صفحات أخرى

مكتبات دمشق.. قديمها يندثر وجديدها يبحث عن زائر

لم تستطع المكتبة العربية القديمة في سوق الحميدية بدمشق الصمود طويلاً، ولم تسعفها سمعتها العريقة وتاريخها القديم في إعطائها المزيد من الأمل بالبقاء ومجابهة الثورة التكنولوجية التي أفرزت الكتب الإلكترونية، فصاحبها حمدي عبيد ضجر من رؤية شباب اليوم مسلحين بشتى أنواع التقنيات الحديثة، لاسيما بعد أن رأى الغبار يحوم حول كتبه فقرر الذهاب بعيداً عن متاهة بيع الكتب، لينتهي به المطاف إلى أرشيف التاريخ.
اعتقدنا للوهلة الأولى أن ما آلت إليه المكتبة العربية ينحصر في إطار حالة عارضة ومؤقتة، لنراها اليوم تتجلى بأسى وحزن شديدين، فأهم المكتبات الدمشقية العريقة تواجه المصير نفسه، بعضها يغلق تحت وطأة التقنية الحديثة والبعض الآخر ينسحب من المشهد مفضلاً اختصاصاً جديداً أكثر مسايرة لمتطلبات مجتمع اليوم، وقليل منها يؤثر بيعها لصالح مطعم أو فندق أو مدرسة أو مؤسسة.
خسارات متوالية:
ظاهرة إغلاق المكتبات القديمة لم تقتصر على دمشق فقط وإنما تعدّى المشهد ليصل إلى باقي المحافظات، فمكتبات دير الزور القديمة والمشهورة والتي ساهمت في فترة من الفترات بإثارة حراك مجتمعي هام، وكان لها دور لا بأس به في إرساء الثقافة – وهذا مثبت تاريخياً، كمكتبة (خريطة) ومكتبة (اليوسف) وغيرها نراها الآن مغلقة وخاوية ومنعزلة، قد تآكلت لوحاتها وجلس أصحابها متقوقعين على أنفسهم ليدور حديثهم حول معاناتهم من عدم زيارة أحد لمكتباتهم، وأحياناً يحتالون على ذاتهم بتعزية أنفسهم بأنّ للجيل توجهاته واهتماماته المختلفة، وهذا حقهم المشروع.
تعيش المكتبات في دمشق واقعاً لا تحسد عليه، فهي وجدت نفسها أمام حل لابد منه وهو الإغلاق كـ(مكتبة ميسلون ـ أطلس ـ العائلة ـ المدى.. إلخ) كانت تعاني مثل هذه المكتبات قلة الزوار وندرة الرواد، أولاً، وكذلك من الخسارة المتلاحقة ثانياً، كما حال مكتبة (ميسلون) التي خسرت في أشهر قليلة ما يقارب الـ(600) ألف ليرة سوريّة فارتأى صاحبها بيعها ونقل جزء منها إلى خارج العاصمة دمشق (النشابية) علماً أنها استطاعت على مدار أعوام مضت كسب ثقة قرائها وجمهورها، ويقول مسؤول في المكتبة: (توالت خسارات المكتبة والآن نقلت مقرها الكائن في وسط المدينة مقابل فندق الشام إلى آخر ويتم تصفية الكتب).
من الثقافة إلى الطبخ:
وعلى صعيد آخر لم تستطع تلك المكتبات حصر بيعها بالكتب الثقافية الجادة والتنويرية فامتد نشاطها إلى الكتب الترفيهية وكتب الأبراج والطبخ والفن والتكنولوجيا والألعاب والحظ، حتى امتلأت رفوفها وواجهاتها بكتب سريعة الهضم كما يسميها صاحب مكتبة النوري: (الكثير من المكتبات لم تستمر بالوظيفة نفسها التي هي بيع كتب ذات توجه ثقافي معين كالكتب السياسية والعلمانية والتنويرية والأدبية، فتراها قررت بيع شتى أنواع الكتب بما فيها الكتب المدرسية والقرطاسية والصحف والمجلات الفنية).
في مرحلة سابقة نشطت المكتبات وبات لمشاركاتها في المعارض الدولية والمحلية والعربية أهمية كبيرة، وليس هذا في المناسبات فحسب كذلك في ذاكرة الشارع السوري وإلا لما بقي اسمها محفوراً في ذهن الأجيال وفي مقدمتها الجيل الجديد.
فمن لا يعرف – مثلاً – مكتبة (الزهراء) أو مكتبة (العائلة) أو مكتبة (أطس)، حتى أن مفاجأة ما ذكر لي بائع اليانصيب لدى سؤاله عن المقّر السابق لمكتبة أطلس: (لم تعد اليوم مكتبة إنها مجرد مخزن للكتب تديره حالياً ابنة صاحب المكتبة الأول).
نعم تحولتّ أقدم مكتبة في دمشق إلى مخزن تسويق كتب، وتحولّت مكتبة العائلة إلى صيدلية بعد أن كتب تاريخها بأحرف من نور رسخت في البال طويلاً، دفعت بروادها إلى الاستغناء عن دور نشر عربية أخرى.
وهو حال مكتبة الزهراء التي اختصت بنوع معين من الكتب وتميزّت به على مدار سنوات، نجد دورها الآن قد تقلص وتراجع أداؤها لصالح الكتب الرخيصة والاستهلاكية، حتى أنها ربما تقدم على بيع القرطاسية بعد أن اختصت بكتب المذكرات السياسية النادرة والقديمة.
تصمد مكتبة (النوري) في وجه إغراءات العصر الجديد وترفض تبني روحه ونجحت في الحفاظ على هويتها وأيضاً روادها، فاليوم تجد من يقبل بنهم على شراء الكتب السياسة الجديدة والمجتمع الدولي الجديد وكتب التدخل الدولي في الشرق الأوسط، وهي تفرّدت بتجربتها بعيداً عن التحول الفظ إلى كتب الأبراج والطبخ ووالنجوم والتنجيم، والحال ينسحب على كتب مكتبة (نوبل) النوعية التي لا تزال قيد التداول وسط زخم الحياة العصرية التي جعلت أثمن كتاب بمتناول اليد والحاسب.
المكتبات بحلة جديدة:
ربما لم يعد القرن الحالي يقبل بمظهر مكتبة ذات رفوف أنيقة وكتب قيّمة تركن إلى جانب حائط وسط كل منزل، لكنه يسمح بشكل أو بآخر بظهور شكل جديد للمكتبات تزاوج بين روح العصر وتراثه، مكتبة تمتلئ بالكتب إلى جانب مقهى إنترنيت ووسط أجهزة الكمبيوتر يجلس عليها أبناء الثورة الرقمية يطالعون الكتب بمساعدة سماعة (الآيبود) ومع كأس المشروب الساخن وأغاني القرص المضغوط.
كما حال مكتبات كثيرة انتشرت هنا وهناك.
مجلة أبيض واسود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى