاء الافتراضي والكومبيوتر من معلومات. بديهي القول إن أشياء كثيرة انهارت بين الشباب والمدرسة، مثل معنى التعلّم. مثلاً، لماذا قد يُفرض على طالب حفظ تفاصيل الجغرافيا، إذا كان في وسع اسطوانة مدمجة ان تعطيه من المعلومات أضعاف ما رأت عينا استاذه؟ ربما الاقرب إلى الفطنة أن يتملك الطالب طرقاً للتعامل مع المعلومات والنصوص والصور، بما في ذلك المقارنة بينها ومضاهاتها. لا يجدي حفظ معلومات معينة، لمن يستطيع باستمرار ان يصل إلى المعلومات ويغرف منها. الارجح ان جيل الطلبة الالكتروني يهتم أيضاً بتملك التقنيات التي تمكنه من البحث عن المعلومات وتنقيتها ومقارنتها، أكثر من الأشياء التي درجت المدارس والجامعات على التركيز عليها. يجب القول ان تقسيم التعليم مراحل، وما يجب ان تكونه كل مرحلة، أصبح موضوعاً على محك صعب أيضاً. ففي عالم تندرج المعلوماتية والاتصالات الذكية في ثنايا نسيج تفاصيله، ما يستضاء به فعلياً هو المعرفة والقدرة عليها، وكذلك المهارة، بمعنى قدرة الفرد على التفكير في الأشياء وإنجازها فعلياً، وخصوصاً في إطار تداخل الذكاءين الجماعي والشخصي، في عالم الانترنت. لعل المثال عن التحوّل الجاري في الجامعات راهناً، تالياً التمهيد فعلياً لـ”الجامعات” (ربما حملت في المستقبل إسماً آخر، من يدري؟)، يأتي من معهد ماساتشوستس للتقنية. فقد خالف ذلك المعهد تراثاً مكيناً للجامعة، كمؤسسة ومفهوم، ووضع مقرراته على الانترنت، وبصورة مفتوحة. يمكن النظر إلى ذلك باعتباره انفتاحاً للتعليم على الذكاء الاجتماعي المتداخل لشبكة الانترنت. ليس بعيداً عنه، انه يصر على تدريب طلبته على نصب شبكات الـ”واي ماكس” (تعمل بموجات الراديو، لكنها تستطيع حمل محتويات الإنترنت ضمن مدى جغرافي محدد، كحال بث محطات الـ”أف أم”)، ما يفتح باباً لتفاعل مركب الذكاء على الانترنت، مع البعد الاتصالي للـ”واي ماكس”. وتعتبر تلك الطريقة أيضاً، من سبل نشر المعرفة ودعماً لمفهوم “الوصول المفتوح” أيضاً.
المحاكاة: نموذج الكومبيوتر
يقود الجامعة الافتراضية
تمارس الجامعة الافتراضية لعبة على الانترنت في موقع “فيرتشوال يو.أورغ” virtual-u.org. يستطيع الراغب في رؤية تصور تقني عن تلك الجامعة، الرجوع الى تلك اللعبة! إنها ترتكز على وجود تلك الجامعة، التي تحاكي منشأة جامعية حديثة، ذات قاعات ومختبرات ومكتبة وملاعب، افتراضية. ليس ذلك سوى مثال عن جسر قوي ممتد راهناً بين الألعاب الالكترونية ووقائع العصر الرقمي، وهذا أمر يطول شرحه أيضاً. ثمة جامعات افتراضية متعددة على الانترنت، ويصلح موقع “فرانك. أم تي أس يو. إديو” frank.mtsu.edu نموذجاً لموقع يهتم بنقاش المفاهيم الأساسية فيها، خصوصاً مفهوم “التعليم المتمركز على الدارس” Learner Centered Learning، الذي يستحضر الى الذاكرة نقاش ليوتار ودريدا وبورديو عن التعليم والجامعة. ويبدي موقع “فرانك. أم تي أس يو. إديو” اهتماماً فائقاً بالنقاش عن دور تقنية المحاكاة بالكومبيوتر Computer Simulation، باعتباره ركناً أساسياً في التعليم الافتراضي، بمعنى أنه الأداة المتينة لتحقيق مفهوم “التعليم المتمركز على الدارس”.
