شيرين عبادي تروي يوميات الثورة الخمينية في إيران
حين صار الخبل رياضة للفرجة وجماليات الموت عبادة قومية في طهران
محمد أبي سمرا
في مقدمة كتاب مذكراتها، روت شيرين عبادي – القاضية المقصية عن عملها في محكمة طهران، والناشطة الايرانية في الدفاع عن حقوق ضحايا العنف في محاكم بلدها، وحائزة جائزة نوبل للسلام للعام 2003 – واقعة مرعبة تعتبرها الأشد هولا في حياتها المهنية. ففي خريف العام 2000، وفيما كانت مكبّة على قراءة ملف قضائي عن عمليات القتل العمد التي وقعت في اواخر تسعينات القرن العشرين وقضت على حياة عشرات المثقفين الايرانيين، عثرت في صفحة من محضر على محادثة بين وزير في الحكومة الايرانية وأحد عناصر فرق الموت، وقرأت الجملة الآتية: الشخص التالي الذي سيقتل هو شيرين عبادي. ظنت للحظة انها اخطأت القراءة، فأعادت قراءة الصفحة من بدايتها، ثم السطر المدون فيه إسمها وقرار قتلها، فجف حلقها وغطت غشاوة الكلمات المطبوعة امامها. في الغرفة كانت تجلس الى جانبها امرأة هي باراستو فوروهار التي كان والداها اول من قتلا طعناً ثم قطعت جثتاهما بوحشية في بيتهما بطهران منتصف الليل.
تابعت القراءة مع باراستو، فقرأت كيف ذهب من يفترض ان يكون قاتلها، الى وزير الاتصالات طالباً منه الإذن لتنفيذ قرار القتل، فأجابه الوزير أن ذلك لن يكون في شهر رمضان، بل في أي وقت يليه. تذرع المرتزق بان المثقفين، وعبادي منهم، قد تخلوا عن الله، مما يجعل قتلهم واجباً دينياً وحلالا ومباحاً من رب العالمين.
بعد ظهر ذلك النهار، حين وصلت عبادي الى منزلها، اسرعت في الدخول وخلعت ملابسها وظلت واقفة تحت الدوش ساعة كاملة تاركة الماء البارد يتدفق عليها لتغسل نجس الملفات الذي تسلل الى ما تحت أظافرها. بعد العشاء أوت ابنتاها الى سريريهما، وقالت لزوجها: لقد حصل معي امر مثير للانتباه في العمل اليوم.
كتاب عبادي صدر باللغة الانكليزية عام 2006. وساعد الكاتبة في انجازه ازاد معاوني. طبعته العربية صدرت مطلع العام الحالي عن “دار الساقي” تحت عنوان “إيران تستيقظ: مذكرات الثورة والأمل”. قام بالترجمة الزميل حسام عيتاني.
وكانت “دار الجمل” أصدرت في العام الماضي ترجمة لكتاب الكاتبة والجامعية الايرانية آذر نفيسي، “أن تقرأ لوليتا في طهران: سيرة في كتاب”. ونفيسي أستاذة في جامعة جونزهوبكنز. وكانت استاذة الأدب الانكليزي في جامعة طهران، قبل فصلها منها، بسبب رفضها ارتداء الحجاب. فغادرت بلادها العام 1997 الى الولايات المتحدة. قامت بترجمة الكتاب ريم قيس كبة. وهو يروي سيرا لطالبات نفيسي اللواتي قررت دعوتهن الى منزلها صباح كل خميس لمتابعة المناقشة والتدريس لمدة سنتين، بعد فصلها من الجامعة.
في ليلة مغادرتها طهران، جاءت طالباتها البيتيات السبع لوداعها في بيتها. وقفت وطالباتها أمام حائط عار في البيت لالتقاط صورتين فوتوغرافيتين وداعيتين لهن. في الاولى سبع نساء تقفن امام حائط أبيض في ثيابهن السود وفقاً لقانون البلاد. كل شيء فيهن مغطى ما خلا دوائر الوجوه والأيدي. في الصورة الثانية المجموعة نفسها أمام الحائط نفسه، لكن بلا أغطية. فتنداح الألوان في الصورة وتميز الفتيات السبع. لكل فتاة لون وشكل وأسلوب في تصفيف شعرها. حتى الفتاتان اللتان لم تخلعا غطاء الرأس، لم تتشابه ملامحهما في هذه الصورة.
كتابان لايرانيتين عن وقائع حياتهما ويومياتهما في ظل النظام الاسلامي الخميني. نترك هنا لشيرين عبادي ان تروي مقتطفات من مذكراتها التي تتناول الحقبة الاولى من الثورة التي جذبتها تظاهراتها المليونية الى الشارع لاسقاط نظام الشاه الامبراطوري، ثم يوميات الحرب العراقية – الايرانية، فما كان من الثورة التي أكلت أبناءها، إلا أن أقصتها، فعملت على الدفاع عن الضحايا، لتقرأ اسمها مدرجاً في احدى لوائح فرق القتل الثوري.
هنا مقتطفات من يوميات شيرين عبادي.
– 1 –
لقد نومتني الثورة المتصاعدة تنويماً مغناطيسيا في بداياتها، بيد ان الأكثر إثارة للعجب كان حالات الارتداد والتحولات المفاجئة في الولاءات، بعد انتصار الثورة. في تلك الأيام، تجلت في كل مكان الانتهازية كطبيعة بشرية أساسية، والرغبة في خلع إيديولوجيا وارتداء اخرى كما لو كانت معطفاً. راقبت القضاة وطاقم العمل في الوزارة، اولئك الذين كانوا يتميزون بسمعة سيئة لتعاونهم مع نظام الشاه، وخصوصاً مع “السافاك” (المخابرات)، وعندما بات واضحاً ان الثورة لا يمكن ان تتراجع الى الوراء، وأصبحت المسيرات ضخمة ويسير فيها مليونا انسان وتستمر ساعات قبل أن تنتهي، انضموا الى صفوف الثوار.
في 16 كانون الثاني من العام 1979، وهو يوم تميز بصقيع شديد، عاد شاه ايران حاملا معه صندوقاً من تراب ايران. وفي الاول من شباط ظهر آية الله الخميني بحاجبيه الثقيلين ووجهه العابس من باب طائرة الخطوط الجوية الفرنسية. هبط الإمام ببطء الى مدرج مطار مهراباد، منهيا منفاه بعد 16 يوما من بداية نفي الشاه. جلست أسرتي برمتها، اضافة الى بعض الأصدقاء، مسمرين امام شاشة التلفزيون في غرفة المعيشة نراقب المشهد الذي زاد من اهميته وضخامته كونه كان من المشاهد الأولى التي نراها بالألوان.
سئل الخميني: كيف تشعر اليوم بعيد عودتك الى ايران؟ ما من شعور لدي، أجاب من دون أي تعبير. هتف صديق: يا له من سؤال سخيف! إنه قائد ثورة وليس نجماً سينمائياً على سجادة حمراء. قاطعته زوجته قائلة: لكن كيف يمكن لشخص أن يمضي 14 عاماً في المنفى ويعود في ظل الظروف غير المعقولة ثم يقول: ما من شعور لدي؟!.
– 2 –
كانت الدعوة الى وضع غطاء الرأس أول تحذير من ان الثورة هذه قد تأكل أخواتها، وهو الاسم الذي كانت النساء تطلقنه على بعضهن أثناء تحركاتهن للإطاحة بالشاه. بعد أيام قليلة من انتصار الثورة عين رجل يدعى فتح الله بني صدر مشرفاً موقتاً على وزارة العدل. بعد ظهيرة منعشة ومشمسة دخلنا الى مكتبه لنهنئه. حين وقعت عينا بني صدر عليّ ظننت انه سيشكرني، لكنه قال: ألا تعتقدين أنه أنطلاقاً من الاحترام لقائدنا المحبوب الإمام الخميني الذي أنعم الله على إيران بعودته، من الأفضل أن تغطي شعرك؟ احسست بالارتعاش. بعد انتفاضة شعبية عظيمة استبدلت ملكية تعود الى العصور القديمة بجمهورية حديثة، ها هو المشرف الجديد على العدالة يتحدث عن الشعر! قلت: لم أضع غطاء للرأس في حياتي قط، وسيكون من النفاق أن ابدأ ذلك الآن. قال وكأنه حلّ ببساطة معضلتي: إذاً لا تكوني منافقة وضعيه عن أيمان.
الشوارع التي تخترق طهران (…) أُبدلت أسماؤها بأسماء الأئمة الشيعة ورجال الدين الشهداء وأبطال نضال العالم الثالث ضد الامبريالية. فيما كانت سيارة الأجرة التي كنت استقلها تقترب بطيئاً من المباني الحكومية في وسط طهران، لاحظت ان الصف المعتاد من سيارات الوزارة (العدل)، لم يعد موجوداً، وان صفاً طويلاً من الدراجات النارية يقف مكان السيارات. في قاعة المحكمة ومكاتب الوزارة لم يعد الرجال يرتدون بدلات وربطات عنق، بل سراويل فضفاضة وقمصاناً من دون ياقات، الكثير منها متجعد، وبعضها ملوث بالبقع. حتى أنفي التقط نفحة التغيير، فقد غابت رائحة الكولونيا أو العطر الخفيفة التي كانت تنتشر في الاروقة، خصوصاً عند الصباح. عندما التقيت واحدة من زميلاتي في القاعة، همست لها بما اشعر به من صدمة حيال التحولات السريعة، لأن طاقم الوزارة يقوم بتمرين بالملابس الكاملة لمسرحية عن الفقر في المدينة. كان الجميع في المناخ الجديد يأملون ان يبدوا فقراء، واصبح ارتداء الثياب المتسخة علامة على النزاهة السياسية واشارة الى تعاطف مرتدينها مع المستضعفين.
ما هذه المقاعد! هذه العبارة كانت الصيحة الشهيرة التي اطلقها آية الله طالقاني، لدى وصوله الى مبنى مجلس الشيوخ لإعادة كتابة الدستور، ومشاهدته المقاعد المزركشة… وطوال ايام، ظل آية الله ومجموعته يخطون الدستور جالسين القرفصاء على الارض، الى ان استسلموا وجلسوا على المقاعد الفاسدة.
-3-
انتشر في تلك الحقبة جو مسرحي حقيقي، لكن الشائعات المنتشرة كالدوامات في الجسم القضائي كانت تشتت انتباهي. حاولت ساخرة ان اقلل من اهمية الشائعة التي انتشرت في القاعات عن ان الاسلام يمنع النساء من تولي منصب القضاء. كنت القاضية الأكثر تميزاً في محكمة طهران. مقالاتي المنشورة في دعم الثورة، كانت قد منحتني بعض الشهرة في الحيز العام، فاعتقدت انهم لن يتعرضوا لي. ذات يوم استدعاني وزير العدل الموقت الذي كان قد دعاني الى إرتداء الحجاب. اقترح ان ينقلني الى مكتب التحقيقات في الوزارة. كان ذلك عملاً مرموقاً لو لم اشعر بقلق من ان تكون لإبعادي عن منصب القاضية انعكاسات، منها ان يفترض الناس ان سلك القضاء بات مقفلاً امام النساء. ولما قلت “لا” حذرني الوزير من ان لجنة تطهير قد تتشكل، ويمكن ان اتعرض لخفض رتبتي الى درجة مساعد قضائي. قلت له: لن أتنحى بملء ارادتي.
-4-
في تشرين الثاني 1979، كنت حاملاً في شهري الخامس عندما استولت مجموعة تسمي نفسها “اتباع خط الإمام الخميني” على السفارة الاميركية بطهران، وأحتجزت طاقم السفارة رهائن. كانوا مجرد فتية، ولو رأيتم وجوههم في نشرات الاخبار المسائية للاحظتم انهم لا يتجاوزون العشرين من أعمارهم.
توقعت – يا لسذاجتي – ان يقوم الإمام الخميني بإصدار أوامره الى هؤلاء الفتية بإطلاق الرهائن. وعندما ابدى بهجته باحتلال السفارة معتبراً أنه “ثورة ثانية” لم يجرؤ احد على معارضته علناً. لقد عارض الكثير من الايرانيين معارضة عميقة احتجاز الرهائن، لكنهم لم يتفوهوا بكلمة خارج بيوتهم، خشية التعرض للاتهام بأنهم عملاء اميركيون ويحكم عليهم بالسجن. وسرعان ما اصبح احتلال السفارة الدراما المركزية للثورة. أعلن الطلاب أنهم نبشوا من تحت الارض وثائق استخبارية سرية، فراحوا يصدرون البيانات التي تتضمن اسماء ايرانيين زعم الطلاب انهم كانوا يتجسسون لحساب الحكومة الاميركية. مع كل بيان جديد كان الطلاب محتجزو الرهائن يوقّعون عملياً على مذكرات بإعدام المتعاملين المزعومين. والتف الناس حول السفارة متبارين مهتاجين هاتفين “الموت لأميركا”. باعة الطعام والشمندر المسلوق والذرة المشوية والمشروبات الغازية، نشروا عرباتهم صفوفاً في الشوارع المحيطة بالسفارة، كما لو كانت ارضاً مخصصة للنزهات. وعندما عرضت عليَّ صديقتي الذهاب الى المكان، قلت: انني آسفة، لست مهتمة بالخبل كرياضة معروضة للفرجة. ليلة بعد ليلة كان التلفزيون يبث البيانات الصحافية التي يصدرها فتيان السفارة ومشاهد الحشود حولها، فدام هذا الاحتفال 444 يوماً.
ولاحقت ايران الثورية الاميركيين في بيروت التي كانت تعمها الفوضى في مطلع الثمانينات من القرن العشرين. ارسلت متشددين وحراس الثورة الى لبنان – وهو بلد صغير على المتوسط ابتلي بصراع اهلي – لتأسيس المجموعة الشيعية الملتزمة “حزب الله”. وفي ربيع العام 1983 قاد مفجر انتحاري شاحنة صغيرة محملة بالمتفجرات الى داخل السفارة الاميركية في بيروت، فقتل 63 شخصاً. وفي خريف العام نفسه قتل بتفجير انتحاري آخر 241 جندياً من مشاة البحرية الاميركية في بيروت. وبعد نجاحهم في تقديم السيارات المفخخة التي يقودها انتحاريون، باشر المتشددون الاسلاميون الذين يقال انهم يتلقون دعماً من ايران، في خطف الاميركيين في لبنان. كان الخاطفون على صلة بالحرس الثوري الايراني.
مرّ العديد من محتجزي الرهائن في السفارة بطهران، في عملية تحوّل فكري في تسعينات القرن العشرين. استنتجوا ان الثورة انحرفت عن اتجاهها الاصلي، ولم تعد ترى مثلها العليا في الحرية والاستقلال، وباتت في غربة عن الايرانيين بسبب تفشي الفساد والإذلال. وعندما فتح مجمع السفارة الاميركية بطهران للجمهور للمرة الاولى في العام 2001، بمعرض مروع مخصص لـ”الجرائم الاميركية في انحاء العالم”، رفض محتجزو الرهائن السابقون الحضور.
-5-
في اليوم الأخير من العام 1979، عقد الاجتماع الذي جردت فيه من منصبي كقاضية، في غرفة كبيرة في محكمة طهران. الرجال في لجنة التطهير لم يكلفوا انفسهم ان يقدموا لي مقعداً. جلسوا وراء منضدة خشبية. اثنان منهم كانا من القضاة الذين اعرفهم حق المعرفة. احدهما كان مساعداً اصغر لي. بقيت واقفة في عناد ويداي ممسكتان بمسند كرسي. كنت حاملاً في الشهر السادس. التقط احدهم ورقة ورماها بفظاظة نحوي وقال في غلظة: توجهي الى مكتب البحوث عندما تنتهي اجازتك. هذه العبارة تعني ان رتبتي قد خفضت الى موظفة مكتبية او مسيرة معاملات او طابعة على الآلة الكاتبة.
لم ينبس احد ببنت شفة. وقال رئيس لجنة التطهير: تريد ان تبدأ إجازتها من دون ان تذهب الى مكتب البحوث. ادركت انه يتعمد استفزازي. مررت يدي على بطني المنتفخة وقلت ان اجازة الأمومة يضمنها قانون العمل.
في تلك اللحظة وقع ما لم يكن ليخطر في بال. بدأوا يتكلمون عن القاضيات كما لو لم أكن موجودة في الغرفة. قال احدهم: إنهن غير منظمات. تمتم الثاني: دائمات الشرود. قال الثالث موافقاً: ينقصهن الدافع الى حد بعيد، واضح تماماً انهن لا يردن حتى مجرد العمل.