من الجلي ان النقاش عن الجامعة الإفتراضية يستدرج نقاشات واسعة عن الكتب والمكتبة الافتراضية، واستطراداً (ومجدداً) موضوع الملكية الفكرية، ما لا يتسع المقال لنقاشه. ويجب الاشارة الى ان مشاريع مثل “مكتبة غوغل” تلعب دوراً محورياً في رسم صورة ما يتوافر من علوم على الانترنت، يجدر نقاشها بتعمق في سياق نقاش الجامعة الافتراضية. ينطبق التطلّب عينه على مشاريع مثل “غوغل سكولار” Google Scholar، و”حوسبة الغمام” Cloud Computing، التي تهدد بإحكام قبضة الشركات على ما يملكه الذكاء الجماعي للبشر على الانترنت. تلك الأمور كلها تحتاج نقاشات متصلة بـ”الجامعة الافتراضية”.
يصعب اختتام المقال من دون ملامسة بسيطة لتقنية المحاكاة بالكومبيوتر. وترتكز التقنية على ربط سلاسل من المعادلات الرياضياتية بعضها بالبعض، بطريقة تجعلها تعبّر عن واقعة أو مسار أو معلومة محدّدة. لنفرض أن الأمر يتعلق بمزج افتراضي للهيدروجين مع الاوكسجين لإعطاء الماء. تقدّم المسألة الى الدارس مجسمة بصرياً، وبطريقة لا ينجح فيها إلا إذا مزج المقادير بصورة ملائمة، وضمن حرارة وضغط مناسبين. لهذا، توصف المحاكاة بأنها “المختبر في الكومبيوتر”. ويألف الجمهور الشبابي هذه التقنية التي تقود ألعاب قيادة السيارات والطائرات (لعبة “فلايت سيميولايتر” تقلّد الطيران، استعملت في تدريب إرهابيي “القاعدة” لتنفيذ هجمات 11/9) واليخوت وغيرها. تملك تلك التقنية ما يتطلبه الوصف العلمي في “الجمع والمنع”، كما ورد أعلاه. هنا يصل الكلام الى تناقض. من ناحية، تساهم هذه التقنية في نوع من تفكيك المرجعية. إذ تقدم بدائل من الاستاذ وقاعة الدراسة والمختبر. مع تعدد النماذج، تتفكك المرجعيات وتتذرى. من ناحية ثانية، تحفظ المحاكاة شروط العلم، إذ تفرض التقييد بالمعلومات، لكنها تتسم بالجمود التام. لا يمكن الخروج عما جرت برمجته في المحاكاة الافتراضية لأي شيء! إنه تراسل، لكنه شديد التقييد. وبذا، ثمة سيطرة خفية وطاغية: من يملك النماذج وصنعها (وكذلك ضمان رواجها وسيطرتها) يملك عقل العلم وتراسلاته في فضاء المعلوماتية الافتراضية وزمانها (مع التحفّظ عن مصطلحي زمان ومكان أيضاً). كيف يمكن ضمان شرط النقد والنقض في العلم، في ظل الجمود الهائل في المحاكاة الإفتراضية؟ ربما مثّل التمكّن من البرمجة، والتمكّن من صنع نماذجها (أفراد أو مجموعات أو غيرها). لكن كيف يصار الى المضاهاة والمقارنة والإقتراب أكثر من الواقع والمهارة في مراسلته؟ تلك من المعضلات تحفز الجامعة الافتراضية على التفكير فيها، من ناحية، لكنها تعيد الكلام الى أوله: الى صورة التنافس في مدرسة السحر في هاري بوتر. أليست قريبة من الإمساك بكرة الذهب المخاتلة والصعبة والمشتهاة أيضاً؟ ¶
النهار