حتى اليوم، عندما افكر في ذلك الاجتماع او اروي قصته، لا
استطيع تذكّر كيف عدت الى البيت. لعلي مشيت، لأنني حين ظهرت في البيت، بدا واضحاً انني قد وقعت في الطريق، رغم عدم تذكري انني وقعت. لا اتذكر عبوري التقاطعات المزدحمة او سماعي زمامير السيارات اللاهثة، ولا اذكر حتى انني فتحت باب البيت بمفتاحي، بل قرعت الجرس ووقفت في المدخل. وجدتني شقيقتي هناك شاحبة وما من تعبير على وجهي. كنت ألهث فيما ينزف دم من ساقي وسروالي ممزق. نظرت الى الاسفل، فرأيت جرحاً أحمر تحت ركبتي. حضنتني شقيقتي، وحينذاك فقط رحت انتحب.
-6-
رفضت البقاء في البيت والتخلي عن كياني في الوزارة. تماماً في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، تقدمت من مكتب البحوث الذي نقلت اليه مجللة بالعار، وأعلنت انني ارفض القيام بأي عمل، كنوع من إظهار الاحتجاج. كان رئيس مكتب البحوث يعرفني، فتفهم رفضي وتركني وشأني. رحت اتوجه كل يوم الى المكتب واجلس في غرفتي ببساطة. الساعات تحولت اياماً والأيام اسابيع.
بعد ظهيرة احد الايام، جاءت مجموعة من الناس الى الوزارة واتخذت موقعاً لها خارج مكتب بني صدر الذي عيّن مدعياً عاما. كانت المجموعة تنتمي الى “انجمان اسلامي”، وهي واحدة من الجمعيات الاسلامية المتكاثرة كالفطر والتي اخذت على عاتقها حماية نقاء الثورة. حين وصل بني صدر منعوه من دخول مكتبه. تجادلوا معه صاخبين، وقالوا له انه ليس ثورياً اسلامياً صادقا. ابلغوه الرسالة نفسها التي ابلغني اياها عندما طلب مني تغطية شعري مراعاة لآية الله الخميني.
خرج بني صدر متشامخا من الوزارة. بعدما اصبح اخوه (ابو الحسن) رئيساً للجمهورية، دعاني لأعمل مستشارة قانونية في مكتب الرئيس. كان عرضا مغرياً ويخلصني من جلوسي يوما بعد يوم في المكتب محدقة في الجدار، لكنني رفضت العرض. لقد رأيت درجة هشاشة التحالفات السياسية، وكيف يعيد الثوريون المزاجيون اختراع معاييرهم كل يوم. في يوم يلقي احدهم المحاضرات على الآخرين عن الروح الثورية، وفي اليوم التالي يلقى به خارج مكتبه. لم اكن مخطئة. فالرجل الذي قبل العرض بدلاً مني مستشاراً لبني صدر اعدم رميا بالرصاص عندما اطيح الرئيس ابو الحسن بني صدر من منصبه.
-7-
الحرب التي شنها صدام حسين على ايران في العام 1980، حدت من مشاعر الاستياء الشعبية حيال الثورة، من دون ان يخمد الاضطهاد السياسي الخانق للفترة الاولى من الثورة. لا زلنا نستيقظ وصحف الصباح تغص بلوائح طويلة بأسماء الذين أعدموا من المسؤولين في النظام القديم وباتوا يسمون المناهضين للثورة، واعدموا رميا بالرصاص او شنقاً. كنت اقلب الصفحات المليئة احيانا بصور مرعبة لمشانق وجثث وارتعد اشمئزازا حيال المحاكمات الصورية السرية التي سبقت الاعدامات. حتى بيننا وبين انفسنا لم يكن يوجد حيز ولو هامشي للتعبير عن غضبنا. كنا نمتنع عن اظهار يأسنا من سفك الدماء. مزاجنا بعد الثورة انقلب انقلابا لا رجعة عنه نحو السوداوية.
في احد الايام حملت صحيفة واخرجت آلة حاسبة، واعلنت: بناء على عدد الاشخاص الذين يعدمون شهريا، واذا ضربنا المعدل بعدد سكان ايران، فان قانون الاحتمالات ينبئنا انه في غضون 7 اعوام و10 اشهر و26 يوما، سيأتي دورنا. في هذه السرعة كانت تنشر لوائح الموت. اصبحت هذه مزحة سائدة بيننا.
الجلسات المنظمة التي كان يعقدها أناس متشابهو الاهتمامات لمناقشة مسائل الأدب والاخبار، رحنا نفتتحها بعدٍ عكسي: بقي لنا كذا وكذا من الايام. كم يبدو هذا مخيفاً عندما ننظر اليه نظرة استعادية؟ لكن ما البديل الذي كان متاحاً لنا؟ كنا نعتقد بأن علينا دعم الحكومة، لأن ذلك هو الخيار الوحيد المتاح فيما نحن منخرطون في حرب ضد طاغية متوحش. إن ثورة آية الله الخميني لم توحد الايرانيين، لكن الحرب مع عراق صدام حسين فرضت عليهم، لدواعي الحاجة، توافقاً متضارباً.
تاريخ الثورة الايرانية وحربها مع عراق صدام حسين متضافران على نحو لا تنفصم عراه. فالثورة صاغت ايديولوجيتها ورمزيتها في غمار الحرب. ولإلهام فرق الشبان وحضهم على التوجه الى الجبهة مع وعد بعبور سريع الى الجنة، ظهرت عبادة الشهادة وتمجيد التضحية البشرية في سبيل الاسلام. وراح التلفزيون يعرض كل ليلة صور المجندين الشبان معتمرين عصبات رأس حمراء وتحوط أعناقهم مفاتيح الجنة، فيما هم يستقلون الحافلات نحو ميادين القتال العراقية. كثيرون منهم كانوا في أعوام المراهقة، ويحملون نسخاً صغيرة من القرآن الى جانب صور الإمام الخميني والإمام علي. استخدمت القيادة الايرانية المجندين الشبان كاسحات الغام بشرية، إذ كانت ترسلهم عبر السهول موجات تلو موجات لتطهير حقول الالغام في ميدان القتال أمام الجنود في المؤخرة.
أصبح الدفاع عن الوطن مقدساً. وحملت العمليات الحربية أسماء من نوع “الله أكبر” و”الإمام المهدي”، وسميت القواعد العسكرية “كربلاء” و”القدس”. وأعلمنا الحرس الثوري أن الغرب رفض بيعه حتى الاسلاك الشائكة والبنادق، وقال آية الله الخميني إن الله يقود الحرب.
نحن الذين لا زالت جروحنا طرية بسبب ثورة عنيفة، نحينا جانباً أحزاننا وشعورنا بالتعرض للخيانة. والصور التي يعرضها التلفزيون كل ليلة أضرمت مشاعرنا القومية. كيف يمكن وصف الانصهار التدريجي للشهادة في حياتنا؟ كيف يمكن رواية وقائع العملية البطيئة التي جعلت الموت والعزاء والحزن تهيمن على كل شيء: الفضاء العام والطقوس وملخصات السير الشخصية والصحف والتلفزة؟ في ذلك الزمن لم يبدُ غريباً أو مفرطاً شعور الحماسة الاحتفالية بالشهادة وجماليات الموت.
كان مكتبي في الوزارة يقع قبالة باحة تتجمع فيها الخبازات الجماعية لقتلى الحرب. في واحدة من الخبازات التي بدأت مع تراتيل صلاة الفجر من مكبرات الصوت، جرى حمل حوالى 20 نعشاً تلفها الاعلام الايرانية. كان القتلى يافعين الى حد جعل اجدادهم الحاضرين المتقدمين في السن، يقاربون بين ارجلهم للبقاء واقفين. حين اطلقت مكبرات الصوت نشيد الجنازة خبأت وجهي وأدرته صوب الحائط كي تنسكب دموعي فتراني سكرتيرتي. هذا المشهد اخذ يتكرر يوميا تقريبا. لم اعد قادرة على التحمل، فأغلقت النوافذ، كي يتحطم النحيب النفاذ على الزجاج. كنت اتصبب عرقا في الصيف مفضلة تحمل الحرارة جراء غطاء الرأس الذي اضعه والزي الاسلامي الذي ارتديه، على سماع العويل منبعثا من الاسفل.